على رغم ان مسألة الوجود كانت قد احتلت مكانة هامة في تاريخ ابحاث ما بعد الطبيعة الفلسفية، الا اننا نجد اشارات عديدة في كتاب مارتن هايدغر "الوجود والزمن" Sein und Zeit تفيد بأن تاريخ فلسفة ما بعد الطبيعة برمته ما هو الا تاريخ نسيان لمسألة الوجود. فحسبما يشير هايدغر، ويردد من ورائه اتباع مدرسته الفكرية، فإن مسألة الوجود بقيت مسألة مختزلة ومنسية منذ أيام ارسطوطاليس الى قرننا هذا. ولكن من المعروف أن ارسطوطاليس كان قد اسند العديد من المجلدات في معالجته لمسألة الوجود، الا ان مثل هذه المعالجة بقيت غير كافية بنظر هايدغر كونها تناولت مسألة الوجود من باب التكلم بالجوهر Ousia والماهيات غافلة بذلك عن تناول مسألة الوجود من باب التكلم بالوجود بدلاً من التكلم بما هو مغاير. وتحول الوجود الى ماهية يمر عبر مسيرة من الحركة الدياليكتية في المنطق يغدو الوجود فيها مترابطاً مع ما هو مغاير له الى ان يصبح الوجود هذا مجرد ماهية. وبينما يتقدم هايدغر بنقده الشهير واللاذع لتاريخ فلسفة ما بعد الطبيعة عند امثال هؤلاء الفلاسفة نجده يضع الأسس لتجديد فلسفة الوجود ولتوكيد مكانتها في المعالجات الفلسفية وفي ابحاث ما بعد الطبيعة تحديداً. وهايدغر يعتمد في فلسفته على مناهج البحث الظواهراتية المستندة الى الوقوف على معالجة الذات الانسانية في خوضها بمعالجة سؤال الوجود من باب تحليل هذه الذات عبر التكلم بطبيعة الزمن وبالدور الذي يلعبه الموت في ابراز اصالة الذات. والبارز في فلسفة هايدغر يشتمل على عدم تقبل فصل الوجود عن الموجودات من باب التكلم بالاجناس والأنواع. فإن الوجود عند هايدغر ليس على نفس المرتبة مع الموجودات ولذلك لا يصح القول بأن الوجود والموجودات جنسان مغايران يقعان تحت نوع واحد وشامل. وفلسفة هايدغر تتمحور حول معالجة مثل هذه المسألة الصعبة والخطيرة. ولكن على رغم ان قراءة هايدغر لتاريخ فلسفة ما بعد الطبيعة تقدم خدمة جلية للفلسفة ولمعالجة مسألة الوجود، إلا أن هذه القراءة تبقى غير كاملة ووافية وذلك لأنها لا تتناول الانجازات المهمة التي نجدها في كتابات فلاسفة هم في مقام الحسين ابن سينا، أو على مرتبة موازية لمقامات اللاحقين ممن تأثروا بمدرسة الشيخ الرئيس كما هي الحال مع شهاب الدين يحيى سهروردي ونصير الدين الطوسي وصدر الدين الشيرازي. فمن المتعارف عليه بأن مسألة الوجود كانت قد احتلت مكانة مهمة في كتابات ابن سينا الفلسفية وبالأخص تلك التي تعالج مسائل ما بعد الطبيعة في كل من كتاب الشفاء، وكتاب النجاة وكتاب الاشارات والتنبيهات. الا ان معالجة ابن سينا لمسائل ما بعد الطبيعة تمر ايضاً بمعالجاته المنطقية كما هو الحال دائماً عند اعلام الفلسفة عامة. فإبن سينا كان قد تناول مسألة الوجود عبر المرور بأبحاث منطقية تتناول شروط الامكان والوجوب والامتناع والتي كان لها مؤثراتها المهمة في معالجة مسائل ما بعد الطبيعة الناظرة في شؤون ممكن الوجود، وممتنع الوجود وواجب الوجود. وعلى رغم ان العديد من البحاثة قد درجوا على دراسة ابن سينا من منطلق علاقته بالفكر الاغريقي الأرسطي الا اننا نجد عند الشيخ الرئيس ممكنات فكرية تدفع بفلسفته بعيداً عن الأصول الأرسطية من جهة والأصول النيو - افلاطونية Neoplatonic من جهة اخرى. ففي معالجة ابن سينا لمسألة الوجود نجد عناصر فلسفية حديثة تتناول مسألة الوجود من باب البحث الظواهراتي الفينومينولوجي Phenomenology الذي يعتمد على تحليل الذات الانسانية من باب ربط هذا التحليل بالزمن والحركة وعدم الثبات، كما هي الحال في تفتح الذات على مقامات ومراتب وأحوال متغايرة كما في معالجة ابن سينا لمقامات العارفين في كتاب الاشارات والتنبيهات. ولكن انجازات ابن سينا في فلسفة ما بعد الطبيعة تبرز العناصر التي تسمح له في الانطلاق نحو افق الحداثة بعيداً عن روابط الفكر الكلاسيكي. فواجب الوجود بذاته ليس بجوهر عند ابن سينا، وواجب الوجود بذاته لا حد له ولا رسم ولا ند له ولا مثيل ولا ضد وليس هو بجنس او نوع ولا ماهية له. ومثل هذا القول لا يتوافق مع الانساق الجامدة والمقولات الفلسفية التي تسوقها المدرسة المشائية والمدرسة الارسطية. ومن المتعارف عليه بأن العديد من البحاثة كانوا قد قدموا دراسات عديدة حول صدى كتابات ابن سينا عند اعلام الفلسفة في الغرب كالقديس توما الاكويني ورينيه ديكارت او حتى كانط. فمثلاً نجد تقارباً شديداً بين ما يرد عند ابن سينا في كتاب النفس حول اثبات وجود النفس وما يرد عند ديكارت حول ترابط الفكر والوجود، كما هي الحال في مقولته الشهيرة حول الذات او "الكوجيتو Cogito "انا افكر اذن انا موجود" وكذلك تمكن الاشارة الى الدور الهام الذي تلعبه فلسفة ابن سينا في فصلها بين الماهية والوجود وما لهذا الفصل من مؤثرات هامة على مسيرة الفلسفة، بالأخص في كتابات كانط حول نقد العقل المحض وكتابات هيغل المنطقية. ولكن على رغم ان العديد من الباحثين كانوا قد درسوا عناصر التقارب والتأثير عند ابن سينا وفلاسفة الغرب. إلا ان فلسفة ابن سينا بقيت في نظر العديد من البحاثة مجرد فلسفة ذات طابع تاريخي لا تتخطى اطارها الفكري المرتبط بالقرون الوسطى، ومن هنا درج البحاثة على تناول الفلسفة عندنا من باب كونها فلسفة ميتة لا تجد امحكانيات للتطور بعيداً عن معالجاتها الفكرية المرتبطة بمعضلات فلسفة القرون الوسطى. لكن هؤلاء البحاثة يحاولون دوماً ربط الفلسفة عندنا بما هو اغريقي المصدر لذلك فإن نفحة الحداثة التي نجدها عند ابن سينا تبقى منسية ومحجوبة. فإبن سينا استطاع الخروج عن اطار الفكر الكلاسيكي في بحثه حول الوجود من ابواب مغايرة لاتخاذ الوجود كجهور Ousia. انطولوجية ابن سينا أي علم الوجود عنده Ontology، تتناول الوجود من باب تناول الحدث والحركة الزمنية ومن باب الوقوف على الطبيعة الانسانية في تفتحها على أحوال ومقامات متغايرة تربط الكينونة والوجود بالصيرورة وتجمع الذات والآخر وتلازم الهوية بالاختلاف. بذلك تكون فلسفة ابن سينا فلسفة حديثة في روحها من حيث انها تحاكي معضلات الفكر المعاصر وتطلعاته ومعالجاته لمسألة الوجود ومركزية مكانتها في المباحث الفلسفية عامة ومباحث ما بعد الطبيعة خاصة. قراءة ابن سينا من باب النظر في احوال علم الوجود عنده تفتح المجال امام تأويل جديد يستشف عناصر فكرية ذات طابع فينومينولوجي ظواهراتي ويقارب ما نجده في المدارس الفكرية الأوروبية المصدر، كما هي الحال عند مارتن هايدغر واتباع مدرسته الفكرية التي نجد صداها الى يومنا هذا عند غادامير ودريدا وغيرهما. * باحث لبناني في كامبردج.