للصحراء المترامية الأطراف فنونها التي تلوّنها الرّمال... وتصهرها حرارة الشمس صيفاً، ورياح تهب محملة بالرمل تارة، وبأريج نباتات الشيح والقيصوم والعنّاب والحنّاء تارة أخرى. وللصحراء هلال يصير قمراً، ثم يعود هلالاً... ونجوم تضيء الدرب وتوقد الإحساس بالحياة. ثم البحر... وما فعل البحر بأهل عُمان، أو ما فعل العُمانيون بالبحر! هو الذي لوّن حياتهم بألف معزوفة ورقصة في رحلات صيد اللؤلؤ وصيد السمك، وغزو البحار باتجاهات أرجاء العالم المختلفة من طريق الحرير بحراً، الى حب الأرض والشوق اليها، فالعودة الى حيث الأهل والأحباب، ليقص السندباد حكايات رحلاته على مسمع التاريخ... هكذا تنوعت الفنون العُمانية في مناطق البلاد المختلفة، واصطبغت في كل منطقة بإيحاءاتها الخاصة. زائر عُمان اليوم لا يمكنه إلا أن يعيش في عبق التاريخ... وربما كان العُمانيون من أوائل الشعوب العربية اعتزازاً بذلك التاريخ في أفراحه وأتراحه على حد سواء. لأنه يمثل التكوين العريق الذي تنطلق منه أنشطة الحياة المعاصرة، بالجمع الخلاّق بين الماضي والحاضر واستشراف آفاق المستقبل، وما حلم الإنسان من الأزل إلا العدالة والحرية والتكامل الاجتماعي المنبثق من المكونات الذاتية التي ما زال الناس، هناك، يفخرون بها. الفنون العمانية الحديثة ما زالت تعبر عن الذات العُمانية في أصالتها ومعاناتها التاريخية، في تجلياتها الإنسانية في حالات الفرح والحزن، العزيمة والقلق، الحب والهجر، والأمل الذي من غيره لا يكون الفن فناً جديراً بالبقاء. ونظراً الى أن عُمان تتكون من عدد من المناطق المتنوعة، صار الفن العُماني متنوعاً أيضاً، فثمة ألوان في الشمال وألوان في الجنوب، وثالثة في الوسط، وكذا مناطق البحر والشواطىء، ومناطق الداخل الصحراوي، أو تلك القريبة من الصحراء. وعلى رغم أن هذا التلون والتعدد ملحوظ في كثير من البلاد العربية، إلا أن معظم تلك البلاد تركز على فنون العواصم وما يحيط بها، لأسباب ليس هنا مجال بيانها، غير أن الملاحظ في دول أخرى قليلة، ومنها عُمان، أن فنون المناطق المختلفة تتلاقى جميعاً، وتحظى بالاهتمام ذاته من قبل متذوقي الفن والمعتنين به. ظفار والأداء الفني ظفار المنطقة الجنوبية في عُمان. وبالنظر الى أن هذه المنطقة تتكون من تجمعين سكانيين رئيسين هما الناطقون باللهجة العُمانية المعروفة، وباللهجة الجبلية، وبالنظر الى تميّز المجموعتين وغيرهما ممن يشاركهما العيش في تلك المنطقة، فإن الفنون في ظفار اختصت بألوان لا تجدها في المناطق الأخرى للسلطنة، منها الهبوت الذي وان كان يشبه المسيرة الغنائية في الشمال إلا أنه يختلف عنها اختلافاً واضحاً في النص الشعري المستعمل فيها من حيث ألفاظه وتركيبها ومن حيث ايقاعاته وألحانه. ومن أبرز صور التراث الشعبي المعبّر عن الذات المحلية الرقصة المسماة البرعة وهي من فنون الشباب بخاصة لما تحتاجه من جهد جسدي ربما لا يقدر عليه إلا الشباب، هي، إذاً، رقصة شبابية، ويؤديها اثنان معاً، وقد أمسك كل منهما في يده اليمنى بخنجره الذي هو تعبير عن القوة والبأس ويرقص كل منهما بحركة انسيابية منسجمة مع حركة صاحبه الذي يشاركه الرقصة. يتقدمان ويتقهقران، ويدور كل منهما على نفسه دورة كاملة، ثم يلتقي وجهاهما معاً ليكملا الدورة ثم يركعان سوية أمام الفرقة الموسيقية التي تنشد الشعر وتضبط الإيقاع ليضبط الراقصان حركاتهما على ذلك الإيقاع. وأهم الآلات المستخدمة في ضبط موسيقى هذه الرقصة الجميلة هي القصبة والطبل المرواس والطبل الصغير وطبل المهجر والدف وذو الجلاجل، وكلها آلات موسيقية موروثة. والرعة يغلب على كلمات أغانيها الغزل، حتى أنها تنقلك الى ذلك الماضي البعيد، زمن الفراق والرحلات عبر البحار والصحراء، وما يصاحب ذلك من توقّد الحب في نفوس الراحلين والمترقبين عودتهم... تعبير أنيق عن الترابط الاجتماعي الودود... مثلما هي رقصة الشرح التي يؤديها رجلان أيضاً، ولكن على أنغام آلات موسيقية أقل عدداً، هي القصبة والمرواس والمهجر والدف ذو الجلاجل. ومن هذه الرقصات الربوية وهي رقصة تحتاج الى دقة كبيرة في ضبط الإيقاع كما في ترتيب حركة الراقصين... يصطف أربعة رجال في مواجهة أربع نساء... وعلى إيقاع الطبول وأنغام الغناء يتحرك الصفان، كل صف باتجاه الصف الآخر بحيث يمر كل رجل بين امرأتين، وكل امرأة بين رجلين، وبعد ذلك يلتف كل منهم حول نفسه، لتعود الحركة مرة أخرى... وهكذا جولة بعد جولة. وأما الأدوات الموسيقية المستعملة في هذه الرقصة فهي الطبل الواقف، والطبل الجغبوب، والرحماني، والكاسر، وكلها أنواع من الطبول المختلفة الحجم ونوع المادة المصنوعة منها، وهي معروفة في دول الخليج الأخرى... كما تمتاز هذه الرقصة بالتصفيق والزغاريد، وكأنها احتفال بعودة الغائبين. ويبدو أن لكل رقصة من هذه الرقصات مناسبة في أساس انطلاقها وابتكارها القديم. وكلها، فيما أعتقد، انطلقت من كثرة أسفار العُمانيين ورحلاتهم، يزداد عدد الراقصين والآلات الموسيقية بازدياد المسافة التي سيرحل المسافرون عبرها، أو يقدمون منها. حين شاهدت البرعة استولى عليّ إحساس بأن الراقصين سيرحلون في سفرة بحرية بعيدة طويلة للصيد أو التجارة. وأوحت لي رقصة الشرح بسفرة أقرب من ذلك. أما الربوية فإنها واضحة الدلالة على رحلة قد تكون عائلية أو قبلية عبر الصحراء، بملاحظة حركة الراقصين والآلات الموسيقية. وقد لجأ العُمانيون القدماء الى هذه الرقصة بالذات تمهيداً لحروبهم، لما فيها من عاطفة ومظاهر القوة الجسدية. تقاليد الفن في المنطقة الداخلية المنطقة الداخلية من عُمان أكثر ارتباطاً بمفاهيم البادية وتقاليدها وعاداتها، فالمرأة لا تشارك في رقصات هذه المنطقة، كما أن أبرز ما يستعمل فيها من وسائل التعبير الراقص هو السيف، اشارة الى طبيعة متطلبات حياة الصحراء من معارك كثيراً ما كانت تنشب في الماضي بين القبائل. وإذا كانت عُمان، وبقية الدول العربية ذات التراث المشابه، قد تخلصت من المعارك القبلية، فإنها احتفلت بهذا اللون من الفن، كذكرى تاريخية أولاً، ولأنه لم يكن قاصراً على الحروب ثانياً، ولأن الناس ما زالوا بحاجة الى استذكار صور القوة في تاريخهم، ثالثاً. اضافة الى هذه الرقصة، تتميز المنطقة الداخلية من عُمان بأغاني العمل الشائع في تلك المنطقة، وأعني به زرع النخيل، حيث تتضوع فيها روائح البساتين والتأبير وحلاوة التمور العُمانية المشهورة. ومن الرقصات المعروفة في تلك المنطقة، أيضاً، رقصة القصافية وتسمى الرقصة هناك الرزحة وهي رقصة سريعة الإيقاع، يؤديها الشباب، تمهيداً لرقصة الكبار، وهي بمثابة تدريب للشباب على اتقان أداء الرزحة، الإيقاع بسيط بساطة الصحراء، والشعر قصير الأوزان قليل الأبيات، كأنه لعب الخيل أو الفروسية والتدريب عليها... أو ألعاب الجمال ووقع أرجلها على الرمال. والشعر يدور غالباً في معاني الحب والغزل والوصف والفروسية، إضافة الى تلوين محلي خاص عن طريق العازي والطارق والتغرود والونّة وكلها من تأثير البيئة الصحراوية ومعطياتها الفنية المتوارثة، بأصالة وتفرد في المحافظة على التراث وتنميته. المنطقة الشرقية والثراء الفني بالنظر الى أن منطقة صور بالذات تمثل ميناء متواصل العلاقات مع الأرجاء الأفريقية، وأجزاء من جنوبايران وبعض شواطىء الهند والتي كانت تابعة لعُمان، في التاريخين القديم والوسيط، فإن التراث الشعبي الموجود في المنطقة الوسطى يمثل أنماطاً كثيرة ومتنوعة، تجمع الخاصّ المحلي والعامّ المكتسب من تلك العلاقات. وكذا من كون أهالي المنطقة الوسطى يرحلون أيام القيظ الى المناطق الجبلية فيؤثرون في فنونها ويتأثرون بها. أغاني البحر، في هذه المنطقة، تمثل كمّاً هائلاً من أنواع الفنون، حتى أن بعض أهل عُمان يسميها الفنون الأفرو - عُمانية، وهي المتأثرة بالعلاقات مع القسم الأفريقي أيام الإمبراطورية العُمانية... تجد هناك الرزحة والطارق والتغرود والونة والطنبورة أو النوبان، وقد كان العُمانيون يعتبرونها نوعاً من وسائل التطبيب الشعبي لبعض الأمراض، كما كان الحال عند السومريين والبابليين... وبتطور مستويات التعليم، أخذت هذه الرقصات مفهوم التراث الشعبي والتسلية والرياضة البدنية، بعيداً عما صاحبها تاريخياً من معتقدات طبية، فقد تقدمت البلاد بما فيه الكفاية للتخلص من تلك المعتقدات. على أن الأمر ما زال بحاجة الى مزيد من العناية، فقد أثبت الطب الحديث، أن الموسيقى والغناء وأنواعاً معينة من الرقص تشارك في تطبيب أنواع محددة من الأمراض. ونساء هذه المنطقة يؤدين رقصة التشح شح في المناسبات كالمواليد والأعراس والخطوبة والختان، وفي الآونة الأخيرة ظهرت فرق غنائية تؤديها، ويكافئها المدعوون بما يضعونه في اناء معدني تنصبه الفرقة في وسط حلبة الرقص. وهناك الجمبورة وهي رقصة نسائية خاصة، تؤديها نساء المنطقة، حيث يجلسن القرفصاء ثم يتحركن بحركات إيقاعية، ومن شروط هذه الرقصة أن تقترب راقصتان الواحدة من الأخرى، وتلتصق الجبهتان في رقصة جماعية بديعة. منطقة الباطنة بين الرقص والغناء منطقة الباطنة من أكثر المناطق العُمانية تلوناً وتنوعاً في بيئاتها المختلفة، وبالتالي في فنونها المتنوعة. فهناك المناطق الساحلية والمناطق البدوية، فعبر البحر انتقلت الفنون الأفريقية وتلونت بالألوان العُمانية المحلية... الليوا والسباتا والبوم والكتميري... وعلى رمال الصحراء تتثنى حياة الصيادين والتجار التي تعبر عنهم رقصة الهمبل... مسيرة غنائية راقصة يتقدمها طبالان على الكاسر والرحماني، وتشترك فيها صفوف من الرجال ببنادقهم وسيوفهم... ويشارك النساء والأطفال أيضاً في المسيرة إذا كانت ذات دلالة محلية كالتهنئة بعرس أو مولود أو ما الى ذلك من مناسبات تتطلب هذه المشاركة. والرزحة في هذه المنطقة ذات معنى تاريخي مهم لأنها تعبر، في بعض أشعارها، عن مطالب الأهالي التي يقدمونها الى الولاة أو الى الأئمة على أيام حكمهم، عبر المطارحة بالشعر والمبارزة بالسيف، وبقي منها اليوم معنى التضامن الاجتماعي والتكافل بين السكان. وأما العزي فهو المديح والفخر، ويتم عادة بإلقاء الأشعار من دون تنغيم ولا غناء... وتصور طبيعة الإنشاد الشعري الموروث، حيث يتصدّر الشاعر العازي جماعته ممسكاً بسيفه وترسه ويلقي القصائد، ويردد الرجال خلفه هتافات محددة موروثة أيضاً. والطارق من الفنون البدوية الأصيلة كذلك، يغنيه صاحبه وهو على ظهر هجينه ويشارك في غنائه مغنيان، يبدأ الأول ثم يتلقف الثاني الشعر والنغم في نهاية البيت الشعري ليعيد أداءه. وإذا كان الطارق ينشد من على ظهر الهجين، فإن التغرود ينشد من على ظهور الإبل لإثارة حماستها وحماسة راكبها، وواضح جداً المعنى العسكري في كل هذه الفنون. وللذكريات غناؤها الخاص في هذه المنطقة، يؤديه مغن بدوي منفرد يسلي نفسه في رحلته الليلية الطويلة. وللبحر أيضاً وجوده فيما يسميه العُمانيون غناء البحر وهو يتضمن الأغاني المتعلقة بأعمال البحارة بدءاً من إعداد السفينة للإبحار وانتهاء بعودتها من رحلتها. وتتضمن هذه الأغاني الأمل بالعودة والحنين للأهل ومخاطبة السفينة والبحر، على ألوان من اللوعة والألم والشوق. كانت حياة صعبة يتغلب الإنسان عليها بالفن المعبر عن ذاته وآماله وآلامه، لأن الإنسان بالفن يعيش، وبه يكشف للتاريخ وقائع ما كان وما هو كائن وما يأمل أن يكون. منطقة الظاهرة وتشترك منطقة الظاهرة مع منطقة الباطنة في كثير من ألوان التراث الشعبي، ولكنها تنفرد عنها بظاهرتين، واحدة فنية، والأخرى اجتماعية، فالفنية تتجلى في استخدام الظاهرة لأنواع من الآلات الموسيقية غير المستعملة في الباطنة، مثل طبل الكاسر القصير، أو المفلطح، والمزمار المزدوج... وهذا الأخير يشيع عادة في البيئات الزراعية والبدوية. أما الظاهرة الاجتماعية الجديرة بالدراسة فهي مشاركة المرأة في هذه الرقصات على عكس الحال في الباطنة، بمعنى أن المرأة في الظاهرة أكثر حضوراً في هذه الأعمال الفنية، التي تشترك مع الباطنة في غناء الطارق والتغرود والونة والرزحة بالسيف وبالشعر، ولكن مع مشاركة العنصر النسائي في أغلبها. وأخيراً نزور مسندم البحر والجبل يلتقيان لقاء الأزل الخالد في عُمان الجميلة المتوثبة... وهذا هو وصف مسندم. مزيج رائع ساحر بين فنون الرواح وفنون البحر... فنون السيف وفنون الشحوح في تكامل وتنسيق لا تجده في غير مسندم. وعلى رغم أن بعض هذه الفنون يسميه أهل مسندم بأسماء ما يشابهه في مناطق البلاد الأخرى، فإنه في مسندم يبقى ذا نكهة خاصة هي مزيج هذه البيئة الساحرة. وقد كان لموقع مسندم المطل على الطريق البحري الموصل بين عُمان والمحيط الهندي أثره المهم في تلوين فنون مسندم وتنويعها فإن عدداً من الفنون التقليدية وطرق أدائها يفصح عن تأثير الجغرافيا على الفن في هذه المنطقة، كما رأينا تأثيرها في المناطق الأخرى من البلاد. هنا تجد المسيدرة أو الشلة مسيرة شعبية غنائية تنطلق من بيت الشيخ أو أحد وجهاء المنطقة الى مقر المحافظ أو الوالي، ولهذا معناه الخاص، كما أنها تقام عند الاحتفال بالعريس في ذهابه للحمام أو الاستحمام في البحر قبل توجهه الى لقاء عروسه... يتقدم المسيرة في الحالين رجال يحملون التروس والسيوف ويتبارزون أثناء السير ويتقافزون في الهواء على أصوات الطبول. هذا التنوّع الأخّاذ جدير بإسم الفن، لأنه معبر عن بلاده وناسه. * باحث وجامعي عراقي مقيم في لندن.