في ذلك الوقت كان الرئيس المصري جمال عبدالناصر يشعر ان عليه ان يخطو خطوة جديدة في اتجاه تحقيق تصوره الخاص للاشتراكية. كان ذلك زمن تقاربه مع دول العالم الثالث وتأثيره في حركات مثل عدم الانحياز، ولكن كذلك زمن التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفياتي الذي كان يقدم مساهمة اساسية في بناء السد العالي وايضاً في ادخال مصر، وبسرعة، عالم التصنيع الثقيل. بالنسبة الى عبدالناصر كان يتعين التفريق بين تحالفه مع الاتحاد السوفياتي وموقفه من الشيوعيين المصريين. وكان ذلك التفريق يكمن - أساساً - في سلوكه سبلاً اشتراكية، لا تأخذ مواقف الشيوعيين المصريين بعين الاعتبار. بالنسبة الى عبدالناصر كانت ثمة امكانية لولوج "اشتراكية عربية" لا علاقة لها بصراع الطبقات وديكتاتورية البروليتاريا. كانت اشتراكيته شيئاً يتأرجح بين نمط متقدم من الديغولية، ونمط معتدل من"التيتوية". وهكذا، ازدهرت، في ذلك الحين، في الاقليمين الجنوبي والشمالي للجمهورية العربية المتحدة، الكتابات التي تحلل الاشتراكية اليوغوسلافية وتثني على حركات التحرر الوطنية وتنحو باتجاه تعزيز العالم الثالث، وذلك بالتواكب مع اضطهاد الشيوعيين وسجنهم. العماد الاول لسياسة عبدالناصر الاقتصادية كان يقوم اولاً على "دفع البورجوازية الوطنية في اتجاه المساهمة في بناء الاقتصاد الوطني والتصنيع الثقيل" غير انه سرعان ما تبين ل "الريّس" ان هذه البورجوازية لا تهتم الا بالمردود السريع الذي يمكنه ان تدرّه استثماراتها. من هنا فان التصنيع الثقيل والاقتصاد على المدى الطويل لا يدخلان في حساباتها. لذا، كان لا بد من التأميم. كان لا بد للدولة من ان تضع يدها على مؤسسات مالية كبيرة، ما يمكنها من ايجاد الرساميل اللازمة لدعم الاقتصاد الناهض. وهكذا، في الوقت الذي راحت فيه السلطة السياسية تبدل المؤسسات القومية بمؤسسات اشتراكية الاسم والسمات، اقدم عبدالناصر، يوم الثاني عشر من شباط فبراير 1960 على واحدة من أهم الخطوات على طريق تحقيق المجتمع الاشتراكي الذي يحلم به. اذ انه، في ذلك اليوم، أقدم على تأميم اكبر مجموعتين مصرفيتين في مصر، وهي "البنك الوطني" و"بنك مصر". ولئن كان تأميم البنك الوطني خطوة متوقعة ولا تحمل الكثير من الابعاد فان تأميم "بنك مصر" كان خطوة جذرية وذات دلالات لا تنتهي فالحال ان "بنك مصر" الذي كان، في ذلك الحين، يمتلك اكثر من 75 في المئة من ودائع الرساميل المصرية، كان مرتبطاً بشكل وثيق بتاريخ مصر القومي في القرن العشرين كما كان يعتبر "دولة في قلب الدولة" اذ ان البنك الذي كان أسسه الاقتصادي الكبير طلعت حرب، بعد ثورة 1919 التي كانت اول اشارة على انبعاث الوطنية المصرية، لم يكن مصرفاً مالياً وحسب، بل كان - كذلك - مؤسسة صناعية وتجارية لا مثيل لها في طول الشرق الاوسط وعرضه. فهو كان ذا نشاطات متنوعة، تبدأ من المصنوعات الخفيفة الى النشاطات السينمائية، الى صناعة الانسجة والمأكولات والصناعة السياحية، ناهيك بقطاع الخدمات المزدهر. كان البنك المصري يمتلك عن طريق شركاته الشقيقة 60 في المئة من صناعة النسيج في مصر، و20 في المئة من الصناعات الانتاجية المختلفة. وفي مجال السينما كانت عبارة "صُوّر في ستديو مصر" او "أُنتج من قبل شركة مصر للتمثيل والسينما" كافية لاضفاء طابع الجودة على الفيلم. لكن عيب هذا البنك، في نظر السلطات الناصرية، كان يكمن في عدم ايمانه بالصناعة الثقيلة، وعدم تقدمه للمساهمة في اية خطة انتاجية من خطط الدولة، وعدم استجابته لما كان يطلب منه في هذه المجالات. ومن هنا جاء قرار تأميمه، وهذا القرار، ضمن اطار قرارات تأميمية اخرى متنوعة لكنها تقل عنه اهمية جاء ضمن خطة عشرية تمتد من العام 1960 الى العام 1970 ويفترض بها ان تخلق مليون فرصة عمل جديدة وان تتيح للبلد ان يخرج من حالة التبعية ازاء الاجنبي في مجال الاعتدة والمعدات الثقيلة. في ذلك الحين علقت صحيفة "الاهرام" على تأميم بنك مصر بقولها: "لقد وصل هذا البنك الى مستوى من الاحتكار، عن طريق شركاته وفروعه، يجعله قادراً اذا شاء ان يفرض ارادته على الدولة". بقي ان نذكر ان سيطرة الدولة على "بنك مصر" في ذلك اليوم، وعلى غيره من المؤسسات المالية تواكب مع انشاء ما سمي يومها ب "المجلس الاعلى للمؤسسات العامة" الذي سلّم للمشير عبدالحكيم عامر، وسيتبين لاحقاً ان قيامه تواكب مع بدايات مرحلة الفساد المالي والاداري والبيروقراطي التي عانت منها مصر طوال العقود التالية.