للوصول الى المدارس الاعدادية والثانوية في مدينة اللاذقية، كان على صبايا وشباب "حيّ المشروع الأول والثاني" استقلال الباص العمومي "الأورانج" الى البلد مركز المدينة حيث "ثانوية البنات" و"نسيبة الأنصارية" و"جول جمّال" و"ابن خلدون". نعمة العيش في "حارة" عرفتها تلك الأيام. كان الحي سكنياً مؤلفاً من بيوت طابق واحد. كل طابق تسكنه عائلة، والعائلات، كما المدينة الصغيرة، تعرف بعضها بعضاً. وبقيتُ حتى فترة طويلة من طفولتي اعتقد ان اسم أبي هو: "الأستاذ المحترم محمود سعيد محمد مدير مدرسة عبدالرحمن الغافقي في المشروع. شكراً". وكنتُ أنال رضا واعجاب السامعين. وحين كبرت وجئت الى دمشقفباريسفدمشق، وصرت عدداً نكرة، شعرتُ بالحنين الى حماية ذلك الماضي والقول: ولو… انا ابنة الأستاذ المحترم!! وطالما الآن مع ابني أشعر بأهمية ان يستطيع المرء مهما صار وكان أو لم يَصرْ، ان يشعر بالحنين النظيف والحب لماضٍ شريفٍ لأسرةٍ ولدته وعلّمته وصار. لو نظر اي انسان من عصر "العولمة" الآن الى ذلك البيت الذي خرج منه احد عشر إنساناً، اطباء ومهندسين وضباطاً وأدباء ومخرجين سينمائيين، لما استطاع تقدير "النعمة" التي كنا نعيشها، نعمة القيم. كنتُ قد تجاوزتُ عقدة الفقر منذ المرحلة الابتدائية، حيث كانت مريلتي الزرقاء المربعة بالأبيض لا بديل لها. وفي آخر العام كانت خيطانها تتهلهل… وكان أبي اذ يراني يقول: "تعالي يا ثروتي"، فأشعر انني أميرة. ورائحة الطعام في بيتنا، كانت لا تضاهيها رائحة طعام في الشارع. كان الطعام طقساً عاطفياً، حالة انتماء يُجمّع الأسرة على لذّة الحياة معاً. وفي البكالوريا، كانت بدلة الفتوّة هي "بدلة الحادي عشر" لكن مقلوبة على قفاها الجديد. الناس كانوا يعرفون بعضهم بعضاً. والثياب لم تكن بالنسبة الينا مدعاةً للفخر او للتظاهر. والمثل الشعبي القائل: "حارتنا ضيقة ونعرف بعضنا" كان يسكن الحارة معنا. "خدعني" أبي وأمي، بنفس المنطق الذي "خَدَعَنا" فيه الرحابنة. فعشنا في المثل والقيم والجمال والأحلام وغنى الروح على انها الواقع او بديل حقيقي له. لكن، هل يمكن تصور تلك المرحلة من العمر من دون فيروز والرحابنة وأبي وأمي والفقر!! ومن أين لأُسرة لم تَرِثْ ولم تَسرُقْ ولم تك يوماً بغياً.. بالمال!! لم تكن الطائفية في الشارع ولا في البيت ولا في الابتسامات ولا في الطعام ولا تحت الوسائد ولا في ضنك العيش ولا في الأحلام ولا في المستقبل، كنا جميعاً ابناء اللاذقية وسورية وعرباً حتى نقيّ العظم، ونحبّ مصر والعراق والأردن ولبنان والسودان وتونس والمغرب والجزائر وبلاد العرب كلها، وفلسطين كانت شعارنا كما فييتنام. ومحمود درويش كان صديق الأسرة كما بابلو نيرودا وأراغون والمتنبي والمعري وبدوي الجبل وأبو نوّاس وسيرة ابو زيد الهلالي. ونتعاطف بشدة مع عنترة وقيس وجبال الصوان وفخرالدين المعني الثاني الكبير والشخص في "الشخص"، و"الملك" في "هالة والملك". وهمنغواي ونجيب محفوظ. كنا نقرأ كل ما يستطيع أبي واخوتي الكبار حمله من الكتب الى البيت من طريق الاستعارة. أحدب نوتردام وبائعة الخبز والأم، بكيت عليها ليالي بطولها. وكان يهزّني شعر درويش من دون ان افهمه في الكثير من الأحيان كأمي التي كانت تقول: "الصدق لا يحتاج تفسيراً". "أبو الزوز" سائق الباص الذي كان يُقلّنا من "المشروع" الى البلد حيث المدرسة، ذهاباً وإياباً منذ المرحلة الاعدادية، صار يعرفنا جميعاً. وفي احد الأيام تأخّرت، فلمحتُ من بعيد الباص لا يزال ينتظر على الموقف وأبو الزوز يمد برأسه من النافذة ليستعجلني. يومها قلتُ للشارع: صباح الخير. وقال لي ابو الزوز معاتباً: "لا نتأخر على البكالوريا يا آنسة". وتأكّدت لي قيمة الانتماء الى مجموعة بشر وضوء. اقترنت البكالوريا بكون احد اجمل شباب اللاذقية في نظري يومها، أحبني. وأحبني تعني انه كان يرافقني من بعيد ذهاباً وإياباً على الموتوسيكل بمحاذاة باص أبو الزوز الذي كان يميل احياناً عليه ليقطع طريقه. وما يكاد الباص يتوقف حتى كان يختفي الى اليوم التالي. لم تكن عقدة الفقر قد انحلّت تماماً. وكنتُ ادعو ألا يحاول ذلك الشاب ملاحقتي حتى البيت، كي لا يكتشف مظهر بيتنا الفقير الوحيد الذي لا يسوّره سور حديد، ويمكن القفز من جدرانه والدخول الى البلكون فالباب المفتوح فالغرف المفتوحة فالمطبخ المفتوح. وحصل ما كنتُ أخشاه. فرافقت صديقتي، وحين خرجتُ بعد برهة رأيته يقف امام بيتي. فكدت اصاب بالاغماء من شدّة الخجل. لم انظر اليه، لكنه ابتسم لي بالتأكيد. هذه الابتسامة راقت لي. وكانت تنسجم مع تاريخ التسامح الذي نشأتُ عليه. كانت اللاذقية تطل على اجمل شواطئ وكورنيشات الدنيا. المقاهي البحرية الساحرة والجو المنفتح، وكنتُ اعتقد كما الآن ان هدفاً كان يجمعنا في هذه المدينة كما في الأسرة وهو: الحياة. من البيت الى المدرسة، كان طريق الأحلام، الباص كان يجعلنا كما الشارع سواسية كالبشر.. كبشر. كانت اختي الدكتورة الآن يسر محمد ترسل لي من باريس، حيث كانت تختص في طبّ الصدر، ملابس جميلة. جعلتني افتح قبّة اللباس العسكري الموحّد في المدارس الاعدادية والثانوية والمسمّى "بدلة فتوّة" لكي تبدو منها الوان الزهري التي لم اكن رأيتها قط، ما جعل المدربة تعاقبني مراراً على ذلك. وكانت اختي الدكتورة الآن سميرة محمد، التي كانت تختص في لندن في طبّ اطفال ألبستني اول مانطو وبنطال شارلستون في حياتي، وكنتُ في البكالوريا. عقدتي كانت السنسال الذهب. كان شيئاً خارقاً ان يلبس المرء حول عنقه سلسلة ذهب تلمع لا يراها هو بل الآخرون. هذه التضحية من اجل الآخرين كانت تروق لي. في مساءاتنا، كنا نتساجل الشعر ونؤلف المسرحيات والقصص. كان اخي العقيد المتقاعد الآن رفيق محمد، ينصبُ صندوق عرس أمي المخملي الخمري وسط الصالون الفارغ من الأثاث كخشبة مسرح نصعد عليها، وأخي المخرج السينمائي الآن اسامة محمد، يشرف على تحريكنا داخل اضاءة الشبابيك وعزل الصوت ومطالبة والدتي بالتوقف عن الضحك. مساءاتنا كانت سعيدة بلا تلفزيون، إذ لم يكن في شارعنا كلّه الا تلفزيون واحد، وراديوهات كبيرة بشاشة كبيرة "نرى" من خلالها صوت المذيعين. كان الجميع لسببٍ او لآخر يسمعون بانتظام نشرة اخبار "اذاعة لندن" والشارع كان مُسيّساً من حيث الوعي. وصوت المذيعة حين تقول: "هنا لندن" كان يصيبني بالرعب في طفولتي. وحين كبرتُ قليلاً، صرتُ أعتبره صوت جاسوسة. فالجواسيس في نظري كانوا يتكلّمون بصوتٍ يُبطنُ التهديد والنعاس ورؤية السامعين. فتحت باب بيتنا على حرب تشرين. كان البيت الوحيد الذي يمتلك تلفزيوناً في الشارع هو نفسه الذي يمتلك ملجأ، حسب الأصول، من البيتون المسلّح. وكان الأستاذ اسماعيل منصور وزوجته اكتمال، جيراناً جدداً عمّروا اجمل بيت في الشارع ومنظرهم في الحي كان غريباً: أسرة بولدين فقط! يسهر الأبوان وحيدين على الشرفة العالية العريضة التي بنياها. بدأ اختراق جدار الصوت، وبدأ تحليق الطائرات والقصف والدوي ولمعان الانفجارات فخرج اسماعيل منصور الى الشرفة ونادى الجيران الى ملجئه. خرجنا من ملجأ الجيران لنجد الشارع في فجر اليوم التالي مزروعاً بالجنود السوريين الذين يستندون على جدران البيوت مع بنادقهم وينتظرون. كانوا يظلّلون الشارع كأشجار نائمة. كانت وجوههم تعبة وسعيدة. وعرفنا انهم بانتظار الأوامر الى صفوف القتال. ذلك الصباح تناول الشارع الافطار مع الجنود، يومها شعرتُ بجمال الانتماء الى مجموعة من البشر والضوء والطعام. مؤونة البيوت من الزيت والزيتون والمكدوس والزعتر صارت على الأرصفة. والأفران أرسلت الخبز الساخن للجنود الضيوف. وكنت حيث تعطلت المدارس اخرج بالماء لأسقيهم مع اولاد الجيران. فتحت أبواب البيوت على الشارع. فمن كان سيسمح لنفسه بإقفال بيته في وجه أبنائه. حالة من التعاضد ربما هي ما يسمونه "الجبهة الداخلية". بعد يومين، جابت سيارات تطلب متطوعين للمساعدة في المستوصفات من اجل تمريض الجرحى. فعرفنا ان من كانوا بيننا، صاروا الآن بين الجرحى. كان علينا لفّ الشاش والقطن وتقطيعها في شكل ضمادات بكميات كبيرة من اجل الاسعاف الأولي في المستشفيات. وطلبتُ، في نهاية يوم عمل، السماح لنا بشراء هدايا للجنود يتبرّع بثمنها الأهالي فسمحت مديرة المستوصف بذلك. اشترينا بيجامات وشحاطات. وزرنا المستشفى العسكري والوطني في اللاذقية. وكما في الأفلام، كان الجنود يبتسمون لنا. وعند تقديم الهدايا كنا نبكي. شحاطات اهديناها لأرجل مقطوعة. بعد الحرب تمّ تعييني عريفة في "ثانوية البنات" كشهادة على اخلاصي في الحرب. لم اكن اقتنع بهذه السلطة الجديدة. فأنا لا أفهم لغتها. وقفتُ الى جوار "العرّيفة" المخلوعة الطويلة الضخمة التي كان صوتها يجعلنا نرتجف. وكنتُ صغيرة، نحيلة والكتافيات العسكرية تفيضُ عن كتفيَّ الضيقين، لأبدو كاريكاتوراً، كجنرال ما في افلام كرتون!! وقلتُ للمدرسة في المايكروفون في تحية العلم الصباحية: صباح الخير، فقهقهت المدرسة بالضحك. واقتربت مدرّبة الفتوّة مني مُداريةً ابتسامتها وقالت لي: هذا نظام عسكري، أصدري أوامرك. فقلتُ: استارح. إذا سمحتوا. وعلا الضحك من جديد. وأخفضتُ رأسي. لم تكن توجد قوّة تجعلني بعد طفولتي وحرب تشرين ان أُصدر أمراً عسكرياً لمن أُحبّْ. او ان اتحوّل الى مذيعة: "هنا لندن". فجأة صمتت الباحة. وتساوت الصفوف. فقلتُ: استاعد اذا سمحتوا. فاستعددنَ بجدّية ونظام صارم. وعلا النشيد الوطني… فبكيتُ تحت رفرفة العلم. مجموعة بشر وضوء وعَلَمْ. هي الوطن. في دمشق حين اتيت لتقديم اوراقي الجامعية استوقفني ضابطٌ يلبس في عنقه سلسلة ذهب، وقال لي: أنتِ من اللاذقية؟! نظرتُ اليه وعرفته، كان من بين من شاركناهم الخبز والملح لمدّة يومين. ومن دون تردد اجبته: لا. كنتُ بدأت بالتنكّر لانتمائي، من دون ان استطيع تحديد موقع انتماءٍ آخر. البشر والعَلَم والضوء لم تعد تكفيني. والرحابنة وأمي وأبي صاروا من الماضي الجميل، لكن ليس بالماضي وحده يحيا الانسان حُرّاً كريماً. منذ ايام من عام 1999، ذهبتُ وابني وَرد الى اللاذقية. وقلتُ له. تعال نزر بيت طفولتي. دخلنا الشارع فارتجف قلبي. بيتنا كالعادة كان مفتوحاً، لكنه مهجور. دخلنا. كم الغرف الآن اصغر مما كانت عليه في الماضي!!