لا فرص عمل في سورية اليوم، ونسبة البطالة فاقت 70 في المئة، موظفو الحكومة يتقاضون أجوراً زهيدة وبالليرة السورية، المنهارة بتسارع كبير، لم تكن الزيادة الأخيرة على الرواتب تساوي شيئاً مقابل جنون الأسعار الأخير أيضاً. والموظفون أحسن حالاً من غيرهم، فالعمال «المياومون»، في أعمال البناء والإكساء خصوصاً، وفي بعض المهن المتعلقة بها كالتمديدات الصحية والكهربائية، يتقاضون أجوراً أقل، نتيجة استغلال أرباب العمل، وأصحاب الورش. ولا مصادر أخرى للدخل سوى بعض تحويلات المغتربين لأهلهم في الداخل، والتي ربما تستفيد منها قلة قليلة من السوريين، ولكن بعد أن تنهب المصارف نسبة كبيرة منها، حيث تجبر المواطن على استلام نقوده بالليرة السورية، بعد أن تسعر العملة الأجنبية بسعر أقل من قيمتها الفعلية بنسبة تصل إلى 15 في المئة. في تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة الصادر في آذار (مارس) 2014، بلغ عدد النازحين السوريين 9 ملايين مواطن، منهم 6.5 مليون نازح في الداخل السوري، هؤلاء لجأوا إلى مناطق النظام كونها أكثر أمناً، من دون أن تؤمن لهم الحكومة المأوى. هذا ما اضطرهم لاستئجار المنازل. شكل هذا ضغطاً كبيراً على طلب الإيجار، في مناطق العاصمة وريفها، والمناطق الآمنة من حلب، وفي طرطوس والسويداء، وحتى في الأرياف البعيدة من المدن. لذلك، ارتفعت أسعار الإيجار نتيجة الطلب المتزايد. وهي في تزايد مستمر مع ارتفاع الأسعار وهبوط الليرة السورية، حيث ارتفعت بمعدل بين 30 و50 في المئة خلال شهر كانون الثاني (يناير) فقط. بلغت أجرة المنزل الصغير (غرفة وصالون) في ريف دمشق بين 20 و25 ألف ليرة سورية (85 - 100 دولار)، قد تقطن فيه عائلتان مع الأطفال، معظمهم فرّ من الغوطة والمناطق الجنوبية للعاصمة. وأجرة الشقة من غرفة واحدة ومطبخ بين 15 و20 ألف ليرة (65 - 85 دولاراً)، تؤوي عائلة من خمسة أشخاص. في حين أن شقة من غرفتين تستأجر ب25 إلى 30 ألف ليرة (100 - 125 دولاراً)، قد تؤوي ثلاث عائلات مع أطفالها، حيث ينام الذكور في غرفة والإناث في الغرفة الأخرى. أما الغرف المنفصلة ذات المطبخ والحمام المشترك فأجرتها تتراوح بين 10 و12 ألف ليرة سورية (50 دولاراً)، يقطنها غالباً طلاب، شخص أو شخصان في الغرفة الواحدة. كثيراً ما تجد في جرمانا والدويلعة في ريف دمشق منازل «على العظم» أي من دون إكساء ومن دون نوافذ وأبواب، مؤجرة بمبالغ بين 20 و30 ألف ليرة سورية (85 - 125 دولاراً)، فقد بات مشهداً مألوفاً في سورية أن ترى شققاً على العظم مسكونة، بعد أن أغلق سكانها النوافذ والأبواب المفتوحة بالنايلون وستائر القماش. والكثير من المنازل المؤجرة غير صالحة للسكن، بعضها بلا نوافذ أو فتحات تهوية، وبعضها غير مجهز بمطبخ وتمديداته اللازمة، الكثير منها لا تصلها المياه اللازمة للغسيل، حيث يضطر ساكنوها إلى شراء المياه بسعر بين 1500 و2000 ليرة سورية (6 - 8 دولارات) للمتر المكعب من الماء. أما انقطاع الكهرباء المستمر فحدّث ولا حرج، حيث لا يتم إصلاح الأعطال إلا بعد مضي أسبوع أو أكثر عليها، والكثير من هذه الشقق هي في مناطق غير مخدمة بما يكفي، حيث لا طرق معبدة، بل ترابية، ولا إنارة للشوارع. وفي ظل ارتفاع أسعار الوقود، وهو غير متوافر أصلاً، ويخضع لتحكم تجار السوق السوداء، من دون ضوابط، يتعرض الكثير من السكان المهجرين أصلاً من منازلهم إلى المزيد من المعاناة، بخاصة بعد مرور شتاء شديد القساوة. يزيد من معاناة المستأجرين، أن المؤجر قادر على التحكم والتسلط عليهم، فهم معرضون للطرد في كل شهر، فمعظم عقود الإيجار شهرية، وحينذاك سيضطر المستأجر للبحث عن مأوًى جديد، سيكلفه دفع مقدار نصف الأجرة لمكتب الوسيط العقاري، فضلاً عن تكاليف تسجيل العقد في البلدية. وقد أجبرت الفروع الأمنية المستأجرين على تجديد العقود كل سنة بعد الحصول على تعريف أمني، تحت طائلة التعرض للمضايقة الأمنية. ولا يبدو أن السبب في ذلك فقط البحث عن مطلوبين، بل أيضاً إجبار المستأجرين على تسديد ضرائب لدى تجديد العقود، والتي تبلغ ما بين 2000 و2500 ليرة سورية (8 - 10 دولارات)، وفي معظم الحالات يتحمل المستأجر تكاليفها. هذا الاستغلال الكبير والفوضوي لأزمة المهجرين، جعل الكثير من مالكي الأموال المجمدة، من متوسطي الدخل فما فوق، يستثمرون في العقارات. يقول أحد الوسطاء العقاريين في ريف دمشق، أن الارتفاع الأخير في أسعار الدولار والذهب جعل كثراً من مالكيهما يفكرون في شراء عقارات وتأجيرها، والاستفادة من الإيجارات المتصاعدة الأمر الذي زاد من أسعار العقارات أيضاً في شكل مهول، نتيجة الطلب المستجد عليها في الشهر الأخير. فثمن شقة من غرفة وصالون بكسوة سيئة، وفي منطقة غير مخدمة، بريف دمشق فاق مليوني ليرة سورية (8500 دولار)، وهي قابلة للارتفاع مع ارتفاع سعر صرف الدولار. والأرقام تتضاعف مع تحسن المنطقة واتساع مساحة العقار. السيدة هدى واحدة من كثر احتالوا على الواقع المرير لتأمين قوت يومهم، حيث اقتطعت غرفة من منزلها المؤلف من غرفتين وصالون، وجهزتها بمدخل جانبي وحمام صغير و «مجلى»، كيفما اتفق، وأجّرتها لعائلة من أربعة أشخاص ب17 ألف ليرة سورية (72 دولاراً). بالطبع، كل الحديث السابق يشمل مناطق ريف العاصمة والمناطق البعيدة، بينما أسعار العقارات والإيجارات في العاصمة مهولة، ولا قدرة على دفعها إلا من أصحاب الأموال وكبار التجار. فوضى استغلال أزمة النزوح هذه، وفوضى وجنون ارتفاع الأسعار، جعلت مالكي العقارات والأموال يستفيدون من معاناة المهجرين والفقراء، ليزيد ثراء الأولين وفقر الأخيرين. ما يزيد الهوة الاجتماعية والطبقيّة، ويجعل القدرة على الاستمرار في الحياة تزداد صعوبة لدى الفقراء، البالغة نسبتهم أكثر من 75 في المئة.