لا يمكن أن يكون صحيحاً أن التاريخ يعيد نفسه بالضبط، فالناس تتغير والظروف تتغير، والمرء، كما قال الفيلسوف اليوناني القديم، لا ينزل الى النهر الواحد مرتين، إذ أن النهر الآن ليس هو النهر الذي كان، والشخص الذي ينزل فيه اليوم ليس هو الشخص نفسه الذي نزل فيه بالأمس. ولكن لا يمكن إلا أن يكون صحيحاً أن التاريخ يعيد نفسه لدرجة ما، إذ لو لم يكن هذا صحيحاً لما كانت هناك أية فائدة من قراءة التاريخ. فما الفائدة من معرفة الماضي إذا كان المستقبل منبت الصلة به، ومختلفاً تمام الاختلاف عنه. لا بد إذن، ونحن نفكر في الأزمة الاقتصادية التي أصابت جنوب شرقي آسيا، ثم امتدت الى روسيا، وتهدد بالزحف الى اميركا اللاتينية وغيرها، أن نتعلم من دروس الماضي من دون أن نظن أن الماضي يمكن ان يتكرر بحذافيره. والماضي الذي أريد أن أتعلم منه في هذه الحالة، هو أزمة الاقتصاد الغربي في الثلاثينات، والكساد العظيم الذي حلّ بالعالم نتيجة لذلك، وقيام النظرية والسياسة الكينزية بمحاولة علاج الأمر، ونجاحها فعلا في ذلك نجاحاً باهراً. لقد تكرر القول من المعلقين والمحللين للأزمة الراهنة في جنوب شرقي آسيا ولما أشاعته من خوف من ان تنتشر الى أماكن أخرى في العالم، تكرر القول بأن العالم مهدد بالدخول في أزمة تشبه أزمة الثلاثينات، من شيوع الكساد العظيم، وانخفاض كبير في معدلات النمو، وارتفاع شديد في معدلات البطالة، وانتهاج دولة بعد أخرى لسياسة "إفقار الجار"، أي إحاطة كل دولة لنفسها بسياج من الحماية تطرد به السلع المستوردة من الدول الأخرى، لحماية منتجيها المحليين، وضمان استئثارهم بالسوق الوطنية، الأمر الذي يهدد بمزيد من الكساد للجميع ومزيد من البطالة في كل مكان. طبعاً لا يتوقع احد أن يحدث شيء شبيه بالضبط بما حدث في الثلاثينات، فالتاريخ لا يعيد نفسه بالضبط، ولكن الخوف في محله ومبرر تماما، فقد يعود شيء شبيه بما حدث في الثلاثينات، له مثل كآبته ومآسيه، من دون ان يتخذ بالضرورة الشكل نفسه أو يذهب الى الدرجة نفسها من القسوة. الفارق المهم حقاً، والذي لا بد أن يترتب عليه اختلاف في الآثار، ومن ثم يستدعي علاجاً مختلفاً، هو أن أزمة الثلاثينات حدثت في ظل اقتصاد يتكون في الاساس من اقتصاديات وطنية، أما ما يحدث الآن فهو يحدث في ظل درجة عالية من "العولمة". طبعا كانت كل دولة من الدول الرأسمالية في الثلاثينات تتأثر بدرجة أو باخرى بما يحدث في غيرها من الدول، ولكن درجة ارتباط بعضها ببعض، سواء عن طريق التجارة أو الاستثمار أو المضاربة، كانت أضعف بكثير منها الآن. هذا هو ما يجعلنا نتكلم عن اقتصاديات وطنية في الأساس في الثلاثينات وعن العولمة الآن. ولكن هناك أوجه شبه مهمة، مع ذلك لا بد أيضا من الالتفات اليها. ففي كلتا الحالين الثلاثينات والتسعينات كانت الفلسفة الاقتصادية السائدة وقت حدوث الازمة هي فلسفة الحرية الاقتصادية: دع الأفراد والشركات والسلع والخدمات ورؤوس الاموال تسير كما تشاء لها دوافعها الخاصة، وليكن تدخل الدولة في حده الأدنى، وكلما تركت الأمور حرة من دون تدخل، كان هذا في مصلحة الجميع. كانت هذه هي الفكرة المسيطرة على الاقتصاديين الكبار في كل مكان في الثلاثينات باستثناء العالم الاشتراكي طبعاً، وهذه هي ايضا الفكرة المسيطرة على العالم الآن بما في ذلك العالم الاشتراكي سابقاً، وتحمل لواءها المؤسستان الدوليتان العتيدتان: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. جاءت الأزمة في الثلاثينات والتسعينات فهزّت أركان هذه الفلسفة بشدة، وأشاعت كثيرا من الشك حول صلاحيتها: هل يجوز ان نترك الحوافز الفردية تفعل ما تشاء في الاستثمار والانتاج، ونحن نرى النتيجة القبيحة ماثلة أمام اعيننا من بطالة وفقر وانخفاظ الدخول والانتاج؟.. هكذا قال الناس في الثلاثينات، وكذلك الآن: هل يجوز ان نترك رؤوس الاموال تأتي وتذهب بين دولة وأخرى، لا يحركها إلا حافز الربح، وحتى ولو تركت وراءها اختلالات فظيعة في موازين المدفوعات، وإفلاساً في البنوك والشركات، وتخفيضات هائلة في قيمة العملات، ومن ثم ايضا انخفاضاً شديداً في الناتج والدخل وارتفاعا في البطالة؟.. هكذا يقول الناس الآن. جاء "كينز" في الثلاثينات فقال إنه لا حلّ إلا بتدخل الدولة لتصحح أخطاء الحوافز الخاصة، فتقوم بما لم يقم به الافراد، كشراء ما لم يشتروه، واستثمار مدخرات لم يقوموا باستثمارها، بل ولا بد من تقييد ما كان حراً، كتخفيض الاستيراد المنافس للانتاج المحلي. ثار كثيرون من الاقتصاديين في وجه كينز، وقد عزّ عليهم أن يثار أي شك في صحة ما آمن به الاقتصاديون لأكثر من قرن ونصف قرن، ولكن كينز انتصر في النهاية. الآن يبدو أن حلاًّ مشابهاً للحل الكينزي أصبح مطلوباً، وإن كان ايضا مختلفا عنه، فلا حلّ الآن، في ما يظهر، إلا مزيد من التدخل بتقييد حركات رؤوس الاموال، خصوصا قصيرة المدى، بين دولة وأخرى، وفرض الرقابة عليها. ولكن التدخل هنا لا بد أن يكون من جانب سلطة فوق الدول، أي وفقا لاتفاقات تلتزم بها أكثر من دولة وتنظم حركات رؤوس الاموال في ما بينها لتجنب حلول الضرر بالجميع. الفرق بين الحالتين ان كينز كان يدعو الدولة الوطنية للتدخل في الاقتصاد الوطني. والمطلوب الآن تعاون اكثر من دولة للتدخل في حركات رؤوس الاموال بين دولة وأخرى. كان الحل الكينزي هو الحل الوطني لرأسمالية وطنية، والمطلوب الآن حل عالمي لرأسمالية العولمة. ولكن لا بد ان نتوقع أن نسمع الآن، كما حدث من قبل في الثلاثينات، الهمهمات المعترضة والساخطة نفسها، التي يعزّ عليها بشدة أن تهجر الفلسفة السائدة، فلسفة الحرية الاقتصادية الكاملة، وأن يثار أي شك في صحة ما جرت العادة على الاعتقاد بصحته. ولكن كينز نفسه سبق ان حذرنا بشدة من هذا الأمر بالضبط، عندما قال إن تأثير الافكار والنظريات السائدة، ولو كانت ظروف الواقع تقضي بمخالفتها، أشد سطوة على الاقتصاديين والسياسيين مما نظن، والتخلص منها أصعب منالاً بكثير، هذا صحيح تماماً، ولكن التاريخ يعلمنا أيضا أن الحاجة في النهاية تفرض نفسها على الجميع، وأن الأفكار التي لم تعد ثمة حاجة إليها لا بد أن تفسح مكانها في النهاية لأفكار جديدة. * كاتب وجامعي مصري.