ان مفهوم الحوار بين الثقافات، باعتباره مدخلاً ضرورياً لإرساء قيم التفاهم بين الشعوب والتخلّص من عقدة الشعور بالمركزية الحضارية وما يرافقها من شعور بالتفوق العرقي والثقافي، بدأ يشق طريقه وتعمل على دعمه منظمات دولية ونخب سياسية وفكرية آمنت - بعد مأساة الحرب العالمية الثانية وما تلاها من بروز ظاهرة الحرب الباردة والسباق نحو امتلاك اسلحة الدمار الشامل - بأنه لا بديل من الحلول السلمية للأزمات الاقليمية والدولية، وأن حوار الثقافات يعدّ اسهاماً ناجعاً لدعم قيم التسامح والتفاهم بين الشعوب. ومما يبرهن على مدى ما حقّقه هذا المفهوم من تجذّر خلال العقود الثلاثة الماضية: أولاً اعتراف المخططين الاقتصاديين بأن الثقافة أسّ متين من أسس التنمية الشاملة، وثانياً اعتراف رجال المال وأصحاب الشركات العالمية الكبرى بدور الثقافة في التقريب بين الشعوب والاعتراف بالآخر وهم الذين عرفناهم قبل فترة قريبة لا يؤمنون الا بلغة أرقام المعاملات وما تدرّه من أرباح مشروعة وغير مشروعة. ولا بد من الاشارة في هذا الصدد الى ان تطور وسائل الاتصال الحديثة، بخاصة المرئية منها، اسهم الى حد كبير في التعريف بحضارات الشعوب، فقد كانت مناطق حضارية عريقة تعد من الاطراف النائية والمهمشة، وبقيت بالتالي مجهولة الهوية والثقافة. هذا الكسب الثمين الذي حققه مفهوم الحوار بين الثقافات اصبح اليوم مهدداً امام مفهوم العولمة الاقتصادية، وما يرتبط به من مخططات التبعية والهيمنة. ذلك ان العولمة الاقتصادية تحولت الى سلاح فعّال بيد المبشرين بالنظام العالمي الجديد، وجدّدت مفهوم مركزية الحضارة الغربية، وهي معطيات جديدة تتناقض مع مفهوم حوار الثقافات. اما التنبؤ بالتصادم بين الحضارات مستقبلاً فهو دعوة مؤدلجة تتجاهل ما حققته البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من مكاسب في مجال حل الازمات الكبرى بوسائل الحوار، وتفادي الصراع المسلح، مستخلصة الدروس مما أدت اليه ايديولوجيات التصادم من محن ومآس لا تزال الانسانية تئن من ويلاتها. وبرزت دعوة جديدة في مطلع الستينات الى الحوار بين الاديان، خصوصاً الحوار بين الديانتين الكبيرتين: الاسلام والمسيحية، وذلك غداة انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني. وأصيبت الخطوات الأولى بالعرج فكان الفشل والنتائج المبتورة. ذلك ان بعض القوى داخل الكنيسة الغربية، ومن يدور في فلكها من بعض المسلمين، حاولت ان يكون هذا الحوار دينياً لاهوتياً فانكشفت النوايا منذ اللحظة الاولى. اننا من دعاة الحوار الذي يخدم التفاهم بين الشعوب، والاعتراف بالآخر سياسياً وثقافياً. ولكن هذا اللون من الحوار لا يمكن الا ثقافياً يتخذ من المقاربة التاريخية الثقافية منهجاً ونبراساً. ان الحوار اللاهوتي لا يمكن ان يفضي الا الى حائط مسدود اذ سصطدم بمسائل عقائدية زادها الاستعمال السياسي تعقيداً واستعصاء. الحوار بين الديانات الكتابية لم ينقطع في حقيقة الامر منذ ظهورها متجاورة جغرافياً في منطقة المشرق العربي. ولكن الدعوة الى الحوار اليوم لها منطلقاتها التاريخية المختلفة، ولكي تنجح فلا بد بادئ ذي بدء من تحديد هذه المتطلبات، وتوضيح هذه الظرفية. واذا عدنا الى الماضي نجد ان دعوة الاسلام الى الحوار تتمثل في العودة الى الأرومة الابراهيمية موحداً بذلك بين الاديان السماوية الثلاثة، فقد جاء مجدداً الحنيفية مزيلاً ما علق بها من اساطير وطقوس رهبانية في الديانتين السابقتين ولا علاقة لها بدعوة التوحيد البسيطة التي بشّر بها ابراهيم الخليل. وتواصل الحوار في المستوى الحضاري والتعايش بين مختلف الاديان والطوائف داخل المجتمع الاسلامي، اما ما ظهر هنا وهناك من موجات تعصّب ورفض للآخر فقد كانت اسبابه سياسية، كما هو الشأن اليوم، ولا علاقة له بالاسلام. ان كتب التراث العربي الاسلامي زاخرة بمظاهر التعايش السلمي بين المسلمين واصحابا الديانات السماوية الاخرى، بل حتى مع من لم يكن من اهل الكتاب كالمجوس مثلاً فقد عوملوا في فترة الفتوحات الكبرى معاملة اهل الكتاب. ولكن الوضع تغيّر وتوترت العلاقات فاتسمت بالحذر والريبة في منعطفين تاريخيين شهيرين: اولهما لما اقترنت المركزية الغربية بالمركزية المسيحية الحملات الصليبية - حركة الاسترداد. وثانيهما لما ارتبطت حملات التبشير المسيحي باستعمار الشعوب واخضاعها بقوة السلاح المثال النموذج: احتلال الجزائر. واذا عدنا الى موضوع الحوار اليوم بين الاديان بصفة عامة وبين الاسلام والمسيحية بصفة أخص ماذا نلاحظ؟ ان الدعوة نبيلة اذا نظرنا اليها من الزاوية الفكرية المحضة، ولكن اذا فحصنا ما يكمن وراءها من مخططات واهداف فان اسئلة كثيرة تطرح نفسها، وتبقى من دون اجوبة. وهذا ما جعل الدعوة تبقى حتى الآن محصورة داخل مجموعات ضيّقة مسخرة عن وعي او عن غير وعي لخدمة اهداف معينة! الحوار بين الإسلام والمسيحية، وهو الذي يشغل بالنا هنا، لا يمكن ان يثمر ويتحول إلى ظاهرة فكرية وحضارية تشد إليها أنظار فئات اجتماعية متنوعة في المجتمعين، إلا إذا توافرت الشروط الأساسية التالية: أولاً - أن تقوم الأطراف جميعها وبكل جرأة بعملية نقد ذاتي، وأن تعترف بأخطاء الماضي، وأن تعمل بالخصوص على تصحيح الصورة المشوهة التي روجتها عن الآخر، وتقفز إلى هنا تلك الصورة السلبية والهجينة التي روجتها الكنيسة الغربية عن الاسلام طوال القرون الوسطى، وأجمعت دراسات المختصين الغربيين أنفسهم على أن تأثيرها في الذهنية الأوروبية لا يزال مستمراً حتى اليوم. إننا لا ننكر ان تياراً جريئاً بين المفكرين المسيحيين بدأ يعترف بأخطاء الماضي، فهذا المستشرق المسيحي لوي غاردي كتب يقول في هذا الصدد: "اننا جاهزون لنسيان الماضي، ولكن بأي وجه يمكن ان نطلب ذلك الموقف من الشعوب الافريقية والآسيوية التي اهينت بعمق، وذلت كرامتها، وجرحنا مشاعرها القومية الدينية"؟ ولكن لا بد من الاعتراف بأن هذا التيار ما زال ضعيفاً، ولا يعبر عن موقف الكنيسة الرسمي. ثانياً - فصل الحوار عن السياسة، واضفاء صبغة حضارية ثقافية محضة عليه. فقد اثبتت تجارب متعددة ان استغلال السياسة للحوار بين الأديان يسيئ إلى الحوار ويعرقله، ولا شك في ان لهذا النوع من الحوار جانباً سياسياً لكن المهم ان لا تستعمله سلطة سياسية قائمة لفائدتها الراهنة. فمن المعروف ان السياسة استعملت الدين في كل العصور، وفي جميع المجتمعات، كما ان الدين أفاد من السياسة، ولكن آن الاوان لفصل الدين عن السياسة. وعندما ننظر إلى هذه الاشكالية من زاوية الحوار الإسلامي - المسيحي، نلمس أن استراتيجية الغرب نظرت إلى الإسلام منذ بداية مرحلة الاستعمار المباشر الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى اليوم نظرة مزدوجة، فقد صوّر الاسلام وبخاصة نزوعه إلى الوحدة الاسلامية باعتباره تهديداً للمصالح الغربية، وبصفته تعصباً معرقلاً ل "رسالة أوروبا التحضيرية" ذات الطابع الكوني، ورأت فيه من جهة أخرى "دين استقرار" يمكن استخدامه في إطار "طاعة الحكام" والمحافظة على النظم الصديقة. إنها استراتيجية سياسية وضعت لحماية مصالح الغرب، واقتضت هذه المصالح ان تكون هذه النظرة إلى الاسلام مزدوجة. وهي استراتيجية لم تتغير كثيراً في تحليلها للأوضاع في المجتمع الإسلامي المعاصر، ولكن المهم ان نعي في هذا الصدد ان الكنيسة الغربية باركت وتبارك هذه الاستراتيجية لأنها تخدم في نهاية المطاف مصالح المركزية المسيحية. أصبح دعاة الحوار الإسلامي - المسيحي يرددون في الأعوام الأخيرة مقولة العالم اللاهوتي الألماني هانس كونغ: "لن يكون هناك سلام بين الأمم، ما لم يكن هناك سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان ما لم يكن هناك حوار بين الأديان". إنها مقولة نبيلة وجميلة من دون ريب، ولكنها مثالية. فإذا اردنا ان يثمر الحوار بين الأديان يوماً ما فلا بد ان تكون نقطة الانطلاق هي فصل الدين عن السياسة... وفصل الدين عن السياسة لا يعني بالضرورة فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن المجتمع!