عاد الحديث عن المصالحة الوطنية في الجزائر، ليحتل مرتبة متقدمة في تفكير دوائر في السلطة، على أمل الذهاب خطوة أخرى إلى الأمام، و يقرأ سياسيون خطوات قياديين سابقين على رأس جماعات مسلحة يقودون نداءات موسعة ل «للجنوح للسلم» بوصفها تمهد لتوسيع دائرة المصالحة بعد خمس سنوات من بدايات تطبيقها (29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2005) وربما الذهاب إلى عفو شامل. فهل تبحث السلطة في الجزائر عن مشروع سياسي جديد يكون في حجم المصالحة الوطنية التي كانت محور الولاية الثانية للرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة؟ وهل سيمثل البحث عن تسوية قانونية لأفواج مسلحين يستعدون لتسليم أنفسهم، المبرر في المرافعة ل «إجراءات جديدة» تحمل مشروعاً سياسياًَ وأمنياً تنهي به الجزائر أخر قوى «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي تعرف اليوم ب «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». منذ ثلاث سنوات بدأ حسان حطاب (أبو حمزة) قيادي الجماعة السلفية للدعوة والقتال سابقاً، نداءات في عمق التنظيم المسلح، لكن مشروع حطاب بدا وكأنه خطاب استراتيجي مع توسع رقعة المحيطين به، بعدما ضم إلى مبادرته أسماء عدة لأمراء ومؤسسين سابقين لجماعات مسلحة، بينهم من يحمل راية «السلفية العلمية» وبينهم من وصف في التسعينات ب «دعاة التكفير». يقول حفيظ صواليلي، المتابع للشأن الأمني الجزائري، أن « الأمر في توسيع رقعة الموقعين على النداء مرده خروج حطاب من التنظيم المسلح منذ قرابة ست سنوات وقد تغيرت معطيات كثيرة عند أتباع خليفته أبو مصعب عبد الودود إثر التحول إلى فرع مغاربي ل «القاعدة»، ويقول صواليلي « تواجد سمير سعيود وأبو عثمان وبن مسعود عبدالقادر أمير المنطقة التاسعة وهم من الوجوه التي جنحت للسلم مؤخراً قد يحيط بأفكار مسلحي التنظيم بحكم درايتهم المطلقة بالتحولات التي حصلت». ويعتقد الخبير القانوني مقران أيت العربي أن الميثاق (السلم والمصالحة) قابل للتعديل: «ميثاق السلم دخل حيز النفاذ قبل تأسيس القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. على الرئيس التدخل لتصحيح الوضع وتقديم ميثاق بآليات جديدة لمواصلة المسلسل السياسي في مكافحة الإرهاب». في هذه الفترة التي تتسع فيها رقعة نداء مسلحين سابقين بضرورة «التوبة»، ينحصر نشاط تنظيم «القاعدة» بشكل ملحوظ، لكن «عبد الودود» لا يزال يسجل حضور أتباعه في عمليات متفرقة تستهدف مناطق معروفة شرقي العاصمة الجزائرية. إلا أن «القاعدة» برأي أمنيين تتحول شيئاً فشيئاً إلى فرع صحراوي أكثر منه مغاربياً، مع تنامي قدرته على التحرك في منطقة الساحل الصحراوي، وهو رهان أخر لم يعد يعني الجزائر وحدها بقدر ما هو في حاجة لتنسيق إقليمي ودعم غربي بعيداً مما تسميه الحكومة الجزائرية «المناورات الغربية المشبوهة». وجوه من التيار الإسلامي تدعم المبادرة وأحزاب إسلامية انخرطت فيها ولم يكن دور العناصر المسلحة من داخل التيارات الجهادية بارزاً في اول مشاريع الوئام في الجزائر والذي توسع ليتحول إلى مصالحة، والشيء المتغير أن المشروعين السابقين تمكنا من جذب «أهل الاعتدال» وسط كثير من «الجماعات والكتائب الإرهابية» ممن كانت تبحث عن مخرج «سياسي وقانوني» تنهي به وضعها ك «خارجة على القانون» بفعل عشرية عنف كاملة، في حين أن جماعة «أبو مصعب عبد الودود» لا تؤمن كثيراً ب «فكرة الجنوح للسلم»، وعلى رغم حملها السلاح في وجه النظام كما فعل سابقاً الجيش الإسلامي للإنقاذ إلا أن قائد هذا الأخير مدني مزراق يقول أن « الظروف مختلفة وحتى الأهداف»، و يؤمن مزراق الذي فاوض الحكومة الجزائرية عام 1997 (الهدنة) ثم رافق مشروع الوئام المدني ( 6000 مسلح سلموا أنفسهم بموجبه) أن «أتباع التنظيم الحاليين مجموعة خوارج لا يؤمنون بالفكر السلفي ولا الجهادي ولا الحركي ولا غيره». وتسارع «القاعدة» في العادة، إلى رفض «الهدنة»، وتنشر بيانات تشير إلى رفض «المصالحة»، كما دخلت في سجال مع الجماعة الإسلامية في مصر قبل أشهر، بسبب بيان للأخيرة يدين «الإرهاب في الجزائر». ومع ذلك، تراهن السلطات الجزائرية على مجموعة القياديين البارزين في العمل المسلح سابقاً، لإقناع رفاقهم في معاقل الإرهاب بالتخلي عن السلاح. وتقدمهم السلطات كنماذج إيجابية للمصالحة، وتسعى إلى تأليب المسلحين على النواة الصلبة في الجماعات المسلحة التي ترفض اليد الممدودة للدولة. وتتكون المجموعة من حسان حطاب مؤسس «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، و«أبو عمر عبد البر» رئيس «اللجنة الإعلامية» في التنظيم سابقاً، و«أبو زكريا» رئيس «اللجنة الطبية»، والثلاثة كانوا أصل المبادرة الى جانب بن مسعود الذي قاد المنطقة التاسعة (الصحراء)، وبدعم من الهاشمي سحنوني العضو المؤسس للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وينظر لتواجد سحنوني في المبادرة وهو الذي برز في مسجد «كابول» بحي بلكور الشعبي كزعيم لتيار السلفية الجهادية مطلع التسعينات، كدعم ل «مجموعة حطاب» التي لم تنجح في الأشهر الفائتة في استمالة «النواة الصلبة» للتنظيم. ودعم المبادرة كل من ربيع الشريف سعيد رئيس الهيئة الطبية، وعضو الهيئة الشرعية، وعضو مجلس الأعيان للجماعة السلفية للدعوة والقتال سابقاً والشيخ مادي عبد الرحمن الداعية المشهور المعروف باسم أبي هاجر، والعضو المؤسس للجماعة الإسلامية المسلحة، وكذلك زواوي حمداش المشرف العام على موقع ميراث السنة، وعضو المنتدى العالمي لمناهضة الصهاينة، والناطق الرسمي باسم صحوة أبناء مساجد الجزائر العاصمة، عضو المجلس العلمي لدعاة الحملة الإسلامية لمقاومة العدوان الصهيوني. وتعتقد السلطات الجزائرية، أن التنظيم المسلح يقتدي بفتاوى من خارج البلاد، فسعت إلى دعم دار الفتوى في الجزائر و تفعيل الحلقات الدينية التي يحضرها علماء دين جزائريون وعادة ما تنقل كاملة عبر التلفزيون الحكومي والإذاعات، وتعتقد أيضاً أن إقناع محيط « عبد المالك دروكدال (أبو مصعب)»، لن يتحقق ما لم يشترك «علماء الإجماع» في دعم المبادرة التي قد تعلن ك «مراجعات» على طريقة التجربة الليبية في أي لحظة. وصدر بيان عن القياديين السابقين يقول: «نحن مجموعة من الدعاة السلفيين والأمراء العسكريين السابقين للجماعة السلفية للدعوة والقتال ومن معنا، ويؤيدنا على هذا الأمر المشايخ والأئمة وطلبة العلم الشرعيين والمفكرين والأكاديميين من المجتمع المدني نتقدم إلى مشايخنا الكبار (العلماء) بهذا الطلب لنصرة المبادرة». وشددوا على ضرورة «تزكية المشايخ (العلماء) لهذه المبادرة وإضفاء الصبغة الشرعية عليها لتكون سنداً في هذا المسعى الإصلاحي». وأكد هؤلاء أن المبادرة تهدف إلى «حقن دماء المسلمين في الجزائر». ورأوا أن التوبة هي «المخرج الوحيد من الأزمة الدموية التي عصفت ببلادنا». ودعوا إلى «القيام بأعباء المصالحة من تعويض وإصلاح ما أفسدته الفتنة لمدة عقدين من الزمن وتحقيق المصالحة التاريخية». وقال القادة السابقون لمشايخ وعلماء الدين الإسلامي في الدول الإسلامية المعنية : «نتقدم إلى مشايخنا الكبار بهذا الطلب عسى الله أن ينفع بكم الأمة ويستعملكم تعالى في هذا الصلح والإصلاح الجزائري المبارك لتساهموا من خلال هذه المبادرة الشرعية السلمية الحضارية التي قمنا بها والتي تنبع من صميم قناعاتنا الشرعية والعلمية والواقعية». وعلماء الدين المعنيين بالمبادرة هم الشيخ أبو إسحاق الحويني والشيخ سلمان بن فهد العودة والشيخ أيمن صيدح المصري، والشيخ سفر الحوالي والشيخ حامد العلي والشيخ الداعية عبد المحسن الأحمد والشيخ حمد بن عبد الله الحمد. وبين هؤلاء العلماء من زار الجزائر مؤخراً، ومنهم من استمع لرجال الدين ولقياديين سابقين في الجماعات المسلحة، ما يعني معرفة كافية بالتحولات السياسية والأمنية والفكرية التي شهدتها الجزائر. وتكشف المبادرة عن نوايا قياديي النشاط المسلح سابقاً في الجزائر والمتمثلة ب «تحقيق مصالحة تاريخية يشارك فيها الكبار والزعماء والقادة والعلماء حفاظاً على دين الأمة ومصالح بلاد الإسلام لتفويت الفرصة على أعداء الداخل والخارج، فنريد من مشايخنا الكرام أن يساهموا في هذا الخير الكبير والصلح النافع بدعم هذه المبادرة الشرعية وتأييدها وتزكيتها بإضفاء الصبغة الشرعية عليها لتكون لنا سنداً في هذا المسعى الإصلاحي المبارك بإذن الله تعالى، بوضع بصمتهم العلمية والدعوية على هذا التصالح بين المسلمين بموقف شرعي منصف عادل» وتعد السلطات أن تستجيب لطلب كثير من «الوسطاء» مع الجماعات المسلحة، بأن تتخذ إجراءات سياسية جديدة بهدف تحقيق السلم لمن يقومون بتسليم أنفسهم، وتعتمد مبدأ التدرج في الوصول إلى الأهداف ولا تبخل على مجموعة «حطاب» في بحث الإجماع حولها. فقد سارعت وزارة الشؤون الدينية إلى إعلان دعم مشروع السلم وأصدرت تعليمات للأئمة بتناول موضوع السلم والمصالحة في خطبة الجمعة. وأبلغ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وزير الاتصال ناصر مهل، في أواخر رمضان خلال جلسة «تقييم» رمضانية، بأن يحتل موضوع المصالحة مكانة أكبر في وسائل الإعلام الحكومية، وأشار إلى «ضرورة ترويج وسائل الإعلام الوطنية لرسالة جزائر السلم والمصالحة الوطنية والتفتح على العالم». ويرى الكثير من الساسة الجزائريين، أن المصالحة الوطنية لا تزال من أولويات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لكن أسلوبها وأداتها تغيرا في ذهن الرئيس بحكم أحداث كثيرة سجلها تحول «السلفية» إلى «القاعدة» . ثم سارعت حركة مجتمع السلم (تشارك في التحالف الرئاسي) إلى تثمين كل «جهد يصب في مسعى استكمال مسار السلم والمصالحة الوطني»، وفهم الأمر على أنه بداية مطالبة ب «عفو شامل». وأوضحت الحركة أنها «تشجع أصحاب هذه المبادرات على المضي قدماً نحو توسيع دوائرها» و«تبارك كل مبادرة تصب في مسعى استكمال مسار السلم والأمن على أساس أن المادة 47 من ميثاق السلم والمصالحة الوطنية قد تركت الباب مفتوحاً لكل راغب في العودة إلى كنف أسرته والاندماج في النشاط الاجتماعي». وأضافت أن هذه المادة «قد أعطت الحق للقاضي الأول في أن يتخذ ما يراه مناسباً من التدابير لاستكمال هذا المسعى الوطني النبيل». ولا تعلن السلطات الجزائرية عادة عن «تائبين» إلا بعد مرور بعض الوقت، ويقول مصدر أمني رفيع أن « نوايا السلم موجودة داخل قطاع واسع في التنظيم، لكن عراقيل كثيرة تقف في الطريق داخل الجماعات المسلحة نفسها منها مخاوف من التصفية الجسدية». ويؤكد رئيس اللجنة الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، فاروق قسنطيني، أن مبادرة نداء التوبة، خطوة إيجابية في معالجة شوائب الأزمة الأمنية، وأن العائدين بموجب هذا النداء سيتمكنون من الاستفادة من تدابير المصالحة الوطنية». ويقول معارضون لهذا النهج، أن الحل الأمني سيكون بخطوات سياسية في الاتجاه النقابي والحريات ورفع حالة الطوارئ، وتطرح أحزاب في المعارضة هذا الأمر كأولوية على التعاطي مع «جماعات إرهابية تصر على العنف»، ويشاع أن في دوائر السلطة من «لا يزال يتمسك بميوله الاستئصالية»، وهي حقيقة دفعت الرئيس الجزائري قبل إقرار المصالحة الى القول «هذا أقصى ما يمكن فعله بفعل توازنات وطنية»، إلا أن ظروف الجزائر في الوقت الراهن لم تعد كما كانت قبل 2005، ما دامت السلطة قد تجاوزت أكثر الملفات تعقيداً من الناحية القانونية، وبقي أمامها اليوم خطاب مباشر للمسلحين من دون تعقيدات ملفات العشرية السابقة.