من ارسل عبدالله اوجلان الى كينيا، ارسله حتماً الى المصير الذي اتضح أمس. اذ ليست تركيا وحدها في مطاردته، وليست لتركيا دالة خاصة على الكينيين، وانما هناك الأميركيون الذين لا يرون فيه سوى "ارهابي" لمجرد ان حليفتهم تركيا تعتبره عدوها الرقم واحد، بل هناك خصوصاً الاسرائيليين الذين تفانوا في خدمة الحليف التركي وتعلموا من علاقتهم بهذا الحليف ان إيقاع اوجلان في الفخ سيشد أواصر التحالف وسيترك تركيا مدينة لاسرائيل لفترة طويلة. منذ تفجير السفارة الأميركية في نيروبي، وحتى قبل ذلك، ارتبطت كينيا امنياً بالأجهزة الأميركية والاسرائيلية بشكل غير مسبوق. لم يعد ممكناً أن يمر أحد بهذه العاصمة الافريقية من دون أن تتوفر اشارات الى وجوده. لذلك كان الخطأ، أساساً، في الذهاب الى كينيا، مهما كانت الدواعي والدوافع، لأن الاحتمالات لا بد أن تكون مفتوحة على الأسوأ. ففي مثل هذه البلدان بالكاد يضمن ابناء البلد أمنهم، فكيف بأمن "ضيوف" غير متوقعين أصلاً! تقول انقره انها "اعتقلت" اوجلان. كذلك قال الإعلام الأميركي، والغربي عموماً. الأصح انه خطف في عملية استخباراتية واضحة المعالم، بمعزل عمن لعب فيها الدور الوسخ: اليونان، أو كينيا، أو ال "سي اي اي"، أو "الموساد"، أو الأجهزة التركية، لا فرق. ولعل العجب في أن تكون انقره فضلت خطفه على قتله. "الاعتقال" يعني ان اوجلان متهم، وانقره تتهمه طبعاً ب "عمليات ارهابية"، وبالتالي لا بد ان تحاكمه. ولكن هل تحتمل مثل هذه المحاكمة، هل تسمح بمحاكمة حسب الأصول، هل القضية قضية "ارهاب"، هل ان اوجلان مجرم هارب من العدالة أم زعيم شعب صاحب قضية؟ الأسئلة التي ستجدها انقره أمامها كثيرة وصعبة، ولكن هل يعتمد على العسكر في احترام الأصول؟ منذ بدايتها كانت قضية اوجلان ولا تزال قضية داخلية، ولم يعرف الحكم التركي كيف يتعاطى معها ليمنع فرارها الى الخارج أمام "ارهاب الدولة" الذي برهن بنتائجه على الأرض انه أعتى وأخطر من "الارهاب" الآخر. الآن، مع عودة اوجلان الى البلد، "معتقلاً" أو بالأحرى "مخطوفاً"، تعود قضية أكراد تركيا الى المربع الأول. لن يستغرب أحد إذا بدا وجود أوجلان في السجن التركي أكثر تعقيداً من وجوده في أي مكان آخر. ستفتح انقره ملفه "الارهابي"، ومن الطبيعي أن يُفتح أيضاً ملف ارهاب الدولة الذي مارسته ضد من يفترض انهم مواطنوها. والوثائق كثيرة، كذلك الشواهد، فهي تفيد بأن ارهاب الدولة قضى على أعداد من البشر لا تقاس بالأعداد التي قضت في عمليات حزب العمال الكردستاني، وتفيد أيضاً بأن قرى وبلدات ألغيت من الوجود على الطريقة الاسرائيلية، وان مجازر ارتكبت على الطريقة العراقية - الصدامية أو الطريقة الصربية أو حتى الرواندية. وعلى رغم كل ما ارتكبه عسكر تركيا ضد مواطنيهم فانهم جعلوا من رأس اوجلان هدفاً وطنياً لهم، ولم يبذلوا أي عناء في البحث عن حلول سياسية تنصف الأكراد وتمنحهم أبسط الحقوق التي يطالبون بها. في غمرة الحدث يجب ألا ينسى أحد ان الولاياتالمتحدة، زعيمة "العالم الحر" والمدافعة الشرسة عن "حقوق الانسان"، لم تتردد مرة أخرى، كما في الصين، كما في افريقيا، كما في فلسطين، في وضع المبادئ جانباً من أجل مصالحها مع تركيا احدى أهم حليفاتها في العالم. وطالما ان الكلمة الأميركية تبقى مسموعة في انقره، على رغم المظاهر المعاكسة، فلعلها تنصح العسكر بمباشرة التعاطي السياسي مع القضية الكردية. عندئذ تكون نهاية اوجلان بداية جديدة واعدة لتركيا بمختلف شعوبها.