استمرت اسعار العقارات في دمشق بالهبوط خلال السنوات الخمس الماضية ووصل الانخفاض في العام الماضي الى 50 في المئة للشقق الكبيرة و 20 في المئة للشقق الصغيرة. وحاول تجار البناء الانسحاب من السوق والتخلص من الشقق التي كانوا يملكونها تاركين السوق للملاّك الذين اشتروا الشقق بأسعار مرتفعة من دون استعداد للخسارة، في حين بقيت شريحة اخرى عاجزة عن الشراء لعدم توفر المال الكافي ما أدى عموماً الى جمود في سوق العقارات. في غضون ذلك تتنوع الآراء حول الاسباب الحقيقية للتدهور في الاسعار. بعض الخبراء يرى ان "ما يحدث الآن هو العودة الى طبيعة الامور"، في حين يشير آخرون الى ان "نقص السيولة هو السبب الرئيس". ويعتقد طرف ثالث ان توجه تجار العقار الى مجالات استثمارية اخرى مطلع التسعينات هو السبب الاساسي و"ان وجود قانون إيجار قديم ومعرقل ساهم في وصول سوق العقارات الى وضعها الحالي". لكن هناك شبه اجماع على ان رفع الاسعار"غير مطروح ابدا بل هي مرشحة للهبوط اكثر لكن بدرجات اقل الى ان تصل الى حدود الكلفة مع هامش ربح معقول، أي ان اسعار الثمانيات لن تعود". وكانت تجارة العقارات ازدهرت خلال الحصار الاقتصادي في منتصف الثمانينات اذ كانت هناك سيولة مادية كبيرة لدى التجار وظفت في مجال العقارات باعتباره المجال الوحيد للعمل ما ادى الى ارتفاع اسعار العقار بنسبة 200 في المئة. كما ان اصدار قانون الاستثمار رقم 10 في العام 1991 واستبعاد شريحة واسعة من المدخرين من العملية الاستثمارية بتحديد سقف عشرة ملايين ليرة 200 الف دولار اميركي لأي مشروع استثماري وغياب وجود سوق لتداول الاسهم، أديا الى بروز شريحة من رجال الاعمال يقومون بجمع الاموال من المدخرين الخارجين عن العملية الاستثمارية، وتوظيف الاموال المتجمعة في عمليات ربحية سريعة ومضمونة مثل شراء العقارات. وجمع بضعة تجار أموالٍ اكثر من عشرين بليون ليرة سورية وُظِّف اكثر من 60 في المئة منها في العقارات. وبعد تفاقم الازمة في العام 1994 صدر قانون صارم أحال جامعي الاموال على القضاء والسجون، ما ساهم بدوره في انهيار اسعار العقارات بعد صعودها بشكل خيالي، ووجود عقارات كثيرة فارغة وغير مكتملة البناء. دمشق الأكثر كثافة في كل الاحوال، تعتبر اسعار العقارات في دمشق الاعلى قياساً الى المدن السورية الاخرى مع ان الكلفة متقاربة، اذ تشير المجموعة الاحصائية الى ان سعر المتر المربع للبناء السكني على الهيكل يصل وسطياً في دمشق الى 2365 ليرة سورية وفي حلب الى 2495 . ولا تعكس الكلفة اسعار السوق اذ ان هامش الربح يختلف من مدينة الى اخرى ففي الوقت الذي يصل الى 600 في المئة في دمشق لا يتعدى الخمسين في المئة في طرطوس الساحلية. كما يتفاوت سعر المتر المربع في مدينة دمشق، ويصل سعره في منطقة المزة الراقية الى اكثر من خمسة ملايين ليرة 100الف دولار اما في المناطق المتوسطة فيصل سعر الشقة في مخيم اليرموك بمساحة 100 متر مربع الى 1.5 مليون ليرة اما في مركز المدينة التجاري فيتراوح سعر الشقة بين ثلاثة وخمسة ملايين، علماً ان اصحاب المحلات التجارية يتبعون نظام الفروغ الذي يقوم على اساس شراء المحل بسعر رمزي مع دفع اجار رمزي على ان يكون سعر الفروغ عاكساً لأهمية السوق التجارية بحيث يصل احياناً الى مليون دولار في بعض الاسواق الراقية. وتعتبر دمشق الأكثر كثافة سكانية ويقطنها ربع سكان سورية ال 16مليوناً، وتتحكم بالمفاصل الصناعية والتجارية المهمة التي تستقطب معظم الفعاليات التجارية اضافة الى وجود عدد كبير من المعامل والقطاعات الحيوية التي تحتاج الى اليد العاملة التي تفد اليها من المدن الاخرى وتحتاج الى السكن ما ادى الى زيادة الطلب على الشراء. وتبلغ كلفة مسكن مساحته 100 متر مربع في منطقة جيدة في دمشق نحو 236 الف ليرة سورية ويحتاج الى اكساء بقيمة 663 الف ليرة ليكون متوسط الكلفة هيكلاً واكساء نحو 899 الف ليرة. ويعرض المسكن للبيع بستة ملايين ليرة وسطياً اي مع هامش ربح يصل الى 600 في المئة في حين وصل سعر بعض العقارات وسط دمشق الى ثلاثة ملايين دولار. ويبقى هذا السعر مرتفعاً اذا قورن بالدول المجاورة مثل لبنان اذ يصل سعر الشقة في منطقة مماثلة لمنطقة المزة الراقية في دمشق الى نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية 60 الف دولار، ويبرز هذا التباين اذا علمنا ان وسطي دخل الفرد في سورية لا يتجاوز مئة دولار مقابل اكثر من 300 دولار في لبنان. ويقول تاجر عقارات من دمشق ان الأسعار انخفضت الصيف الماضي بصورة كبيرة جعلت الكثيرين من التجار ينصرفون عن هذا النوع من الاستثمار الذي كان يشكل أحد أكثر المجالات التي تحقق ربحاً سريعا في الاعوام العشرة الماضية نتيجة ارتفاع الاسعار بقفزات نوعية مضيفاً: "نضطر الى بيع العقارات الموجودة لو بخسارة لأن التجار يريدون نقل رؤوس اموالهم المجمدة في العقار الى مجالات اخرى وبالاخص شراء المعامل ما يؤدي الى البيع ولو بسعر قليل لتأمين السيولة". غير ان انخفاض الاسعار لم يؤد الى تحريك السوق كما كان يظن البعض فما زالت اعلانات البيع تفوق اعلانات الشراء. وقال احد اصحاب المكاتب العقاربة : "اقرأ الاعلانات. الجميع يريد ان يبيع في دمشق ويعرض للبيع اكثر من 150 الف شقة وهذا يعني ان حصة المكاتب العقارية تفوق البليون ليرة". ويستدرك "لكن السوق لا يزال جامداً. الناس لا يشترون ولا يبيعون وزبائن الشقق الآن هم المضطرون للشراء فقط". ويضيف شريكه :"العرض اكثر من الطلب والسوق الآن يمر بأحسن حالاته لمحتاجي السكن وأسوأها لتجار البناء". بين هذا وذاك تشير بيانات وزارة الاسكان الى وجود اكثر من 460 الف شقة شاغرة او قيد الاكساء. وقال معاون وزير الاسكان السيد عرفان برادعي: "المشكلة ليست في عدم توافر المساكن بل بوجودها بما يزيد عن حاجة السكان ولبضع سنوات حسب ما يشير اليه المسح العام للمساكن الذي جرى عام 1994 بتكليف من المكتب المركزي للإحصاء وصندوق السكان العالمي. وتؤكد الإحصاءات ان عدد المساكن وصل الى 2.5 مليون شقة في مقابل 2.24 مليون اسرة اي ان عدد الشقق يزيد بنسبة تراوح بين 15 و20 في المئة لصالح المسكن". وزاد صاحب مكتب عقاري: "لا يجد الشباب مساكن لائقة لهم بسبب ارتفاع الاسعار وتفضيل الملاكين اغلاق شققهم على المخاطرة بتأجيرها في حال رفض المستأجر اخلاء الشقة بعد انتهاء عقده حسب القوانين الموجودة". وتقف احكام قانون الإيجار رقم 111 للعام 1952 الذي لا يزال يُطبق حتى الآن على رغم صدوره قبل 47 سنة في وجه الراغبين في الإيجار فهو لا يحكم بالتخلية على مستأجر الا في حالة استثنائية هي "عدم دفع المستأجر الأجرة المستحقة او اذا أحدث تخريباً غير ناشئ عن الاستعمال العادي او اذا أجر المأجور الى الغير". وهناك مئات الشقق المستأجرة بموجب هذا القانون لا يتجاوز أجرها الشهري بضعة دولارات. وقال السيد برادعي: "هناك آلاف الشقق التى استولى عليها المستأجرون وتستغرق المحاكم بين سبع وعشر سنوات ولا تنتهي القضايا دائما لصالح المالك". وقال احدالملاك: "امتلك شقة مساحتها 200 متر مربع في حي ابو رمانة، أحد أرقى الاحياء مؤجرة منذ عام 1965بمبلغ شهري قدره 125 ليرة سورية 5،2 دولار ولم استطع حتى الآن اخراج المستأجر منها مع ان قيمتها تساوي حالياً اكثر من 20 مليون ليرة 400 الف دولار. ويضع القانون الكثير من مالكي الشقق المؤجرة امام احد الخيارات الصعبة: اما التنازل عن العقار او دفع بدل مالي ليتنازل المستأجر عن عقده او ان يستمر في الإيجار بدفع اموال لا تذكر نظراً لانخفاض قيمة الليرة عبر السنوات. ويشترط بعض المستأجرين الحصول على مبالغ كبيرة تسمح له بشراء شقة وفق شروطه مقابل إعادة الشقة الى صاحبها. ويمنع هذا الوضع أصحاب العقارات تأجير شققهم الى سوريين ويفضل الملاك التعامل مع اجانب خصوصاً الديبلوماسيين لتوافر ضمانات تحول من دون التملك لأنهم موجودون لفترة محددة بحكم عملهم وليس هناك خوف من مشاكل عدم اخلائهم المأجور. كما ان عقودهم تكون محدودة الأجل وبأجور عالية ولا تسمح الحكومة للاجانب التملك في البلاد الا وفق استثناءات ضيقة تتعلق بالعمل الديبلوماسي. وسمحت قبل اعوام للخليجيين التملك في مناطق الاصطياف بعد الحصول على موافقة وزير الداخلية لكنها تعامل اللبناني معاملة السوري بالنسبة الى التملك وتشترط موافقة الوزارة. حل جزئي وفي اطار حل جزئي للمشكلة اقر مجلس الشعب البرلمان عام 1987 قانون الايجار السياحي الذي يقيّد فترة الايجار بستة اشهر فقط تسري على السوريين وغير السوريين على ان يسجل العقد في قسم التنفيذ في مخفر الشرطة لإلزام المستأجر الخروج بالقوة في حال رفضه ذلك فور انتهاء المدة القانونية المحددة بستة اشهر. ويقول احد المحامين :"أتاح قانون الإيجار السياحي الفرصة للمستأجر لايجاد مسكن له ولو بصورة موقتة"، وأضاف "ان تعديل القانون الذي قضى بإخلاء المستأجر اجبارياً بعد انتهاء العقد أعطى طمأنينة اكثر للمالك". غير ان القانون "حل موقت"، حسب قول المحامي، لأنه حدد المدة بستة اشهر يجد المستأجر نفسه بعدها مضطراً الى الاخلاء لأن المالك يستطيع خلال 24 ساعة من تاريخ انتهاء العقد الموسمي إيداع العقد دائرة التنفيذ وإرجاء الإخلاء الجبري مهما كانت الظروف وربما يجد المستأجر او لا يجد مسكناً بديلاً بعقد موسمي آخر. ويرى تجار العقارات ان تعديل قانون الإيجار الموسمي ليصبح بديلاً ل قانون 1952 وتعديل المدة لتصبح حسب اتفاق المتعاقدين هو الحل الامثل لإتاحة الفرصة امام الشباب لاإجاد السكن. واكد احدهم ان وجود قانون إيجار قوي وواضح يؤدي الى خفض اسعار الشقق الى الحد الطبيعي، اي هامش ربح بحدود 10 في المئة. ويشير اكثر العاملين في هذا المجال الى احتمال صدور قانون ايجار جديد خلال الاشهر المقبلة يكون متوافقاً مع متطلبات العصر. وفي هذا الاطار تتحمل الجمعيات السكنية على عاتقها حل جزء من المشكلة ضمن امكاناتها المحدودة. ويعتقد البعض ان التأخير في التسليم يفقدها الكثير من فاعليتها. وتساهم الجمعيات في توفير المسكن بأقل الاسعار وبالتقسيط اذ زاد عدد الجمعيات عام 1995 على 1538 جمعية أنجزت اكثر من 136 الف مسكن. واوضح أحد رؤوساء الجمعيات :"التأخير في تسليم المساكن يدفع بعض الاعضاء الى بيع دورهم بسبب عدم القدرة على الايفاء بالالتزامات المالية او سبب الحاجة الى الشقة في وقت اسرع. ويستغل تجار البناء الوضع ويشترون الدور ثم يبيعون الشقة بعد اكسائها بأسعار مرتفعة". وتصل مدة التأخير في التسليم الى نحو عشر سنوات اذ تحتاج الجمعية الى عامين لتحصل على الارض التي يجب ان تكون منظمة إدارياً وان لا تكون عليها اشارة استملاك. وتوزع الدولة احياناً الاراضي بسعر الكلفة على الجمعيات بموجب قانون الاستملاك رقم 60 للاراضي الواقعة في الحدود التنظيمية للمدن التي لم تعد تلبي الحاجة بسبب ارتفاع الطلب عليها وعدم توافر مياه الشرب لها. وتحتاج الجمعية بعد ذلك الى تأمين كلفة البناء عبر الاقساط التي يدفعها الاعضاء ما يتطلب اكثر من سنتين او ثلاث، اي ان البناء لا يبدأ الا وعمر الجمعية خمس سنوات على الاقل، وبالطبع لا تستطيع الجمعية الحصول على القروض من المصرف العقاري الا بعد وجود البناء فعليا على الارض لأن قروض المصرف هي قروض اكساء للجمعيات بفائدة قدرها 5،7 في المئة. ويساعد "المصرف العقاري" في حل جزء من مشكلة الإسكان عبر تقديم قروض الى القطاع الخاص شرط إيداع وديعة في المصرف لمدة معينة لشراء عقار سكني او اكسائه، وجاء في النشرات الرسمية ان المصرف موّل في الاعوام العشرين الاخيرة شراء 229 الف شقة.