الكتاب: الإسلام والمسيحية... في العالم المعاصر تأليف: و. مونتغمري وات ترجمة: عبدالرحمن عبدالله الشيخ الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1998 في أواخر القرن العشرين، تتأكد واحدة من الحقائق الكُبرى وهي ان العالم اصبح "مُتداخل الاديان" او "متشابك الاديان". فطوال الخمسين سنة التالية للحرب العالمية الثانية، ثمة تزايد مطرد في اختلاط اصحاب الديانات المختلفة بعضهم ببعض بدرجة لم يشهدها تاريح العالم، الا في عهد الامبراطورية الرومانية وخلال القرون الثلاثة الاولى للمسيحية. وهذا الاختلاط استتبع بالضرورة نشوء شبكة معقّدة من العلاقات بين الافراد بوصفهم ممثلين لعقائدهم وحضاراتهم، وحاملين لأفكارها الرئيسية ورموزها وشعائرها. وتحت سطوة نزوعات السيطرة والهيمنة ذات الطابع المؤسساتي، تظهر الصراعات والمعارك بين الاديان والثقافات المختلفة. وتختلف طبيعة هذه الصراعات وشدتها من فترة الى اخرى، وذلك حسب العلاقات المتاحة بين المجتمعات الانسانية. فقبل الهيمنة الاوروبية، كانت المجتمعات الانسانية مقسّمة الى وحدات دينية وثقافية كبرى، وكانت كل وحدة تعيش حياتها بشكل منعزل عن الوحدات الاخرى. وهكذا فأي صراع سينشب بين اي من هذه الوحدات سيكون صراعاً بين هياكل حضارية متعددة، تُقدّر كل منهما الاخرى، من دون اية اعتبارات عنصرية توهم بأن هذا ارقى وذاك ادنى. وبعد الثورة الصناعية بدأت اوروبا تتصرف كما لو انها الوحيدة التي تستحق الاهتمام. واعتبر الاوروبيون انفسهم انهم وحدهم الجديرون بالاحترام، وعاملت الحضارة الاوروبية، بوصفها ممثلة للعالم المسيحي، اديان العالم بتعالٍ يرى ان "المسيحية" هي التطور الديني الامثل للجنس البشري، واعتبرت بقية الاديان غير متطورة وبدائية. وادى ذلك الى افتراض متطرف بأن الاديان الاخرى - غير المسيحية - بما في ذلك الاديان الكبرى سوف تخلي مكانها سريعاً للمسيحية. وجاءت بعد ذلك الحقبة الوسطى من القرن العشرين بتغييرات ثورية في شتى المجالات، تغييرات فكرية وسياسية واقتصادية وثقافية وعقائدية، تحاول ملاحقة ثورة المعلومات والعولمة والنظام العالمي الجديد والشركات متعددة الجنسيات. واصبحت مسألة الاعتراف بوجود غير الاوروبيين بوصفهم انداداً للاوروبيين، مسألة مقبولة. واصبح لهيئة الاممالمتحدة امين عام اسيوي وآخر افريقي. وظهرت مصطلحات مثل "ثقافات ما بعد الكولونيالية" لتُشير الى ثقافات جنوب آسيا، وكذلك اصبح من يتناولون تاريخ العالم اكثر انتباهاً الى حضارات لا علاقة لها بأوروبا، ما جعل الاوروبيين يكتشفون وجود أديان اخرى غير المسيحية حققت في الماضي انجازات روحية ومادية لا يمكن تجاهلها، وأن اتباع مثل هذه الديانات لا بد يبحثون عن "الخلاص" من خلال تراثهم الخاص وليس من خلال فكرة الخلاص المسيحية. وساهم هذا في جعل فكرة الحوار بين الاديان والحضارات فكرة شائعة ومقبولة على اساس من المساواة والندية. وهكذا تجاوزت هذه الحوارات مسألة التنظير وتناول القضايا النظرية الى إثارة قضايا على المستوى العملي تطرح افكاراً جديدة عن العلاقة بين المسيحية والاديان الاخرى، لتحل محل الافكار التي يتوارثها البعض - وبخاصة اتباع الابرشية - من ان كل من هم غير مسيحيين لا يزيدون عن كونهم افضل قليلاً من الجماعات البدائية التي لم تتعد مرحلة الهمجية، مما يجعلهم يكتشفون ان غير المسيحيين يمكنهم ان يعيشوا بشكل حضاري، وانهم يخضعون معتقداتهم لنظام عقلي مثلهم في ذلك مثل المسيحيين. ويعمل المؤلف و. مونتغمري. وات على دراسة جانب واحد من قضايا التداخل بين الاديان وهو تحديداً العلاقة بين المسيحية والاسلام. ويؤكد المؤلف ان جزءاً رئيسياً من دراسته يهدف الى تعريف المسيحيين الذين لم يُدركوا حتى الآن ان الرسالة الاسلامية مسألة لا بد من تناولها بجدية، بالاضافة الى لفت انتباههم الى ان كثيراً من افكار الاباء عن تفوق المسيحية انما ترجع الى اعتقاد متطرف في تفوق الحضارة الاوروبية المادية، اما من الناحية الدينية، فالقرآن الكريم وحتى مثله في ذلك مثل التوراة والانجيل، وترجع الازمة كلها الى اساءة فهم لصغية "المجاز" في الكتابات الدينية بالاضافة الى أوهام وأطماع المؤسسات المختلفة. التطور العلمي والتقريب بين الاديان يرى وات ان التطور العلمي سيؤدي الى التقريب بين الاديان، مما سيوفر مجالاً اوسع للمشاركة بين اصحاب الديانات. وعلى سبيل المثال فإن تطور علوم "الاحياء" وهندسة الجينات، جعلنا نجزم بإمكان ان يتخلّق الكائن الحي من دون علاقة التكاثر الجنسي المعروفة، وفي الوقت ذاته لا يكون ناتج علاقة محرّمة، ولا ذا طبيعة غير بشرية وهذا ما اثبتته تجارب الاستنساخ أخيراً. واعتمد وات كثيراً على تطور وسائل الاتصال في التقريب بين الاديان، رغم انها، وقت كتابته لهذا الكتاب في الستينات، لم تكن بلغت ما بلغته الآن. ويذهب وات الى ان سهولة الانتقال والحركة السياحية وتطور الكومبيوتر والاقمار الاصطناعية وشبكات الانترنت، كل ذلك سيجعل من السهل معرفة معلومات غير مغلوطة عن الاديان الاخرى، مما يقربها جميعاً ويساهم في التمهيد لمجيء الوقت الذي يكتشف فيه اصحاب الديانات السماوية ان القيمة الاساسية في اديانهم واحدة، وان جزءاً كبيراً من الخلافات اللاهوتية اساسه عدم دقة في التعبير عن المسائل الغيبية. ورغم تفاؤل المؤلف وات، فإنه لا يغفل موقف "المؤسسات" على اختلاف توجهاتها، الذي يعد بمثابة عقبة في سبيل هذا التقارب، وذلك عندما تستشعر هذه المؤسسات ان دورها سيقل وأهميتها ستتلاشى تدريجياًً، مما سيدفعها الى تعميق اوجه الخلاف وإثارة قضايا لاهوتية يصعب الوصول في شأنها الى حقيقة واضحة. وفي هذه الحال سترجز المؤسسات على التنبؤات والتفسير الغيبي والاغراق الباطني واصدار التوقعات واستحضار الارواح. وهكذا - فحسب ما يصل اليه وات، فإن الصراعات العقائدية ستصبح جزءاً من الصراعات المعلوماتية، مما سيفرض على من يريد الدفاع عن عقيدته وثقافته، ضرورة توفير ذخيرة كافية من المعلومات تستطيع مواجهة دعاوى الآخرين. من إساءة الفهم الى الحوار هناك ثلاثة مفاهيم رئيسة في الهرمنوطيقا الفلسفية عند غادامر وهي: التفسير والفهم والحوار. ويرى غادامر ان العلاقة بين هذه المفاهيم الثلاثة تتسم بالجدلية، فالتفسير ذاته غير ممكن من دون الفهم والحوار، والتفسير هو دائماً محاولة لتجاوز حالة من الاغتراب نستشعرها ازاء موضوع ما بسبب انه غير مفهوم بالنسبة لنا، ما يجعلنا لا نشعر بنوع من الألفة والتواصل معه. وكما هو معروف فالاصل الذي نشأت عنه الهرمنوطيقا كعلم كان يقتصر عند نشأته الاولى على تفسير نصوص الكتاب المقدس التي يشعر المرء ازاءها بالاغتراب نتيجة لعدم فهمه لها. ويمكننا ان نستنتج من ذلك انه اذا كان التفسير يتطلب دائما الفهم وينطوي عليه بالضرورة، فالفهم بدوره لا يتحقق ويكون فهماً حقاً الا من خلال الحوار، الحوار الذي تتفتح فيه الذات على الموضوع او الأنا على الآخر بهدف الوصول الى اتفاق، اي الى شيء مشترك تشعر معه بالألفة. والمفاهيم الثلاثة السابقة هي ما يسعى مؤلف كتاب "الاسلام والمسيحية في العالم المعاصر" الى تأكيد اهميتها وفعاليتها وذلك عبر فصول الكتاب العشرة، ويؤكد المؤلف جوهر دراسته بما جاء في مقدمة الكتاب. "ان هدفي الاساسي هو ان اقدم الاسلام بأفضل شكل مبسط للقارىء الاوروبي والاميركي الذي ينظر الى الامور بمنظور ديني او علماني، واني اقصد بذلك ان أُبطل مفعول الآثار الباقية من دعايات حروب العصور الوسطى الحروب الصليبية، كما انني حاولت ان اجعل القارىء يتحقق على نحو افضل من ذي قبل من اهمية الإسلام التي تجلّت طوال مئات السنين التي اعقبت حروب العصور الوسطى هذه. والهدف الثاني هو ان اوضح للمسلمين ان الدارسين الغربيين ليسوا بالضرورة معادين للاسلام ك"دين" بل انه من الممكن ان نجمع بين هذه الاتجاهات..". وازعم انه يجب على القارىء العربي ان ينتبه ويضع في اعتباره ان هذا الكتاب موجّه الى القارىء الاوروبي في المقام الاول، وانه يجب عليه ان يعي مفاهيم غادامر الثلاثة المشار اليها سابقاً حتى لا يسقط في فخ التصورات النمطية وما ينتج عنها من اساءة فهم ومواقف متطرفة. واخيراً ارى انه من الضروري التعريف "بالمؤلف" لتوضيح مدى جدية وعمق واتزان دراسته: فمونتغمري وات، درس الاسلام والاديان الاخرى لأكثر من ثلاثين عاماً منذ العام 1937 وتبحر في اللغة العربية ليتمكن من الرجوع للمصادر الاصلية وليتعامل مباشرة مع القرآن الكريم واحاديث الرسول وكتب الفقه على المذاهب المختلفة. وفي سنة 1947 عمل في الاسقفية الانجليكانية في القدس، وزار بعض البلاد العربية واحتك بما اسماه قلب العالم الاسلامي Endosoma والتقى عدداً كبيراً من مسلمي الهند وباكستان. وأعد اطروحته للدكتوراه عن القضاء والقدر عند المسلمين في القرون الهجرية الاولى، ومن مؤلفاته "محمد في مكة"، "محمد في المدينة" "فكرة الاكتساب".