وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مترو الرياض    إن لم تكن معي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صدام الحضارات "خرافة" .. ماذا عن قوس الأزمات الإسلامي ؟
ساعتان هزتا العالم.. الحادي عشر من سبتمبر 2001, الأسباب والنتائج
نشر في اليوم يوم 11 - 09 - 2002

--اسم الكتاب: ساعتان هزتا العالم.. الحادي عشر من سبتمبر 2001، الأسباب والنتائج
-المؤلف: فريد هالداي
* عدد الصفحات: 256
-الطبعة: الأولى 2001
-الناشر: London: Dar Al-Saqi, 2002
هذه العولمة نفسها تحمل في طياتها ما يكرس الوضع القائم من حيث انتشار الظروف الظالمة والمعيشية القاسية في حق مئات الملايين من الناس بما يوفر بيئات مولدة للعنف والتطر
وفر حدث سبتمبر فرصة ذهبية لإعادة ترتيب جدول الأولويات العالمي ووضع قضية ما يسمي ب(مكافحة الإرهاب الدولي) على رأس ذلك الجدول, واستغلال فرصة التوافق العالمي على إدانة جريمة نيويورك لتمرير أجندات أخرى لا تعبأ بسيادات الدول وتسهل عمليات التدخل في شؤونها الداخلية
كامبردج/ بوك ريفيوز
يسجل البروفسور فرد هاليدي, أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية, والمختص في شؤون وتاريخ الشرق الأوسط الحديث, سبقاً ريادياً بإصداره هذا الكتاب الذي هو الأول, أكاديمياً ورصانة, حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
وكسائر المشروعات الريادية في أي حقل من الحقول, أو أي موضوع محدد, فإن مقاربة هاليدي هذه تترك انطباعاً أولياً, كما هو حال كل الكتب التي تسارع في الصدور حول حدث لايزال طازجاً ولاتزال نتائجه تتداعى حتى لحظة الكتابة, بأنه إلى جانب الريادة, فإن العجلة وما تنطوي عليه من ارتباك قد تقلل من قيمة الكتاب. وهذا في الواقع انطباع أولي لا مناص عنه يتبادر إلى الذهن. فصدور كتاب رصين الصبغة حول تلك الأحداث في غضون أقل من ثلاثة أشهر من وقوعها, هو أمر يبعث على الدهشة لكل من يدرك صعوبة الكتابة الرصينة.
غير أن مطالعة ساعتان هزتا العالم تؤكد أن هذا الكتاب يتجاوز ذلك الانطباع الأولي. والسبب في ذلك أن خبرة المؤلف ومتابعته اللصيقة لتاريخ الشرق الأوسط, وكتاباته خلال ثلاثين سنة ماضية, مكنته من أمرين: الأول هو ممارسة الاقتصاد الشديد في إطلاق التعميمات التي ينجر إليها كثير من المؤلفين الغربيين الآخرين, وبالتالي تقديم رؤية متوازنة تترك الأسئلة مفتوحة لمزيد من النقاش والبحث والتأمل من دون أن يغلق ملف نقاشها بحكم صارم أو بمقولة سطحية. والأمر الثاني هو أنه استثمر كتاباته السابقة, خلال السنوات القليلة الماضية حول موضوعات ذات صلة وثيقة بالخلفيات والجذور التي قادت إلى أحداث سبتمبر فوظفها وأضافها إلى كتابه هذا بعد إجراء بعض الإضافات التحريرية اللازمة, وهكذا بدت تلك الكتابات القديمة/الجديدة متوائمة وغير مقحمة على تحليل الحدث الساخن نفسه, بل مهدت لفهمه وفهم أبعاده.
لماذا يعتبر حدث 11 من سبتمبر حدثاً معولماً (globalized)؟
في البداية يذكر هاليدي أن هذا الحدث لم يكن متوقعاً, في حجمه ولا في طريقة تنفيذه, أو النتائج التي أدى إليها. وهو يصنفه إلى جانب أحداث كبرى في التاريخ لم تكن متوقعة مثل غزو ألمانيا للاتحاد السوفياتي عام 1941, وما قاد إليه من سيطرة ألمانية على أوروبا في الحرب العالمية الثانية وتهديد باجتياح كامل القارة قبل إلحاق الهزيمة بالقوة النازية الجبارة. وأيضاً مثل المباغتة العربية لإسرائيل سنة 1973, وما قادت إليه من خلخلة في ميزان القوى العسكري والنفسي في الصراع العربي الإسرائيلي, وعلى المنوال نفسه غزو العراق للكويت سنة 1990, الذي تسبب في تدمير القوة العربية الأهم في المنطقة آنذاك وإعادة تشكيل التحالفات في منطقة الشرق الأوسط كله ومهد الطريق لمؤتمر مدريد. إضافة إلى عنصر المفاجأة, فإن حدث 11 سبتمبر كما يراه هاليدي يمتاز بأنه حدث عولمي, أو معولم globalized, بامتياز.
ومعنى أن يكون الحدث معولماً هو أن تكون له تداعيات تتجاوز حدود الفعل القريبة, وتأثيرات تتجاوز الأطراف المباشرة المنخرطة فيه. وفي حال 11 سبتمبر فإن المنعكسات تعدت بشكل فائق ما حل بتنظيم القاعد مثلاً (بفرض ثبوت أنه الفاعل) والولايات المتحدة الطرف الرئيس في الحدث, حيث عملت تلك التداعيات والتأثيرات ولاتزال تعمل على إعادة تشكيل التحالفات والأوضاع العالمية بشكل أو بآخر. ومن الأمثلة على الأحداث المعولمة ذات التأثيرات العالمية الواسعة يعدد هاليدي أحداثاً مثل اغتيال ملك النمسا وزوجته في سراييفو عام 1914, وهو الحدث الذي مثل الشرارة التي أطلقت الحرب العالمية الأولى, وحدث القصف الياباني للأسطول الأمريكي في بيرل هاربر عام 1941, والذي أدى إلى دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية لصالح دول التحالف وهو الدخول الذي حسم نتيجة الحرب لصالح دول التحالف, بريطانيا وفرنسا وروسيا, وكذلك أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 التي كادت أن تقود العالم إلى أول حرب نووية كارثية.
ومن هنا فإن هاليدي يرى أن تفجيرات 11 سبتمبر تتميز أيضاً بأن لها تداعيات عميقة على مستوى العالم, ولذا فهي تتسم بسمة معولمة . فهي أولاً قلبت التوجهات الأمريكية في السياسة الخارجية التي كانت تميل إلى الانعزال عن العالم والالتفات إلى الشؤون الداخلية أكثر فأكثر في السنوات الأخيرة. وكانت سيطرة الجمهوريين المحافظين على الكونغرس حتى خلال حقبة الديمقراطيين برئاسة بيل كلينتون, ثم ما آلت إليه الأمور من فوز جورج بوش الابن بالرئاسة تكريساً للنزعة المحافظة في السياسة الخارجية. وقد تمثلت هذه النزعة في تبني مشروع الدرع الصاروخية, ثم الانسحاب من اتفاقية كيوتو للبيئة, وعدم التصديق على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة البيولوجية, ثم أخيراً إلغاء معاهدة الحد من انتشار الصواريخ العابرة للقارات.
ومن المعلوم أن هذه السياسة الانفرادية, قبل أحداث سبتمبر, قد أثارت الدول الكبرى في العالم ضد الولايات المتحدة, وبرزت تصدعات في العلاقة عبر الأطلسي بين واشنطن وبروكسل, فضلاً عن التوتر مع الصين وروسيا. وكان أثر حدث سبتمبر هنا هو في قلب كل تلك الصورة, فقد أقحم الحدث الولايات المتحدة في قلب السياسة الدولية مرة أخرى, ليس كفاعل أساسي ومهيمن, بل وكمسير وقائد لتشكيلة جديدة من التحالفات العالمية. وثانياً, قرب حدث 11 سبتمبر بين روسيا تحديداً والولايات المتحدة تحت شعار مكافحة الإرهاب الدولي, وثالثاً, التصدعات الأوروبية الامريكية وأعاد توثيق التحالف عبر الأطلسي. ورابعاً, قاد 11 من سبتمبر إلى بروز تغير عميق في آسيا لجهة انخراط الهند في الجهد الأممي بقيادة واشنطن ضد مكافحة الإرهاب. وخامساً, وفر حدث سبتمبر فرصة ذهبية لإعادة ترتيب جدول الأولويات العالمي ووضع قضية ما يسمي ب مكافحة الإرهاب الدولي على رأس ذلك الجدول, واستغلال فرصة التوافق العالمي على إدانة جريمة نيويورك لتمرير أجندات أخرى لا تعبأ بسيادات الدول وتسهل عمليات التدخل في شؤونها الداخلية. هذه التداعيات وغيرها مما ما زلنا نراه راهناً هو الذي يفرق بين حدث سبتمبر ويعطيه السمة العولمية, وأحداث أخرى مثل حرب الشيشان أو حرب البوسنة أو حتى القضية الفلسطينية, فهي أحداث وقضايا على أهميتها لم تؤثر في إعادة تشكيل السياسة والتحالفات الدولية, أو تقلب جدول الاهتمامات العالمي, وتشكل مفصلاً تاريخياً في طبيعة العلاقات الدولية كالذي شكله يوم 11 سبتمبر.
الخلفيات التاريخية لحدث سبتمبر
يرى هاليدي أن الأسباب والخلفيات التي تقع خلف أحداث سبتمبر هي حاصل جمع تراكمات من العوامل والظروف التاريخية تعود جذورها إلى عقود طويلة ماضية, وأنه من دون استنطاق تلك العوامل والأسباب فإن فهمنا لهذا الحدث وأبعاده ودوافعه يظل مبتوراً. ويصنف هاليدي مجموعتين من الأسباب, الأولى تاريخية وعامة على مستوى شكل العلاقات الدولية, والثانية معاصرة ومباشرة, وعلى مستوى عدد من الدول والمجتمعات.
وضمن المجموعة الأولى يرى هاليدي أن حقبة الاستعمار الطويلة, ومن ثم حقبة الحرب الباردة الطويلة أيضاً تشكلان الخلفية التاريخية الأساسية التي تولدت عنها الظروف التي أنتجت التطرف الذي خطط لحدث سبتمبر ونفذه. ويضيف أيضاً إلى هذين المحركين التاريخيين, محركا ثالثا هو العولمة الراهنة, على مستوى العالم, وما أنتجته من توترات وعدم مساواة في توزيع الثمار والفوائد التي جاءت بها. السبب الأول, أي الاستعمار, مسؤول كما يرى هاليدي, عن وجود الكثير من التشوهات السياسية والاجتماعية التي خلفتها تلك الحقبة في بنية العالم الثالث. فالاستعمار ترك البلدان التي استعمرها غارقة في وحل مشكلات عميقة. وفيما يتعلق بالشرق الأوسط تحديداً, المتهم الرئيسي في إنتاج الإرهاب العالمي الراهن! , ترك الاستعمار مشكلات معقدة منها ما هو سياسي كالمسألة الكردية, ووضع الكويت (!), وكذلك القضية الفلسطينية, التي هي أبرز تلك المشكلات وأكثرها توليداً للعنف والتوتر. ومنها ما هو اجتماعي متعلق بالتراتبية الداخلية للمجتمعات وتكريس نخب غنية حاكمة مدعومة من الخارج, مقابل شرائح فقيرة واسعة. ومنها ما هو ثقافي متعلق بمعنى الهوية وأزمة الحداثة والتحديث ونمط العلاقة مع الغرب. وكان أن ظلت تلك المشكلات مخزناً يعج بالعتاد لكل التعبيرات الناقمة على الغرب والخارج, سواء أكانت تعبيرات قومية, أم ماركسية, وحديثاً دينية.
أما السبب الثاني، الحرب الباردة, فإن إفرازاته مازالت تنتج توترات ومشكلات سياسية وتطرفا في أكثر من ركن في العالم, مثلاً في الشرق الأوسط (فلسطين), وفي أفريقيا (أنغولا), وفي آسيا (أفغانستان), وهكذا. ففي أفغانستان تحديداً, بكونها مرتبطة ارتباطا وثيقا بحدث 11 من سبتمبر, فإن من أهم الأسباب التي قادت إلى الحرب الأهلية والفوضى هناك خلال العقدين السابقين أو يزيد هو كون ذلك البلد كان أحد مسارح الصراع الدائم والعنيف بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة. وتمترس كل منهما بطرف أو بأطراف محلية خلال ذلك الصراع. بل إن الأدهى من ذلك, كما يرصد هاليدي, هو أنه حتى بعد الانسحاب السوفياتي من هناك, بحسب اتفاق عام 1988 بين السوفيات والامريكيين, الذي اشترط عدم تسليح الولايات المتحدة ل (المجاهدين) فإن إدارة ريغان استمرت في سياسة تسليحهم لإسقاط حكم نجيب الله, ودعمت حركات المجاهدين سياسياً ودبلوماسياً إلى أن سقط النظام عام 1992. ثم في حقبة لاحقة تغيرت الأحصنة, وتحول الدعم الامريكي/الباكستاني مع منتصف عام 1994 إلى حركة طالبان بعد أن انتصرت بدورها على خصومها واستولت على كابل عام 1996.
أما السبب الثالث فهو انعدام المساواة الذي وسم العولمة الحديثة بما وسع الهوة بين أغنياء العالم وفقرائه. وهنا يرى هاليدي, ومن دون أن ينزلق إلى تحميل العولمة كل الشرور التي يعانيها عالم اليوم, أن هذه العولمة نفسها تحمل في طياتها ما يكرس الوضع القائم من حيث انتشار الظروف الظالمة والمعيشية القاسية في حق مئات الملايين من الناس بما يوفر بيئات مولدة للعنف والتطرف.
أما ضمن مجموعة الأسباب المباشرة والخاصة بالدول الإسلامية فإن هاليدي يرى أن هناك أزمة يطلق عليها أزمة آسيا الغربية , وهو يراها أزمة تطال الدول العربية وإيران وباكستان وأفغانستان تحديداً. تتجسد هذه الأزمة من خلال عدة مظاهر, أو حقائق عبر هذه الدول: أولها تحول الصراعات والأزمات التي ضربت هذه المجتمعات والدول كلا على حدة إلى صراعات وأزمات مترابطة وتؤثر في بعضها البعض بشكل وثيق. وثانيها هشاشة دولة ما بعد الاستقلال واستمرار أزمة الشرعية في هذه المجتمعات, وثانيها انبعاث الأصوليات الإسلامية وسيادة التطرف العابر للحدود فيها وعبرها. كل ذلك, معطوفاً على الخلفية التاريخية التي توفرها مجموعة الأسباب الأولى, آل إلى تنام مطرد للعداء للولايات المتحدة وسياستها. مجموع ذلك كله خلق الأجواء الطبيعية لبروز تعبيرات التطرف القصوى التي تجسدت أبشعها في تفجيرات نيويورك وواشنطن. وهذا إن كان يساعدنا على فهم خلفيات تلك الجريمة فهو لا يبرر بحال قيامها كما لا يقلل بأي حال آخر من وحشيتها وقسوتها البالغة جراء استهدافها عن سابق قصد وتخطيط لمنشآت مدنية تعج بآلاف المدنيين.
وتختلف مقولة أزمة آسيا الغربية التي يطرحها هاليدي عن مقولة قوس الأزمات الإسلامي , من باكستان حتى المغرب, التي يتبناها كثيرون ويعتمدونها أساسا لخرافة الخطر الإسلامي البديل عن الخطر الشيوعي . فأطروحة هاليدي, سواء فيما يتعلق بآسيا الغربية أم بأي منطقة أخرى, تظل متمسكة بالجذر السياسي والاقتصادي والاجتماعي كأساس لتحليل الظواهر والأزمات, فيما المقولة الثانية تعطي الأولوية للفوارق الثقافية والحضارية وتعتبر أن الصدام بين المختلفين حضارياً سببه ليس الأزمات السياسية والاقتصادية التي يمكن حلها, بل سببها التنافر الثقافي والحضاري الذي لا حل له. لكن علينا أن نضيف هنا أن ما يظل مبهماً في أطروحة هاليدي هو التساؤل عن المميز الذي يميز أزمة غرب آسيا عن غير مناطق العالم عندما يعدد لنا ملامح تلك الأزمة -ضعف الدولة, هشاشة الانتماء, التطرف- ونرى قريباً لتلك الملامح في العديد من دول العالم, وسط أفريقيا, بعض آسيا الوسطى, أو أطراف من أمريكا اللاتينية والكاريبي. فكيف تشتغل هذه الأزمات هنا لتولد ما تولده من تطرف إسلامي؟, ولا تشتغل نفس الأزمات هناك لتولد تطرفاً مسيحياً أو أيديولوجياً مناظراً هناك؟ وهاليدي نفسه لا يفتأ يذكرنا بأن الأصولية ليست مقصورة على العالم الإسلامي, فهو يفصل في شرح الأصوليات الأخرى مثل الأصولية اليهودية والأصولية المسيحية والأصولية الهندوسية.
صدام الحضارات : خرافة
لكن يبقى أن المهم أن التأكيد على أن جذر الأزمة التي يرصدها هاليدي في العالم الإسلامي سياسي واقتصادي واجتماعي بالدرجة الأولى, معناه أنها أزمة مقدور عليها وقابلة للحلول السياسية, وليست مستعصية استعصاء التسويات الثقافية والدينية. وهذا الأمر المهم هو جوهر خلاف هاليدي مع أطروحة هانتنغتون حول صدام الحضارات. وهاليدي, وإن كان قد خصص, فصلاً كاملاً لمطارحة مقولة هانتنغتون, فإن نقضه لها ينتشر في كل فصول الكتاب بشكل مباشر أو غير مباشر, سواء تلميحاً أم توقفاً عند هذا الجانب منها أو ذاك, أو باستطراد إن لزم الأمر. والانزعاج الذي يبديه هاليدي هنا هو في اعتبار حدث 11 سبتمبر دليلاً دامغاً على صحة نظرية التصادم الحضاري, وتأكيداً على الحدود الدموية للكتلة الجغرافية والبشرية الإسلامية كما يقول هانتنغتون. فهذا الأخير يشير دوماً إلى الأزمات في كشمير, فلسطين, الشيشان, البوسنة, كوسوفو, ليدلل على أن حدود التماس مع الإسلام هي حدود دامية, وأن الصراع بين الغرب والإسلام حتمى نظراً لأن لكل منهما حضارة وثقافة مختلفة تماماً عن ومع الأخرى حيث كلاهما تدعيان التفوق والريادة.
هاليدي يرى أن صدام الحضارات خرافة , وذلك لأسباب عديدة يتوسع فيها في الفصل الذي خصصه لمناقشة هذه الأطروحة. فهو من ناحية يرى الصراعات الأكثر دموية قد قامت داخل كل حضارة معينة. وإذا أخذنا القرون الثلاثة الأخيرة مثلاً فإننا نرى في أوروبا نشوب حروب دينية طاحنة, وصراعات سيادية وإثنية مديدة, انتهت بحربين عالميتين سقط جراءهما عشرات الملايين وذلك كله داخل الإطار الحضاري الواحد. وفي آسيا فإن التاريخ أيضاً كان دامياً بين اليابان والصين, آخرها الحرب اليابانية الصينية في الربع الأول من القرن العشرين, وكذلك بين الهند والصين, أي ما يمكن أن يعتبر حضارة شرقية (كونفوشوسية بوذية إلى هذا الحد أو ذاك). أما في العالم الإسلامي فإن الحروب الداخلية لم تكن أقل دموية خلال القرون الماضية, وكان آخرها في القرن العشرين الحرب العراقية الإيرانية والدمار البشري والعمراني الذي خلفته طيلة سنوات وحشية ثمان.
ومن ناحية ثانية, ومثيرة إلى حد كبير, يرى هاليدي أنه في الوقت الذي لا يعبر فيه حدث 11من سبتمبر عن أي صدام بين الحضارات, بالمعنى الهانتنغتوني, فإنه يعبر عن نوع آخر من الصدام الثقافي: إنه صدام ثقافي واقع راهناً داخل كل حضارة وثقافة بين الحديث والقديم,
العداء الغربي للإسلام أم للمسلمين؟
يخصص هاليدي فصلاً كاملاً عن عداء الغرب للمسلمين, رافضاً مقولة الإسلاموفوبيا , أي خوف أو عداء الغربيين من الإسلام, ويطرح بدلاً عنها العداء للمسلمين , أو Anti-Muslimism. ويقول إنه ليس ثمة عداء للإسلام كدين في الغرب, بالمعنى الصليبي للكلمة, رغم وجود بعض تسربات الإرث التاريخي والتصورات المتوارثة. لكن السائد, والأهم في رأيه, هو موجات العداء للمسلمين كناس وليس للإسلام كدين ونظرية. وهذه الموجات من العداء تصعد وتهبط تجاه المسلمين, ومرة أخرى, ذات جذر سياسي واجتماعي وليس ثقافيا دينيا. وأغلب العداء مرتبط بالمهاجرين والظروف الاقتصادية, وإلى حد ما هناك الجهل والتجهيل الذي أثارته نظرية الإسلام الخطر البديل عن الشيوعية . وفي هذا السياق فإن هاليدي يشير أيضاً إلى مسؤولية المسلمين أنفسهم في ايجاد صورة سلبية عنهم في مخيلة الآخرين, ويذكر مثلاً كيف أن كليم صديقي الرئيس السابق لمنظمة إسلامية متطرفة في بريطانيا كان يكرر التصريح بأن القرن القادم (الواحد والعشرين) سوف يكون قرن انتصار الإسلام على الغرب.
العداء الإسلامي للغرب
في المقابل, يتناول هاليدي أسباب العداء العربي والإسلامي للغرب, مشيراً إلى أنها تشكل إحدى أهم الخلفيات لفهم نشوء وتطور الكثير من الحركات المتطرفة. ويسرد هنا مجموعة من الأسباب أو المقولات الكبرى المنتشرة في الخطاب العربي والإسلامي, مؤكداً من ناحية على صوابية جزء منها, أو معظمها, لكنه من ناحية ثانية يرفض أن يتجمد الفعل العربي والإسلامي عندها ويظل يلقي باللوم على الغرب والخارج. وأول تلك الأسباب هي قضية فلسطين, ويذكر هاليدي أن هذه القضية ستظل مخزنا للانفجارات الإسلامية وأن السبب في وجودها في نظر المسلمين في كل مكان هو الغرب. والسبب الثاني الذي كرس العداء التاريخي للغرب في أوساط المسلمين هو الإرث الاستعماري وتقسيم البلدان العربية والإسلامية على يد القوى الاستعمارية. وهناك الاعتبار الدائم للغرب بأنه مصدر الانحلال الخلقي والثقافي, ويشكل تهديداً للقيم الدينية الإسلامية. ثم هناك العلاقة الاقتصادية غير المتوازنة.
وتظل السيطرة الغربية المباشرة أو غير المباشرة على العالم الإسلامي تثير موجات من المقاومة والعنف والرغبة في التغيير والاستقلال عن الغرب وعن الحكام الخاضعين له.
المنظور العالمي ودور المثقفين
يتبنى هاليدي منظوراً قيمياً عالمياً , universal, في فهمه لحدث سبتمبر, أي يدينه من وجهة نظر إنسانية يعتقد أن كل الثقافات والأديان تتوافق عليها. وهو يحرص على أن لا ينطلق من منطلق ثقافي غربي محض, ومحصور بالإرث الحداثوي رغم تمسكه الذي لا يتزعزع بالحداثة ومنطقها ونظرتها للأشياء. وعوضاً عن المناظير القومية الخاصة بكل ثقافة محددة فهو يرى أن ثمة منظورا إنسانيا عالميا مشتركا يتكون من حاصل جمع القيم المتفق عليها عبر الثقافات المختلفة, ويشكل الأرضية الأكثر صحة لاعتمادها لفهم الحدث ولإدانته ولتجاوز آثاره السلبية, أو لحصرها على أضيق نطاق. وهو إذ يؤكد على ضرورة تحلي السياسيين والمثقفين ببعض الرؤى الطوباوية من أجل إحلال واقع أكثر إنسانية في حياة البشر وتحدي المظالم التي تواجههم, فهو في الوقت نفسه لا يغادر مربع الواقعية التامة التي تعرف حدود الممكن وتفصل بين ما هو واقع وما هو متمنى. ولتدعيم وجهة النظر العالمية ووجودها واشتغالها على الأرض يعطي هاليدي وزناً كبيراً للميثاق العالمي لحقوق الإنسان وكذا لفكرة ودور الأمم المتحدة ومئات المعاهدات والتوافقات الدولية التي أنخرطت فيها الدول والمجتمعات بغض النظر عن ثقافاتها وأديانها. والموازي لذلك أهمية, يشدد هاليدي على أن هناك منظومة من القيم الإنسانية العالمية آخذة بالانتشار وتطالب بها كل المجتمعات وتعتبرها هدفاً يستحق النضال لأجله: مثل حقوق الإنسان, والحريات السياسية والفردية, والديمقراطية, والشفافية, والمحاسبة.
وهنا يتوقف هاليدي ملياً عند دور المثقفين في نشر وتدعيم الرؤية الإنسانية العالمية على حساب الرؤى القومية والدينية الضيقة, ويتحدث عن المثقفين في الجانبين: الجانب الغربي والجانب العربي الإسلامي. وهو أولاً يعتبر أن ثمة أربعة أنواع من المثقفين هي الأهم في رأيه, وهم: أولاً, المؤرخون الذين تنبع أهميتهم من قدرتهم على الغوص في التاريخ واستحضار الشواهد التي إما أن تدعم الرؤية الأصولية لفهم الأشياء, وإما أن تؤكد على الرؤية الإنسانية. ثانياً, رجال الإعلام, الذين بمقدورهم إما توصيل الحقائق كما هي, واستنطاق الجوانب المتعددة لكل حدث, أو ظاهرة, أو الإمعان في تجهيل الناس من خلال سرد رواية واحدة لأي حدث والمساهمة في تزييف الحقائق. وهاليدي معروف بنقده اللاذع لوسائل الإعلام الغربية وسطحية معالجاتها للقضايا المركبة والشائكة. ثالثاً: الأدباء الذين يملكون بإحساسهم الرهيف الضرب على الأوتار الإنسانية في كل حضارة وثقافة من الثقافات, وتقديمها بصورة خلاقة وجاذبة, وإما التمسك بالرؤى المحلية ومناصرتها بشكل عاطفي عشوائي. رابعاً, رجال الدين الذين يحملهم هاليدي مسؤولية كبيرة في إظهار الوجه المتسامح من كل دين, والذي هو موجود بقوة ورسوخ في الأديان جميعها. وهنا يتوقف هاليدي ملياً عند دعوة حوار الحضارات التي طرحتها إيران على الأمم المتحدة, وتبنتها هذه الأخيرة في اجتماع الألفية الشهير, ويقول أن خطاب الرئيس محمد خاتمي, خطاب يقدم رؤية حضارية تبحث عن المشترك الإنساني ومهمومة بالحوار مع الحضارات الأخرى وليس التصادم معها. ويقول إذا كان هذا الخطاب يصدر عن إيران فإنه بالإمكان حقاً الوصول إلى خطاب وسطي عالمي إنساني مشترك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.