صعود مؤشرات الأسهم اليابانية    أمطار رعدية على اجزاء من مناطق الرياض ومكة وعسير    إعاقة الطلاب السمعية تفوق البصرية    مجلس الأمن يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية شاملة في السودان    مرصد حقوقي: المجاعة وشيكة في غزة ومليون طفل يعانون سوء تغذية حاد    رسوم ترمب الجمركية ..التصعيد وسيناريوهات التراجع المحتملة    توتنهام يتغلب على أينتراخت فرانكفورت    النفط يسجل زيادة بأكثر من 3 بالمئة    تشيلسي الإنجليزي يتأهل للمربع الذهبي بدوري المؤتمر الأوروبي    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي يحتفي بمرور 30 عامًا على تأسيسه    قتيلان في إطلاق نار في جامعة في فلوريدا    ممتاز الطائرة : الأهلي يواجه الاتحاد .. والابتسام يستضيف الهلال    الغزواني يقود منتخب جازان للفوز بالمركز الأول في ماراثون كأس المدير العام للمناطق    نائب وزير الخارجية يستقبل وكيل وزارة الخارجية الإيرانية    في توثيقٍ بصري لفن النورة الجازانية: المهند النعمان يستعيد ذاكرة البيوت القديمة    «تنمية رأس المال البشري».. تمكين المواطن وتعزيز مهاراته    تقاطعات السرديات المحلية والتأثيرات العالمية    هل أنا إعلامي؟!    فرح أنطون والقراءة العلمانية للدين    الاستمرار في السكوت    في إشكالية الظالم والمظلوم    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على الخليج    انطلاق مهرجان أفلام السعودية في نسخته ال11 بمركز إثراء    ضبط إثيوبيين في عسير لتهريبهما (44,800) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    وزير الدفاع يلتقي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني    غدًا.. انطلاق التجارب الحرة لجائزة السعودية الكبرى stc للفورمولا 1 لموسم 2025    القبض على إندونيسي ارتكب عمليات نصب واحتيال بنشره إعلانات حملات حج وهمية ومضللة    أمير القصيم يستقبل مدير فرع الشؤون الإسلامية    نائب أمير منطقة جازان يضع حجر أساسٍ ل 42 مشروعًا تنمويًا    نائب أمير جازان يرأس الاجتماع الرابع للجنة الإشرافية للأمن السيبراني    عبدالعزيز المغترف رئيساً للجنة الوطنية لمصانع الابواب والألمنيوم في اتحاد الغرف السعودية    نائب أمير منطقة جازان يطّلع على تقرير "الميز التنافسية" للمنطقة لعام 2024    أمير القصيم يستقبل منسوبي تجمع القصيم الصحي ويطّلع على التقرير السنوي    معرض اليوم الخليجي للمدن الصحية بالشماسية يشهد حضورا كبيراً    24 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح خلال الربع الأول من 2025    تجمع القصيم الصحي يدشّن خدمة الغسيل الكلوي المستمر (CRRT)    تخريج الدفعة ال22 من طلاب "كاساو" برعاية نائب وزير الحرس الوطني    بتوجيه من القيادة.. وزير الدفاع يصل العاصمة الإيرانية طهران في زيارة رسمية    جامعة الإمام عبدالرحمن وتحفيظ الشرقية يوقعان مذكرة تفاهم    مشاركة كبيرة من عمداء وأمناء المدن الرياض تستضيف أول منتدى لحوار المدن العربية والأوروبية    قطاع ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "التوعية بشلل الرعاش"    وفاة محمد الفايز.. أول وزير للخدمة المدنية    سهرة فنية في «أوتار الطرب»    1.5 مليون طالب وطالبة يؤدون اختبارات "نافس" الوطنية    مجلس «شموخ وطن» يحتفي بسلامة الغبيشي    معركة الفاشر تقترب وسط تحذيرات من تفاقم الكارثة الإنسانية.. الجيش يتقدم ميدانيا وحكومة حميدتي الموازية تواجه العزلة    الاتحاد الأوروبي يشدد قيود التأشيرات على نهج ترامب    5 جهات حكومية تناقش تعزيز الارتقاء بخدمات ضيوف الرحمن    الأمير سعود بن جلوي يرأس اجتماع المجلس المحلي لتنمية وتطوير جدة    القيادة تعزي ملك ماليزيا في وفاة رئيس الوزراء الأسبق    يوم الأسير الفلسطيني.. قهرٌ خلف القضبان وتعذيب بلا سقف.. 16400 اعتقال و63 شهيدا بسجون الاحتلال منذ بدء العدوان    أنور يعقد قرانه    قيود أمريكية تفرض 5.5 مليارات دولار على NVIDIA    حرب الرسوم الجمركية تهدد بتباطؤ الاقتصاد العالمي    مؤسسة تطوير دارين وتاروت تعقد اجتماعها الثاني    قوات الدعم السريع تعلن حكومة موازية وسط مخاوف دولية من التقسيم    رُهاب الكُتب    سمو أمير منطقة الباحة يتسلّم تقرير أعمال الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دور ابن رشد في بزوغ العقلانية الحديثة في الفكر الاوروبي
نشر في الحياة يوم 01 - 12 - 1999

اخترت ابن رشد الطبيب والفقيه والفيلسوف الاندلسي محوراً لحديث اليوم لسببين: الاول ان العالم انتهى السنة الماضية من احياء ذكرى وفاته منذ ثمانمئة عام اي 1198 وذلك في عدد من المدن منها قرطاجة في تونس ودمشق وواشنطن والرباط واستنبول، فضلاً عن احتفالات جرت في اواخر العام الماضي بقرطبة مسقط رأس ابن رشد واشبيلية وملقة بالاندلس.
الثاني، ان دخول ابن رشد الاوساط الفكرية في الغرب في مطلع القرن الثالث عشر كما سنرى فتح صفحة جديدة في تاريخ الفكر الاوروبي ومهّد لبزوغ عصر النهضة في القرن الخامس عشر الذي يمثل بداية العصور الحديثة من الناحية الفكرية بالنسبة الى اوروبا. وكما سنرى على وجه التخصيص كان لفلسفة ابن رشد دور مميز في بزوغ العقلانية والعلمانية الحديثة في اوروبا.
ابن رشد وأثره في تطور الفكر الاوروبي
قبل التطرق الى موضوعنا الرئيسي يجدر بنا ان نلقي نظرة عابرة على المراحل التي مرت بها الفلسفة والعلوم القديمة، كما دعيت في المصادر العربية قبل انتقالها الى الوسط العربي في مطلع القرن الثامن للميلاد ومن ثم انتقالها الى اوروبا الغربية عبر الاندلس في اواخر القرن الثاني عشر.
في سنة 529 امر الامبراطور البيزنطي يوستنيانوس باغلاق مدرسة اثينا التي كانت المعقل الاخير للوثنية في بلاد اليونان، فرحل سبعة من اساتذتها الكبار وعلى رأسهم سنبلقيوس ودامسقيوس الى بلاد الفرس وحلّوا ضيوفاً على البلاط الفارسي في حقبة كان كسرى انو شروان او الملك العادل يرعى الدراسات اليونانية من طب وعلم وفلسفة. وبلغ من عناية كسرى بالعلوم والدراسات اليونانية ان أسس في اواسط القرن السادس معهد جنديشابور الذي اصبح اهم مركز للطب والعلوم في الشرق الاوسط قبل مطلع القرن العباسي. ومنه كان العلماء والاطباء يفدون على بغداد التي اصبحت في مطلع القرن التاسع المحور الرئيسي للدراسات العلمية والطبية ولا سيما في عصر المأمون مؤسس بيت الحكمة الشهير.
الى الجنوب، كانت الاسكندرية قد اصبحت منذ القرن الثالث للميلاد وريثة اثينا الكبرى في ميدان العلوم والطلب. ومنها انطلق عدد من كبار الفلاسفة والعلماء المصريين والسوريين الذين كان لهم ابعد الاثر في تطور الفكر اليوناني القديم، نذكر منهم افلوطين وتلميذه فرفوريوس الصوري وياملينخوس القنسريني وسواهم، وهم من اركان الفلسفة الافلاطونية المحدثة التي وسمت الفلسفة العربية فيما بعد بسمتها الخاصة.
اما ارسطوطاليس الذي عرف في الاوساط العربية باسم المعلم الاول صاحب المنطق فلم يلق في بادئ الامر العناية التي لقيها استاذه افلاطون، وخليفته افلوطين الآنف الذكر. من هنا اهمية ابي الوليد ابن رشد المتوفى سنة 1198 والذي احيت المؤسسات الفكرية في انحاء العالم ذكراه المئوية الثامنة. فقد عرف ابن رشد هذا في الاوساط الاوروبية الغربية ابتداء من القرن الثالث عشر، كما سنرى، باسم الشارح الاكبر وارسطو باسم امير الفلاسفة Princeps Philosophorum.
كان ارسطو هذا، كما هو معروف، استاذ الاسكندر الكبير وواضع أسس العلوم جميعاً، وحتى الاسماء التي ما زلنا نطلقها على هذه العلوم فهي من ابتكار ارسطو، كعلم الطبيعة Physica وما بعد الطبيعة Metaphysica وعلم النفس Psychologia والاخلاق Ethica والسياسة Politica والمنطق Logic وفروعها المختلفة. ومن الطريف مع ذلك ان العناية بفلسفة ارسطو وبهذه العلوم التي استحدثها اصيبت بنكسة كبرى في اوروبا الشرقية اولاً واوروبا الغربية في ما بعد، فلم يترجم من آثاره الى اللاتينية الا عدد ضئيل من المنطقيات على يد القنصل الروماني بونثيوس الذي قضى حتفه في السجن سنة 525، ومن ذلك التاريخ حتى مطلع القرن الثالث عشر استمر نجمه في نحوس. ولما بدأ المترجمون بنقل شروح ابن رشد على ارسطو الى اللاتينية انقلبت الآية واصبح كلا الشارح والحكيم اي ابن رشد وارسطو محور الدراسات الفلسفية والعلمية طيلة قرون.
استقبال ابن رشد في اوروبا الغربية
احدث دخول ابن رشد ثورة فكرية منقطعة النظير في الاوساط الفكرية في اوروبا الغربية انطلاقاً من باريس بادئ الامر، فانقسم الفلاسفة واللاهوتيون الى قسمين: اولاً، انصار ابن رشد الذين عرفوا باسم الرشديين اللاتين وعلى رأسهم سيجر البرابانيي توفي 1284. وثانياً، خصوم ابن رشد وعلى رأسهم القديس توما الأكويني توفي 1274. وكان الخلاف بين الفريقين يدور حول عدد من القضايا الدينية والفلسفية مثل ازلية العالم ووحدة العقل الهيولاني والعناية الالهية وخلق العالم من العدم وحرية الارادة وسواها.
وبلغ من حدة الخلاف هذا ان اضطرت السلطات الكنسية للتدخل سنة 1270 ثم سنة 1277 واصدار لائحة بالقضايا المشبوهة دينياً بلغت 15 قضية في الادانة الاولى و219 قضية في الادانة الثانية. وجدير بالذكر ان عدداً كبيراً من هذه القضايا كان مستوحى من اقوال ارسطو او شروح ابن رشد. مع ذلك لم يقتصر تأثير ابن رشد على الفريق الاول الذي تمسك بمقولاته دون حرج متذرعاً بذريعة عرفت آنذاك باسم الحقيقة المزدوجة وفحواها ان للقضايا المتنازع فيها وجهين: وجه ديني ووجه فلسفي. في باب الوجه الديني على العالم ان يلتزم بالتعليم الديني او العقيدة. وفي باب الوجه الفلسفي يمكنه الالتزام بقول ابن رشد من دون تناقض. الا ان بعض الرشديين اللاتين كجون الجوندوني Jean De Jandun لم يلتزموا حتى بهذا الموقف اللبق بل ذهبوا الى ان الوجه الصحيح للحقيقة المطلقة هو قول ابن رشد الذي رعاه هذا العالم:
Perfectissimus et gloriosissimus veritate amicus et defensor
الصديق الاكمل والنصير الاعظم للحقيقة من دون ان يبالي بمعارضة الكنيسة او انصارها.
اما الفريق الثاني، فقد ناصب ابن رشد العداء على أسس دينية او لاهوتية بحتة ملتزماً بتعاليم الكنيسة من دون تحفظ ، كما مرّ. الا ان افراد هذا الفريق لم ينج من تأثير تعاليم ارسطو او شارحه الاكبر. في الباب الاول كان زعيمهم القديس توما الاكويني من اعظم شراح ارسطو ايضاً. وفي الباب الثاني، بقي مديناً على رغم تحفظاته، لابن رشد في النهج الذي نهجه هذا الفيلسوف، حتى ان ارنيست رينان قال في كتابه الشهير "ابن رشد والرشدية" 1856 ان القديس توما من دون ادنى تناقض واحد من اعظم خصوم ابن رشد وفي الوقت نفسه من اعظم اتباعه. ذلك ان اسلوبه في تفسر ارسطو كان عين الاسلوب الذي استحدثه ابن رشد. يضاف الى ذلك ان الخلاف بينهما يمكن رده في بعض الاحيان الى قراءة مختلفة لنصوص ارسطو لا تبلغ حد المناقضة. ففي باب مسألة ازلية العالم مثلاً ميز ابن رشد بين ما يدعوه الإحداث المنقطع النظير والإحداث الدائم وذهب الى ان مذهب ارسطو في ازلية العالم يمكن تأويله على الوجه الثاني، اي ان العالم ما زال مخلوقاً او محدثاً منذ الأزل بينما ذهب القديس توما الى ان ارسطو لم يقطع بصورة باتة في مسألة الازلية. وان الكتاب المقدس ينص على ان العالم مخلوق او محدث في الزمان اي ان لديه بداية زمنية وعلى المؤمن ان يأخذ بهذا القول، الا ان ابن رشد والاكويني ذهبا الى ان العالم مخلوق من العدم، مع ان ارسطو لم يشر الى شيء من ذلك.
كذلك كان الخصمان متفقين على مقولة اخرى، وهي "ان ارسطو هو الذي ارسى قواعد المعرفة الصحيحة، وعلى فلسفته يجب ان يبنى العالم او الفيلسوف خلافاً لفلسفة افلاطون وخليفته افلوطين التي كان اوائل حكماء الكنيسة وعلى رأسهم اغسطينوس توفي 430 في الغرب وابن سينا والفارابي في الشرق قد بنوا عليها صروحهم الفكرية. ومع ان تأثير ابن رشد لم يتواصل في الشرق، فقد تواصل في الغرب وعنه انبثقت الحركة اللاهوتية الكبرى التي عرفت بالمدرسة اللاتينية Scholasticism، وكانت من اعظم منجزات الفكر الاوروبي في القرن الثالث عشر واستمرت حتى مطلع النهضة الاوروبية في القرن الخامس عشر. ويمكن الجزم بأن هذه الحركة الفكرية الكبرى كانت مستحيلة قبل دخول ارسطو من خلال شروح ابن رشد الحلبة الفكرية الكبرى كانت مستحيلة قبل دخول ارسطو من خلال شروح ابن رشد الحلبة الفكرية في اوروبا الغربية. ذلك ان ارسطو كان قد اصبح نسياً منسياً في اوروبا طيلة سبعة قرون، كما مر، بينما تواصل اثره في الاوساط الفكرية العربية، ابتداء بالكندي توفي 866 وانتهاء بابن رشد.
بزوغ العقلانية الحديثة
يجمع المؤرخون على ان عصر النهضة فتح صفحة جديدة في تاريخ اوروبا الفكري. وقد اتصف هذا العصر بفتين رئيسيتين: 1- العودة الى الجذور الكلاسيكية في الميدان الادبي، و2- النزعة العقلية الجديدة التي قامت اصلاً كتحد للسلطات الكنسية ونادت بالتذرع بالعقل او البصيرة في الميادين السياسية والفكرية والدينية. ومع ذلك لم تبلغ هذه الحركة اشدها حتى مطلع القرن السابع عشر اذ يقرنها المؤرخون عادة باسم الفيلسوف والعالم الرياضي رينيه ديكارت توفي 1650 الذي استحدث طريقة جديدة في البحث العلمي والفلسفي تستند الى الرياضيات، ولا سيما الهندسة التي برع فيها هذا الفيلسوف بوجه خاص. ولكن يتساءل المرء اليوم عن جذور هذه النزعة العقلية وهل ولدت ولادة تلقائية ام انها تستند الى اصول تتجاوز القرن السابع عشر زمنياً؟
يتساءل أتيان جيلسون، اعظم مؤرخي الفلسفة المتوسطة، عن مصدر العقلانية الاوروبية في كتابه الرائع "العقل والوحي في العصور الوسطى Reason and Revelation in the Middle Ages 1938، ثم يجيب "انها ولدت في اسبانيا في ذهن فيلسوف عربي، كرد فعل واع، على النزعة الكلامية او اللاهوتية لعلماء الكلام العرب ويعني الاشاعرة… وهكذا خلّف للجيل اللاحق نموذجاً من الفلسفة العقلية الصرفة، وهو نموذج كان له اثر باقٍ في تطور الفكر المسيحي ذاته". وهو لا يكتفي بالرجوع الى المصادر اللاتينية لابن رشد، بل يدعم حججه بأقوال ابن رشد في كتابه الشهير "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، حيث يذهب هذا الفيلسوف الى ان الفلسفة، وهي "النظر في الموجودات من حيث هي مصنوعات، اي من حيث دلالتها على الصانع"، لا بد ان تتفق مع الشريعة اخت الحكمة الرضيعة. وحيث يبدو ان بين هاتين تضارباً، فعلى العالم اللجوء الى التأويل اي الغوص على باطن الآيات القرآنية ومدلولاتها التي لا قبل بادراكها الا "لأهل البرهان"، كما يقول، وهم الفلاسفة. ويستشهد في هذا المقام بالآية القرآنية التالية: "هو الذي انزل عليك الكتاب، فيه آيات محكمات هن ام الكتاب، وأخر متشابهات. وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم. يقولون ما اوتينا من العلم الا قليلاً". آل عمران 5 - 7.
اما في رده العام على الغزالي والاشاعرة في "تهافت التهافت" و"الكشف عن مناهج الادلة"، فقد نهج ابن رشد نهجاً آخر في دفاعه عن العقل، وذلك في معرض تفنيد ما ذهب اليه الغزالي من انكار الرابطة السببية بين الاشياء. يقول ابن رشد في هذا الرد ان السببية، اي ارتباط المسببات بأسبابها ارتباطاً ضرورياً، هي سبيلنا الوحيد الى ادراك طبائع تلك المسببات من جهة، والحكمة الالهية الكامنة وراء هذا الارتباط من جهة ثانية. فمن "رفع الاسباب فقد رفع العقل"، كما يقول، وأبطل الحكمة الالهية التي اقتضت وجود الاشياء على الشكل الذي وجدت عليه. "وبالجملة فكما ان من انكر وجود المسببات مترتبة على الاسباب في الامور الصناعية، او لم يدركها فهمه، فليس عنده علم بالصناعة ولا الصانع، كذلك من جحد وجود ترتيب المسببات على الاسباب في هذا العالم فقد جحد الصانع الحكيم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"، كما يقول في "الكشف عن مناهج الأدلة". ومتى ابطلنا تلك الحكمة لم يعد لنا سبيل الى الرد على القائلين بالاتفاق او الصدفة من دهريين وسواهم، بل لم يعد لنا سبيل الى التدليل على وجود الصانع الاعظم انطلاقاً من النظام الذي تتسم به المصنوعات والذي من شأنه ان يفضي بنا الى اثبات وجوده كسبب الاسباب او السبب الاول.
الكشف، طبعة محمود قاسم - القاهرة - ص 199.
فاذا قارنّا النزعة العقلية هذه عند ابن رشد وعند ديكارت تبين لنا ان عقلانية ابن رشد تمتاز عن عقلانية الفيلسوف الفرنسي من وجوه عدة. اولها ان الطريقة التي يطرحها ديكارت كمخرج من الشكوكية المطلقة ويبنيها على اربع قواعد معروفة مردها الى البساطة والوضوح من جهة، والى البداهة الرياضية من جهة ثانية، هي مستمدة من النهج الرياضي او الهندسي الذي تذرع به ديكارت في حل الاشكالات الفلسفية والرد على القدما، على رغم انه لم يستطع التنصل كلياً من محاذير النهج الفلسفي القديم، لا سيما في بابي الخلقيات والدينيات. فهو يقول في "مقالة الطريقة" انه في هذين البابين لم يستطع الخروج عن نهج الاجداد، بل استمر على التزامه بما درج عليه منذ نعومة اظفاره وما كان يؤمن به مواطنوه وذووه من معتقدات دينية كاثوليكية على وجه التخصيص.
وثانيها ان الطريقة الرياضية او الهندسية التي يطرحها ديكارت لا قبل لها بمعالجة المشاكل الفلسفية او العلمية التي توورثت عن القدماء، اي انها طريقة قد تفي بحل المشاكل الرياضية او المنطقية البحتة ولكنها عاجزة عن معالجة المشاكل الفلسفية والخلقية واللاهوتية والكوزمولوجية، مثل خلق العالم وحرية الارادة وماهية السعادة والتمييز بين الخير والشر ومقوّمات المجتمع الصالح والعلائق البشرية القومية والعالمية، وهي مشكلات دار عليها جزء كبير من فلسفة ارسطو التي بنى عليها ابن رشد وشرحها وعمل على التدليل على تماسكها بأسلوب عقلي شامل غير مقصور على البديهيات الرياضية. وواضح ان هذه الطائفة من المشاكل كانت وما تزال محور كل نشاط عقلي او فكري مسؤول وهي تمثل بالاضافة الى ذلك اهم المشاكل التي واجهتها البشرية وما زالت.
ابن رشد والعلمانية الحديثة
لم يقتصر اثر ابن رشد في الغرب اللاتيني على القضايا الفلسفية واللاهوتية التي كان يدور حولها الجدل إبان القرن الثالث عشر في باريس وبادوا وبولونيا، بل تعداه الى الميدان السياسي. وقد حمل لواء الرشدية في هذا المجال الشاعر الايطالي الشهير دانتي اليغيري توفي 1321 الذي كان من أوائل روّاد العلمانية السياسية في أوروبا. وذلك إبان الصراع بين انصار البابوية وأنصار الامبراطور. ويبني دانتي نظريته السياسية الجديدة في مطلع كتابه "الملكية" de Monarchia على نظرية ابن رشد في العقل الهيولاني الذي دار حوله الجدل في الأوساط الفلسفية واللاهوتية آنذاك. وفحوى هذه النظرية ان هذا العقل واحد يشارك فيه جميع ابناء البشر وهو عقل بالقوة فحسب، خلافاً للعقل الفعّال الذي هو عقل بالفعل والذي يحقق العقل الهيولاني فعاليته "بالاتصال" به. وعند دانتي ان هذا العقل الهيولاني الذي يشترك به جميع البشر يمثل "ماهية الانسان وطاقته الخاصة ويميزه عن سائر المخلوقات العليا او الدنيا". لذا يترتب على البشر كما يقول دانتي "ان يتوخوا كمجموعة واحدة تحقيق طاقات العقل الهيولاني دوماً في ميدان النظر او التأمل اولاً وفي ميدان الفعل او العمل ثانياً" وذلك على مدى العمر. وذلك هو السبيل الوحيد الذي يمكّن البشرية من بلوغ هدفها الأقصى وهو السلام الشامل كوسيلة لبلوغ السعادة الدنيوية.
بناء على هذه المقدمة المبنية على موقف ابن رشد من العقل الهيولاني، يتطرق دانتي الى معالجة المشاكل السياسية الرئيسية التي يدور عليها كباب الملكية، وأهمها: هل الحكم المدني كاف لبلوغ هذه الأهداف البشرية؟ مجيباً على طريقة ارسطو بالإيجاب، ومتحدياً بذلك انصار البابوية الذين كانوا يذهبون الى ان الحكام الزمنيين أو الأباطرة والملوك يستمدون سلطتهم من البابا او خليفة بطرس مؤسس الكنيسة. فينقض الأدلة التي كانوا يتذرعون بها استناداً الى الأناجيل او الى "بيعة قسطنطين" الذي كانوا يذهبون الى انه استمد سلطته السياسية من البابا سيلفستر الذي شفاه من مرض البرص. والنتيجة الأساسية التي ينتهي اليها دانتي في هذا الباب هي ان الامبراطور او الحاكم الذي نُصّب لتأمين السعادة القصوى للبشر انما يستمد سلطته مباشرة من الله وليس من خليفة بطرس او البابا. لذا ينبغي ان تكون السلطة المدنية او الزمنية مستقلة عن السلطة الدينية او الروحية وهو ما يعرف بالعلمانية اليوم، فلا يحق للبابا او اعوانه والحالة هذه ان يملوا ارادتهم على الحكام المدنيين كما كانت الحال طيلة العصور الوسطى وحتى زمن دانتي نفسه.
ومن الدلائل الاخرى على رشدية دانتي ان ولعه تحوّل، لدى وفاة بياتريس محبوبته الأولى ودليلته في معارج الفردوس، الى التعلق بالحكمة او الفلسفة التي يدعوها في احد مؤلفاته "مليكة الكون Regina Tutti او ابنةالإله Figlia Dei" ويرمز اليها باسم السيدة اللطيفة أو الأنيسة Donna Gentile. فهو قد اختار اذاً العقلانية الارسطوطاليسية التي كان ابن رشد رائدها آنذاك، وتحول الى حد ما عن الموقف الذي صرح عنه في "الكوميديا الإلهية"، وهو ان وراء الفلسفة حكمة اعلى تتمثل في اللاهوت. وبعد وفاته بست سنوات اتهم دانتي فعلاً بالرشدية وأحرق كتابه "الملكية" في وسط مدينة بولونيا بأمر من البابا يوحنا الثاني والعشرين. الا ان النداء الذي اطلقه في الدفاع عن نظرة عقلية وإنسانية جديدة لم يذهب ادراج الرياح. فقد اقتفى أثره اثنان من المع المفكرين السياسيين الذين اعتمدوا الرشدية ايضاً أساساً لفلسفتهم السياسية آنذاك هما مارسيليوس البدوائي Marsilius of Padua توفي 1345 وجان الجاندوني، اشد المتعصبين للرشدية وزميل مارسيليوس، الذي رفض البوح بالتحفظ الذي اتسم به موقف عدد من الرشديين اللاتين في باريس وبادوا آنذاك، كما مر.
من هنا يتبين مدى تأثير ابن رشد في تطور الفكر الغربي. فبغض النظر عن أثره في احياء فلسفة ارسطو بعد قرون من النسيان في أوروبا الغربية، فقد قامت في أوروبا الغربية هذه حركة رشدية تعتبره حجة في مضمار تفسير فلسفة ارسطو من دون منازع انقسمت الى قسمين:
1 - قسم معتدل اقرّ بامتياز التفسير الرشدي لأرسطو من دون ان يتخلى عن المعتقدات الدينية، 2- قسم آخر لم يتوقف عند هذه التحفظات بل اعتبر ابن رشد الناطق الأكبر باسم الحقيقة المطلقة. وكان من نتائج انتشار الرشدية في اوروبا ان ترجمت جميع شروحه على ارسطو، وصلنا منها 38 لم يبق منها بالعربية سوى 28.
دروس وعبر
فإذا تساءلنا الآن: ما هي العبر التي يمكن استخلاصها من هذا العرض التاريخي؟ ولماذا كان لابن رشد وللعقلانية الجديدة التي كان اهم دعاتها هذا الأثر عند ذلك المنعطف التاريخي في اوروبا الغربية، ومهد لانبثاق النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، بينما اتسمت تلك الحقبة بهيمنة الجمود العقلي والفكري الذي اذن ببداية عصر الانحطاط في العالم العربي؟ لم يكن لنا مناص من الاقرار بأن ظهور ابن رشد على مسرح الفكر العالمي يمثل بداية اليقظة الفكرية الكبرى في الغرب من جهة ونهاية تلك اليقظة التي بدأت في القرن التاسع ببغداد برعاية الخليفة العباسي المأمون توفي 833 في الشرق من جهة ثانية.
فإذا القينا نظرة موضوعية على الأوضاع الفكرية والعقلية السائدة في العالم العربي والعالم الغربي اليوم تبين لنا ان المعادلة الآنفة الذكر لم تتغير منذ زمن ابن رشد. ويبدو لنا جلياً ان نهوض العالم العربي من سباته على يد قادة الفكر وأهل الحل والربط مرهون باستعادة تلك اليقظة العقلية التي كان ابن رشد من اهم رموزها في الشرق والغرب في مطلع العصور الحديثة.
* ألقيت هذه المحاضرة في جامعة الشارقة - الامارات العربية المتحدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.