تنبع أهمية كتاب «مرافعة» من أجل الحضارة الإسلامية المسيحية - للمستشرق الأمريكي المعروف ريتشارد بوليت الأستاذ بجامعة كولومبيا الامريكية - والصادر في أواخر عام 2004م من كون الكتاب موجّهاً للقارئ الأمريكي والغربي بالأساس في محاولة من مؤلفه المتعاطف مع الإسلام والمسلمين لتصحيح فهم الغربيين للعلاقة بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية، كما يقدم بوليت على مدى كتابه رؤية بديلة ومتميزة للإسلام وتطوره الحضاري تصور الإسلام كحضارة شقيقة للحضارة المسيحية خاصة خلال الفترة منذ بداية عصر النبوة وحتى القرن الخامس عشر الميلادي. ويرد الكتاب بشكل نقدي مباشر على كُتاب أمريكيين وغربيين معروفين - من أمثال صموئيل هنتيجنتون مروج نظرية «صدام الحضارات» والمستشرق البريطاني المعروف برنارد لويس - والذين روجوا لنظريات صدامية وغير منصفة للإسلام والمسلمين خلال السنوات الأخيرة وخاصة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م. من أجل حضارة إسلامية مسيحية يقول ريتشارد بوليت في مقدمة كتابه انه شرع في تأليف كرد فعل على أحداث سبتمبر وانطلاقاً من «رغبته العارمة» في «فعل شيء مفيد» للعلاقات الإسلامية المسيحية. ويبدأ بوليت الكتاب بنقد نظرية «صدام الحضارات» للكاتب الأمريكي المعروف صموئيل هنتينجتون مشيراً إلى أن كتاب هنتينجتون يتشابه في رسالته وعنوانه مع كتاب بعنوان «الشباب المسلم في رحلة شاقة: دراسة في صدام الحضارات» نشر في عام 1926م لمبشر مسيحي يدعى باسيل ماثيوس لترويج فكرة أن المسيحية هي المنقذ للشباب المسلم،ويقول بوليت: إن الفارق الأساسي بين نظرة هنتينجتون العامة للمسلمين ونظرة ماثيوس هي أن هنتينجتون يرى في الغربية العلمانية - وليس في مسيحية ماثيوس - علاجاً شافياً لقضايا المسلمين والتحديات التي يواجهونها. وهنا يشير بوليت إلى أن المبشرين الأمريكيين البروتستانت هم أول من فتح أعين أمريكا على العالم، لأن المبشرين كانوا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية من أكثر فئات المجتمع الأمريكي نشاطاً على المستوى الدولي، ويرى بوليت أن المبشرين نظروا للإسلام والكاثوليكية واليهودية على أنهم الآخر المعادي للذات والذي يستحيل إصلاح حاله والتقارب معه. ثم يشير بوليت إلى تحسن العلاقة بين المسيحية واليهودية بمرور الوقت على أنه إثبات لإمكانية التقارب والتعايش بين الحضارات المختلفة، وهنا يتساءل بوليت عن إمكانية حدوث تقارب بين الإسلام والمسيحية مثل التقارب الذي حدث بين المسيحية واليهودية. كما ينتقد بوليت ما أسماه «بإصرار الأمريكيين على رؤية خلافات عميقة بين الإسلام والمسيحية»، وينادي بنظرة مختلفة تنظر للحضارتين الإسلامية والمسيحية على أنهما «حضارتان شقيقتان تتمتعان بالسيادة في مناطق متجاورة جغرافياً وتتبعان مسارين تاريخيين متشابهين». لذا يدعو بوليت قراءه الغربيين لمراجعة بعض المعوقات الفكرية التي تحول بينهم وبين رؤية الإسلام والمسيحية على أنهما جزء من حضارة واحدة مثل فكرة أن الإسلام هاجم المسيحية والمسيحيين بشكل مستمر، وأن القصص الدينية المشتركة بين القرآن والإنجيل تم تحريفها في القرآن. ويؤكد بوليت على اعتقاده بأن الغربيين لم يضموا الإسلام في حضارتهم بسبب أنهم ورثوا رؤية مسيحية للتاريخ ترفض الآخر، ويعبِّر بوليت عن اعتقاده بأن هذه النظرة السلبية للإسلام مثلت «منطقا» وقاعدة فكرية لإيمان الفرد الغربي بوجود صراع وعداء بين الإسلام والمسيحية وليس العكس، فالعداء لم يقد إلى صور سلبية، ولكن النظرة السلبية للإسلام هي التي قادت لإدراك العداء، مشيراً إلى أن هذه الرؤية السلبية تجلت بعد أحداث سبتمبر 2001 في إساءات بعض القيادات الدينية البروتستانتية في الولاياتالمتحدة للإسلام والمسلمين وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم. رؤية بديلة لتطور الإسلام كحضارة شقيقة للمسيحية يقول بوليت إن صعود الإسلام في قرونه الأولى وتوسعه في الشرق الأوسط مثل تحدياً خطيراً للحضارة المسيحية في ذلك الوقت لأن الشرق الأوسط كان من أهم أراضي الحضارة المسيحية على الاطلاق فقد احتوى على مراكز مسيحية هامة كالقدس والاسكندرية، كما أنه كان مهد بعض أكبر مفكري المسيحية بما في ذلك المسيح عليه السلام واتباعه الاثنا عشر، وغيرهم من كبار القساوسة والشخصيات الدينية المسيحية. ويقول بوليت إن تأثيرات الشرق الأوسط الفكرية والعقائدية على المسيحية في عصر ما قبل ظهور الإسلام تركت دوماً تبعات هامة على الحضارة المسيحية، وهنا يعرض احدى أفكاره الرئيسية هي أن وجود المسيحية في الشرق الأوسط ساعد أيضاً الدين الإسلامي. إذ يرى بوليت أن توسع الإسلام في الشرق الأوسط كان له تأثير هام جداً على مسار الحضارتين المسيحية والإسلامية على حد سواء، وهو تأثير مازال باقياً حتى الآن وله بصمات واضحة على تطور الديانتين خاصة فيما يتعلّق بمفاهيم التسامح الديني وعلاقة الدين بالمجتمع وبالدولة، وهي قضية يوضحها بوليت بشكل تدريجي. حيث يرى بوليت أن الشرق الأوسط وهو مهد الديانات السماوية سيطرت عليه في الأساس ديانات توحيدية مما مهد للإسلام وجعل فرصة انتشاره كبيرة، في الوقت ذاته اضطرت المسيحية الغربية بعد خسارتها للشرق الأوسط للتوسع في بلدان أوروبا والتي سيطرت عليها أديان وثنية بالأساس، الأمر الذي حمل المسيحية مشقة مواجهة عقائد هذه القبائل الوثنية ومحاربتها أحياناً أو تبني بعض مظاهرها في أحيان أخرى بسبب توغلها في ثقافات القبائل الأوروبية، وبذلك تكون المسيحية قد مهدت للإسلام والذي يُعد أكثر حظاً تاريخياً منها. ويرى بوليت أن أسلمة البلدان التي فتحها المسلمون والتي حققت نجاحاً كبيراً وشاملاً كما نراه الآن هي عملية استغرقت قرونا طويلة وإن كان الإسلام أكثر حظاً من المسيحية في ذلك لأنه لم يواجه شعوب وثنية مثل الشعوب التي واجهتها المسيحية في أوروبا، الأمر الذي فرض على المسيحية خوض عدد كبير من الحروب مع القبائل الوثنية لكي تنتشر، ولكن الإسلام في المقابل أظهر تعاطفاً واحتراماً كبيراً للشعوب التي دخلها والتي كانت شعوبا توحيدية في غالبيتها. نقد المستشرقين الغربيين ويبدأ الفصل الثاني من الكتاب بانتقاد كتاب المستشرق البريطاني المعروف برنارد لويس المنشور بعنوان «أين الخطأ» والذي نشره لويس بعد أحداث سبتمبر 2001م لتفسير سبب العداء بين الإسلام والغرب، وتقوم فكرة الكتاب على أن المسلمين يحقدون على الغرب بسبب تقدمه عليهم، وأن تفاعل المسلمين المتخلفين مادياً مع الغرب المتقدم يشعرهم بشكل مستمر بتراجعهم ويدفعهم للحقد عليه. وهنا يرى ريتشارد بوليت أن أفكار برنارد لويس ليست صحيحة لعدة أسباب على رأسها أن العلاقة بين المسلمن والغرب هي علاقة قديمة، وأن الغرب نفسه مر عبر هذه العلاقة بفترات تطور عديدة بعضها سلبي والآخر إيجابي، فالغرب خلال رحلة تطوره أنتج بعض النماذج الحضارية السلبية كالنازية والفاشية، فكيف يمكن أن يكون المسلمون قد أرادوا أن يقلدوا الغرب على طول الخط، فالغرب نفسه لم يكن يعرف إلى أي اتجاه يسير، كما أنتج خلال مسيرة تطوره بعض النماذج شديدة السلبية، كما أن المسلمين في بعض فترات تطورهم وضعوا كأهداف أساسية لهم التحرر من سيطرة الغرب نفسه عليهم، كما حدث خلال فترة الثورة ضد الاستعمار في الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين. لذا يؤكد بوليت أن المسلمين يسعون للتطور لأسباب خاصة بهم ولرؤية ذاتية كانوا يسعون لتحقيقها وليس لمجرد تقليد الغرب أو اللحاق به، ومن أهم أسباب المسلمين الخاصة قضايا مثل: زيادة ثرواتهم الوطنية، وحصولهم على حرياتهم السياسية وحرية التعبير عن الرأي في أوطانهم، وتحقيق النمو الاقتصادي، ومحاربة البطالة وإصلاح التعليم، والإعداد لنموهم السكاني السريع، لذا ينصح بوليت الغربيين بقراءة تاريخ المسلمين والعرب من وجهة نظر المسلمين والعرب أنفسهم. رؤية لمستقبل العالم الإسلامي يقدم بوليت في القسم الأخير من دراسته تصوراً متميزاً لمستقبل الحضارة الإسلامية وتطورها، وفي البداية يحذر بوليت من مساعي بعض المفكرين والسياسيين الغربيين للتنبؤ بحلول سريعة لمشاكل العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي كما يراه بوليت هو حضارة كبيرة تحتاج لفترات طويلة لكي تتغير وتتطور، حيث يرى بوليت أن العالم الإسلامي يمر بدورات تاريخية تقدر طول كل دورة منها بأربعة قرون. وهنا يرى بوليت أن القرون الأربعة الأولى من عمر الإسلام (من القرن السادس وحتى العاشر الميلادي) شهدت فترة صعود الإسلام وانتشاره في العالم. أما من القرن الخامس وحتى الثامن (الحادي عشر وحتى الرابع عشر بالتقويم الميلادي) فقد شهدت صراعاً داخل الإسلام نفسه حول الأفكار الإسلامية التي يجب أن تسود المجتمعات المسلمة، وفي الدورة الثالثة الممتدة من القرن التاسع وحتى الثاني عشر (الخامس عشر وحتى الثامن عشر) فقد شهدت صراع الإسلام مع التوسع الغربي وبداية تراجع بعض المجتعات المسلمة. أما الفترة الحالية الممتدة من القرن التاسع وحتى القرن الثاني والعشرين الميلادي فهي فترة تجريبية تشهد محاولات طورها المسلمون للنمو في ظل علاقتهم الصراعية مع الغرب، وقد تنبأ بوليت باستمرار صعود وهبوط هذه المحاولات بشكل متكرر خلال الفترة الحالية حتى يعثر المسلمون على صيغ أفضل تحقق لهم النمو الذي ينشدونه والذي سوف يبدأ -كما تنبأ بوليت - مع القرن الثالث والعشرين الميلادي. وفي النهاية يرصد بوليت ثلاث جماعات أطراف مسلمة أساسية يمكن أن تساهم بشكل كبير ومتميز في تطوير الحضارة الإسلامية في العقود القادمة: الجماعة الأولى هي مسلمو الغرب حيث يرى بوليت أن خبرة مسلمي الغرب وحياتهم واستيطانهم في المجتمعات الغربية سوف تساعدهم على تطوير أفكار إسلامية جديدة. الجماعة الثانية هي الأحزاب السياسية الديمقراطية في العالم الإسلامي، ويرى بوليت أن هذه الأحزاب سواء كانت دينية أو غير دينية سوف تساهم في تطوير العالم الإسلامي إذا طورت أفكار ديمقراطية حقيقية تقوم على التعددية والتسامح، وينصح بوليت هذه الجماعات بتطوير برامج متطورة وشاملة لحكم بلادها وعدم الاكتفاء بإنتاج خطابات جماهيرية تقتصر على إرضاء رغبات الجماهير. الجماعة الثالثة هي المثقفون المسلمون الذين تلقوا تعليمهم في مؤسسات أكاديمية غربية كبرى، ويرى بوليت أن هؤلاء المثقفين المتزايدي العدد على الرغم من افتقار بعضهم لفرصة تعميق معرفتهم الدينية التقليدية قد بدأوا في تطوير أفكار إسلامية جديدة بحكم خلفيتهم الإسلامية والغربية في آن واحد. وفي نهاية كتابه يرى بوليت أن المصلحين المسلمين القادرين على تغيير العالم الإسلامي لم يظهروا بعد ولكن أعرب عن أمله في أن تشهد العقود الثلاثة القادمة ظهور مجددين مسلمين كبار.