بعد تولي الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سدة الحكم في الجزائر، حظي هذا السياسي والديبلوماسي العريق بتأييد اغلب التيارات السياسية في الداخل وبترحيب عالمي. وهذا الاجماع يلتقي على جوهر موضوعي واحد وهو دعم الرئيس لانهاء الأزمة والاحتقان السياسي الذي عصف بهذا البلد العربي الكبير منذ ما يقرب من عقد كامل. وعندما تسلم بوتفليقة السلطة في هذا البلد المثخن بالجراح، كانت دعوته القوية الصادقة هي تحقيق المصالحة الوطنية، وتسوية الملف الأمني، واستعادة مكانة الجزائر ودورها الاقليمي والدولي، واصلاح الوضع الاقتصادي، وعودة التعددية السياسية والديموقراطية. وبالفعل حدث بعض الانفراجات الداخلية، ضمن قانون الوئام المدني، ومن بينها الافراج عن بعض السجناء السياسيين بغض النظر عما قيل من ان قانون الوئام المدني وضعته مؤسسة الجيش والدوائر الأمنية، لفتح قنوات الاتصال مع بعض الجماعات المسلحة المنشقة على نفسها. لكن بوتفليقة اثبت بحق انه لا يريد ان يكون رئيساً صورياً بلا ارادة سياسية للتغيير، علماً ان هذا التغيير في ظل مؤسسة عسكرية قوية ومهيمنة، يحتاج الى ديبلوماسية ذكية - يجيدها بوتفليقة - تعرف كيف تتحرك بصورة ايجابية ومدروسة، بعيداً من الانفعالات الوقتية، او حرق المراحل بأسلوب المغامرة والمجازفة. والاشكالية التي نعتقد بسلبيتها وقصرها عن فهم ملامح كثيرة ومعطيات عديدة ومتداخلة في بعضها البعض في الشأن الجزائري، ان بعض السياسيين للأسف يطلق الدخان بكثافة على تحركات الرئيس بوتفليقة، بدعاوى ان قانون الوئام المدني خدعة استئصالية، او ان القانون نفسه لم يكن عادلاً الخ: ذلك ان الرئيس بوتفليقة على الرغم من بعض السلبيات التي تواجهه، وهي كثيرة ومتشعبة، لم يزل يتحرك التحرك المحسوب، لأن مؤسسة الجيش لا تزال قوية ونافذة. فاذا كان قانون الوئام المدني ينقصه الكثير من الايجابيات العادلة في الواقع الميداني، فإن الأمر يحتاج الى وقت وصبر، وليس من الحكمة التسرع في الأحكام على صدقية توجهات المصالحة الوطنية برمتها فهذا من شأنه تقييد حركة الرئيس بوتفليقة، وتقوية جناح الاستئصال والشمولية للعودة بالأوضاع والمفاهيم الى ما كانت عليه، حين ازهقت الأرواح البريئة، وانهكت البلاد اقتصادياً، وهذا في حد ذاته اخطر من قانون الوئام المدني مع سلبياته ان وجدت. فالموقف الذي يجب على القوى السياسية في الجزائر ان تسلكه هو دعم تحركات الرئيس بوتفليقة، لا التهوين من جهوده وتوجهاته الاصلاحية القائمة على الحل السياسي، بغض النظر عن نشاطات الأيدي الخفية التي لا تريد نجاح هذه الجهود والتوجهات، او الالتفاف حولها ضمن المصالح الوطنية، لأنها تريد ان يقال ان الرئيس بوتفليقة فشل في قانون الوئام، وان الوضع في الجزائر لن يحسمه الا الحل الأمني والاستئصال السياس، وهذا بلا شك خسارة كبرى للجميع وفوق ذلك للجزائر نفسها وأبنائها ودورها. صحيح ان بعض القوى السياسية تأثر في الجزائر بعد الغاء مسار الانتخابات، وما جرى بعدها من عنف سياسي واستئصال امني، وهذه مرحلة انتهت ويجب النظر للمستقبل بعين العبرة، والمراجعة، والتعاون مع القوى والفعاليات السياسية كافة لاخراج البلاد من محنتها وأزمتها السياسية المستعصية. فالرئيس بوتفليقة عندما جاء الى الحكم وجد امامه تحديات كبيرة، وقضايا وملفات ساخنة ومعقدة، وألغاماً موقوتة ومتربصة بالوضع، منتظرة بوصلة اتجاهه، فظل الرهان على قدرة الرئيس الجديد بكيفية التعاطي مع هذه الملفات، وهي رهانات خطيرة ودقيقة. واذا توقعنا ان بوتفليقة يستطيع في غضون اشهر او سنوات قلائل، ان يجتاز كل هذه المشكلات والملفات الصعبة، من دون عقبات او عراقيل فإاننا نكون كمن يسطر كلماته على الرمال. فالوضع في الجزائر وهذا ليس سراً تتحكم فيه المؤسسة العسكرية بقوة، لكونها تريد الاطمئنان لوضعها المستقبلي من التهميش والانتقام، كما يعتقد بعض القادة العسكريين، وبوتفليقة لا تغيب عنه هذه المعضلات والتوجسات، ويريد بخطوات بطيئة ان يكسر الحاجز النفسي المثقل بالجراح، والعنف، والعنف المضاد عند كل الاطراف، وهذا لا يتأتى بحرق المراحل او القفز فوقها، بل ان هذا الظرف الصعب لن يلجمه الا التدرج المحسوب والخطوات العقلانية المتوازنة، فخفايا الامور ودهاليزها، وهي من الكثرة والتنوع ما يجعل بوتفليقة مدركاً وواعياً لتطوراتها بروح التهدئة والتبشير بالمستقبل الواعد للجزائر. ومن كلماته التي لا تخلو من لفتة دقيقة ومعبرة عن نواياه، لكل الاطراف بما فيها المؤسسة العسكرية، انه "يحلم بجزائر لا مصادرة فيها للأفكار وحرية الرأي، ويعيش فيها كل مواطن في اطار ما يسمح به القانون من حريات فردية وجماعية"، وانه يحلم "بجزائر لا تهميش فيها ولا اقصاء يتحكم فيها ضمير كل واحد بسلوكه" وانه عازم على استرجاع مكانة الجزائر والعمل على توفير "رقعة هادئة، آمنة تحت الشمس لا خوف للجزائريين فيها من دون استثناء وعلى اختلاف مشاربهم". من هنا نعتقد ان هاجس بوتفليقة في الوقت الراهن، هو الاصلاح السياسي التدرجي للجزائر، لا المواجهة اليائسة، او تغليب العاطفة في قضايا صعبة ومعقدة، كالملف الأمني والتعددية السياسية غير المقيدة في ظل المناخ المضطرب والمعقد. فزيادة الضغوط والانتقادات ونشر ثقافة التشاؤم والاحباط من خطوات الاصلاح السياسي تلتقي في بعض جوانبها مع تيار الاستئصال والحل الأمني، وان تعميم هذه الثقافة ثقافة التشاؤم تعتبر تقوية لرهان هذا التيار، وضربة لجهود بوتفليقة الاصلاحية. وجه بوتفليقة رسائل لمؤسسة الجيش، وكلها تصب في مطالبته لهذه المؤسسة بالابتعاد عن الدور الفاعل في السياسة الجزائرية ومنها قوله "لقد حان الوقت لكي يدخل الجيش الوطني مجال الاحتراف ويواكب التطور الحاصل في العالم" كما أكد في اكثر من مناسبة على خصوصية المؤسسة العسكرية وعلى دورها النضالي في حرب التحرير باعتبار الجيش وريث جيش التحرير الجزائري الذي قاد التحرير والاستقلال عن فرنسا، لذلك فهو - أي الرئيس الجزائري - يحرص على طرح الامور بصورة جديرة بالتقدير والموازنة والحكمة بتأكيده الدائم على ان: المؤسسة العسكرية تمتاز بانضباطها واحترامها للدستور، وهي حريصة اكثر من غيرها على تكريس المسار الديموقراطي وتنميته وتعميقه. هذه الاشارات الموجهة لمؤسسة الجيش تنبئ عما يريده الرئيس الجزائري، وما يحتفظ به من اوراق ومحددات لمستقبل الجزائر، ومنها تقليص الأدوار الفاعلة للمؤسسة العسكرية، وتصميمه وعزمه على وضع حد لأزمات الجزائر الخانقة، وتهديده بالاستقالة والعودة الى بيته ان فشل في تحقيق الوفاق الوطني الذي يسعى اليه. يجب النظر الى جهود الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، بمنظار الواقع الكائن بتفاعلاته وتموجاته، لا كما ينبغي ان يكون، وتلك قضية ينبغي ادراكها بدقة، وربطها بظروفها وتوقيتها، وبغير ذلك سيكون حكمنا على هذه الجهود خاطئة ومبتسرة، وربما تجهض خطوات مهمة في مسار الاصلاح، والوفاق، والوئام الدائم لهذا البلد الجريح. * كاتب عُماني.