واكب التغيرات الاقتصادية على مر العصور، تطور الفكر الاقتصادي من خلال مدارس يمثل كل منها اقتصاديون يحللون ويفسرون أسباب التغيرات الاقتصادية، ويقترحون وسائل العلاج في أوقات الأزمات. وقد عرفت المجتمعات الإنسانية الأزمات والتقلبات في اقتصادهم، وذهب الاقتصاديون يقترحون وصفات مختلفة تتراوح بين الحرية التي يجب أن تمنح للأسواق والمؤسسات الاقتصادية، وبين وصفات تدخل الدولة في إدارة الأسواق والمؤسسات. ولم تنفع أفكار الاقتصاديين الكلاسيكيين وحماسهم لحرية العرض والطلب في التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم في الثلاثينيات، ما أتاح الفرصة لأفكار الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز الذي تحدى أفكار الاقتصاديين الكلاسيك وأظهر فشل الأسواق في تصحيح اختلالاتها على الأقل في الأجل القصير (أما في الأجل الطويل فلا داعي للانتظار لأننا، على حد قوله في كتابه المنشور عام 1936م، «سنكون من الأموات». وقدم كينز وصفة علاجية فعالة للأزمة الاقتصادية ترتكز على ضرورة تدخل الدولة لعلاج الاختلالات التي سببت الأزمة من خلال خفض الضرائب والرسوم وزيادة الإنفاق الحكومي. وتؤدي زيادة إنفاق الدولة على المؤسسات الإنتاجية إلى زيادة الطلب على منتجاتها فتزيد من حجم الإنتاج وتتوسع في التوظيف، وبالتالي تولد دخولا إضافية للعاملين، ما يزيد من الطلب الفعال الذي يدفع بعجلة الإنتاج والتشغيل فيعيد للاقتصاد حيويته. استمر هذا النهج الكينزي بعد الحروب العالمية، مثل مشاريع مارشال وما شابهها، وحتى عندما أصيب العالم بالأزمة الاقتصادية عام 2008م نصح العديد من الاقتصاديين بإعادة تطبيق أفكار كينز من خلال زيادة الإنفاق الحكومي، وهذا ما حدث فعلا في كثير من دول العالم، ولكن بطبيعة الحال فإن اختلاف المتخصصين أمر واقعي ومفيد، فلا يزال في العالم اقتصاديون يؤمنون بأفكار المدارس الكلاسيكية والجديدة، ولايرون ما يراه كينز في ضرورة لتدخل الدولة في الأسواق، بل يعتقدون أن التدخل الحكومي هو الذي تسبب في الاختلالات والأزمة الاقتصادية في العالم. وعللوا ذلك بقصص أزمة الرهن العقاري وأزمة الائتمان وعدم استقرار أسعار الصرف. ويجادل الكينزيون في ذلك بأن السبب في الأزمة الاقتصادية ليس في التدخل الحكومي، ولكن بسبب فشل الأسواق نتيجة ضعف الشفافية ونقص المعلومات، وكثرة عناصر عدم اليقين في الاقتصاد، وأن الحرية التي منحت للأسواق أدت إلى شعور بعض المؤسسات بالقوة وحاولت التصرف بأسلوب الحكومات، ما ترتب عليها فساد. وفي وسط هذا الجدل يظهر أصحاب الحلول الوسطى أو التوفيقية للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية من خلال اقتراح حلول تتضمن توليفة من حرية الأسواق وتدخل الدولة، فحرية الأسواق لا يجب أن تكون بصورة مطلقة، خاصة في ظل غياب الوازع الأخلاقي والقوانين الصارمة، ووجود رجال أعمال يديرون أعمالهم ويتصرفون بأساليب الحكومة. ومن جهة أخرى، يجب أن يبتعد تدخل الدولة عن مفاهيم وأساليب المشاريع الخيرية، فالهدف هو خلق المواطن المنتج لإعطائه منتجات جاهزة ومستوردة. وفي ظل هذه التوليفة التوافقية يمكن أن تتحقق الحلول المتوازنة التي تعيد الاقتصاد إلى مساره السليم ثم تدفعه للأمام. كما ينبغي تضمين حرية الأسواق حرية المشاريع المتوسطة والصغيرة ودعمها لتنمو. وعندما تتدخل الدول فإن التدخل الحكومي يجب أن يوازن بين تخفيض الرسوم والضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي على الصناعات والبنية الأساسية وتقليص السياسات التي تنبثق من مفاهيم اجتماعية أو خيرية، أو إعطاء المواطن مكافآت ليست مقابل عمله، وتفعيل السياسات الاقتصادية التي تحفز الطلب الفعال وتكون الأولوية لزيادة الإنفاق على البنية الأساسية لأنه يوفر فرص عمل متزايدة ويغير مفاهيم الثروة لدى المواطن الصالح ليصبح عاملا منتجا. * أستاذ الاقتصاد جامعة الملك عبد العزيز نائب المدير التنفيذي مركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا (سيداري)