قد يندم العسكر الأتراك على اجبارهم عبدالله اوجلان على مغادرة سورية الى روسيا ومن ثم الى ايطاليا. إذ أن وصوله الى روما، التي تغيرت فيها الحكومة قبل أسابيع، وتحرك أنصاره في كل مكان، أظهر للمسؤولين في انقره الى أي مدى كبر "اللوبي الاوجلاني" في أوروبا. والأكيد ان الأكراد يلقون من التعاطف ما لا تلقاه تركيا نفسها في توقها والحاحها على الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. بل المؤكد ان تركيا، إذا حلّت قضية الأكراد حلاً حضارياً، ستدخل البيت الأوروبي من الباب الواسع. لماذا؟ لأن قضية الأكراد هي في نظر الأوروبيين قضية حقوق انسان أولاً وأخيراً. عندما كان اوجلان متشرداً بين لبنان وسورية وشمال العراق واحياناً ايران، كانت لمطالبة الأتراك به لهجة معاناة. أما وقد أصبح بعيداً عن أرضه وميدان نشاطه فباتت المطالبة به نوعاً من الترف الذي لا تستحقه انقره. لماذا؟ لأن عواصم أوروبا تعرف الملف جيداً: صحيح ان اوجلان يمكن أن يوصف ب "الارهابي" وفقاً للتعريف الأميركي - الاسرائيلي - التركي، إلا أن ممارسات الجيش التركي في مناطق جنوب شرق البلاد فاقت كل ارهاب وكل وحشية. استطراداً، تعرف عواصم أوروبا أيضاً ماذا يعني تسليم أوجلان الى عسكر تركيا، وماذا تعني خصوصاً "محاكمته"، لأن القضاء التركي لم يتألق باستقلاليته عندما حكم بحبس نواب أكراد منتخبين لمجرد أنهم عبروا عن التزامهم بقضية شعبهم. ناهيك عن أن حال هذا القضاء لا تختلف عن حال القضاء في أي بلد مماثل يعيش تحت حكم عسكري متنكر بالديموقراطية عبر مؤسسات يقال ظلماً إنها منتخبة. لكن تركيا تنفرد بميزة تسجل لها، إذ ان الانتخابات فيها يمكن أن تكون نزيهة إلا أن العسكر يحتفظون ب "حق" قبول نتائجها أو رفضها. لكن أطرف ما رافق وصول اوجلان الى ايطاليا وطلبه اللجوء السياسي هو أن وزارة العدل باشرت إعداد قانون لإلغاء عقوبة الاعدام بغية التمهيد لتسلم اوجلان. والحكمة من وراء ذلك أن ايطاليا حيث عقوبة الاعدام ملغاة لا تستطيع تسليم أي مطلوب لبلد لا يزال يعتمد هذه العقوبة. وهكذا يذهب الاصرار التركي الى حد تغيير القوانين بسرعة من أجل تحقيق الهدف، أي تسلم "آبو" زعيم الأكراد الأتراك. ما أن يُسلَّم حتى يتصرف العسكر به كيفما شاؤوا، وهم لا يريدونه حياً في أي حال، ثم انهم لن يقدموه الى محكمة مدنية، ولن يتهموه بأقل من "الخيانة العظمى"، ولن يمنعهم أحد من انتهاك قانون الغاء عقوبة الاعدام استثنائياً لمجرد التخلص من العدو الرقم واحد للنظام العسكري... والأكثر طرافة ان الرئيس سليمان ديميريل عارض مشروع الغاء العقوبة بحجة ان "الرأي العام" ! لا يؤيد الغاءها. ايطاليا حسمت أمرها، وهي لن تسلم اوجلان. والأرجح أنها ستمنحه لجوءاً سياسياً. أصبحت لأنقره قضية جديدة، ماذا ستفعل؟ المشكلة ان لا حدود مشتركة بينها وبين ايطاليا، ثم انها لا تستطيع أن تستخدم رعونتها مع دولة زميلة لها في عضوية حلف الأطلسي. ولن تنفع التصريحات الوقحة والتهديدات في تغيير الموقف الايطالي. قيل ان المانيا قد تطالب بتسلمه لمحاكمته، لكن مثل هذه المحاكمة يمكن أن تتحول محاكمة لممارسات انقره ضد الأكراد. اوجلان مرشح لأن يؤرق تركيا لمزيد من الوقت، وهي مستعدة لبذل الغالي والرخيص للحصول على رأسه، لكنها مهما حصل لن تقوم بأي جهد لحل قضية الأكراد كونها قضية داخلية أولاً وأخيراً. وليست الولاياتالمتحدة من سيلح عليها لتقوم بهذا الجهد.