تمخض سيناريو التعديلات الدستورية وما رافقها من مساجلات بين القصر والبرلمان السوداني عن تلك القرارات التي حسم بها الرئيس البشير في مساء الرابع من رمضان "ولو ظاهرياً والى حين" صراعه مع شيخه الدكتور حسن الترابي... هذا الحسم اتخذ أبعاداً شخصية وداخلية وخارجية تمازجت خطوطها وتشابكت لتنسج واقعاً مشوباً بالحذر والترقب والخوف من المجهول. وهذا النهج بكل أسف اصبح ديدناً للسياسة السودانية منذ سقوط حكومة الأزهري الأولى في بداية سنين الاستقلال. وفي تقويمهم لانقلاب البشير "الأبيض" على شيخه انقسم الناس بين مؤيد ومعارض. جاء التأييد لا هو بالبين الواضح ولا بالمعارضة في أقل صورها، جاء ما بين هذا وذاك... ومواقف المعارضة اتسمت هي الأخرى بكثير من التحفظات والحذر معاً... لأن ظاهر الأشياء يوضح بأن الجسم الواحد قد انشطر... وأصبح أهل النظام ومؤيدوه هم الأكثر حيرة... وأصبح لسان حال معظمهم "قلبي مع علي وسيفي مع معاوية". في المقابل تباينت مواقف الفعاليات السياسية الأخرى تباين ألوان الطيف. وجاءت أشبه بردود أفعال لوّنها بعض المرارات الشخصية والحزبية وأضحت باهتة ضحلة تعكس شات أفكار عاطفية لا تمت لواقع المسألة الوطنية بصلة واختزلت مشاكل الوطن المعقدة وهمومه في ذواتهم أو صراعاً بين رجلين. هم مع النظام حتى ليظن المرء منا ان النظام هو الباقي والوطن الجريح هو المغادر. البشير في ظني بهذه الخطوة قد حسم موقفه هو مع نظامه الحزبي وتبقى مشاكل الوطن كما هي. فنظام الانقاذ باق كما هو منذ عشر سنوات وان تبدلت المواقع والمواقف والمسؤوليات... فالوطن يعيش في احلك وأخطر مراحله على امتداد تاريخه الطويل، انه الآن في وضع ان يكون أو لا يكون، يواجه سلطة انقلبت على نفسها فأصبحت قوتها الظاهرية ضعفاً يراه كل صاحب مطمع داخلي كان أو خارجياً. وطن تحاك ضده المؤامرات ويزداد وضعه في كل يوم من هذه الايام تأزماً وسوداوية... وطن غيب أهله منذ سنين استقلاله الأولى بمشاريع دخيلة وغريبة عليه لا تمثل نبضه ولا تتماشى مع تاريخه وحضارته... مشاريع بدأت بالجهويات المناطقية مروراً بالقومية وانتهاء بالأممية. تهاوت كلها كما تهاوت أوراق الخريف، دون ان تترك أثراً سوى خربشات على جدار التاريخ لأنها كانت غريبة على الشعب، وعلى مزاجه وتربته. أمام الفريق البشير الآن فرصة ذهبية لينتصر للسودان ومشروعه الوطني النهضوي بكل طوائفه وأحزابه بما فيها الجبهة الاسلامية في مسماها الجديد، وقبائله وتاريخه وحضاراته حتى يرد الحق لأصحابه الذين غيبوا كثيراً وبالتالي قفل باب الشائعات والشبهات التي ربطت هذه التغيرات بمصالح الغير دون مصلحة الوطن... فقد جاء الوقت ونحن على اعتاب الألفية الثالثة ان ينهض الوطن من كبوته وان يقف شامخاً عملاقاً كما كان بين الدول التي تأخر عن ركبها كثيراً، وهو المؤهل دون سواه لدور القوة الاقليمية لعوامل القوة الكامنة الحبيسة. والحق يقال، فقد تحققت وبدرجة معقولة أو قليلة من الرضى بعض المكاسب في هذا العهد، تصب كلها في خانة المشروع الوطني النهضوي. بعض هذه المكاسب اقتصادي في مشاريع البنية التحتية، تطويرها وتحديثها، بالاعتماد المطلق على الذات وادارة الموارد وان كانت على حساب الرفاهية أو العيش الكريم للسواد الأعظم من الناس. ومن الناحية السياسية كانت فاتحة هذه المكاسب مبادرة الشريف زين العابدين الهندي الأمين العام للحزب الاتحادي الديموقراطي العام 1996 وما تبعها من تحولات دستورية وتشريعية رغم ما أثير حولها من غبار وجدل. فالرجل بحسه الوطني الطاهر المتجرد من أدران السلطة ونهمها، ونبل مقاصده وبصيرته النافذة، تنبأ بكل الذي يحدث الآن أمام أعيننا... ولكان لمبادرته الفضل في تحويل النظام من نظام عسكري محض تحكمه أوامر دستورية موقتة الى نظام مدني يحكمه دستور أشاع جواً من الحريات هي الأوسع في المنطقة، وأحدث انفراجاً في الداخل والخارج شهد به الخصوم قبل الاصدقاء، بل فتحت هذه المبادرة بإيقاعها الهادئ السلس الباب واسعاً امام الآخرين حيث ولج من خلالها وعلى ضوء ما أشاعت الرئيس الأسبق نميري وتبعه رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي عبر اتفاقية جيبوتي المسماة "نداء الوطن" التي لم تختلف مقاصدها وبنودها واستراتيجيتها عن اعلان دمشق مايو/ أيار 1997 بين الشريف والنظام. ورغم تخلف السيد الصادق المهدي في تأييد اعلان دمشق وتحفظاته المعلنة عليه في حينه لظروف نفهمها، ومنها طموحه الشخصي واعتداده بنفسه، وموازنات حزبية داخلية أملتها عليه قيادة حزب هو الأكبر حسب نتائج آخر انتخابات حرة 1986 إلا انه بإعلان جيبوتي أعطى المثل والقدوة في الوطنية الصادقة والتفاعل الحيوي مع الاحداث بمرونة السياسي البارع في تصحيح المسار. كل هذا الجهد دفع بالمشروع الوطني النهضوي خطوات الى الأمام. وعليه فإن حزبي الاتحادي والأمة بثقلهما الجماهيري يمثلان الوسط السوداني بكل موروثه الثقافي والتاريخي والحضاري، مع اختلاف طفيف في الأولويات. المؤتمر الوطني ايضاً، والذي مهما كان اختلافنا معه أو تحفظاتنا عليه، أصبح واقعاً يصعب تجاهله في الحياة العامة. لأننا وببساطة اذا أعدنا قراءتنا للخريطة السياسية الماثلة أمامنا قراءة صحيحة وبقليل من الحيدة والنظرة الموضوعية، نجد انه مع هذه المتغيرات والتحولات التي طرأت على مسيرة النظام وبصمات السنين الماضية، نجد اننا لا بد من ان نغير مفردات خطابنا السياسي الذي ظللنا نتمترس خلفه عشر سنوات كاملة والذي أصبح لا يواكب واقع التغير السياسي الراهن. وأصبح لا بد من الاعتراف ايضاً، بأن نظام الانقاذ ليس هو بالضرورة "الجبهة الاسلامية القومية" والأحداث الجارية الآن خير شاهد على ذلك. لأننا لم كن نود ان نصدق ان الجبهة الاسلامية القومية حلت عام 1989 مع بقية الاحزاب السياسية الأخرى في السودان، للتخلص من الشورى والديموقراطية داخلها أولاً، ولإقصاء الآخرين معها ثانياً. بهذا أصبح المؤتمر الوطني هو حزب النظام الحاكم، رغم ان مأزق الحزب تمثل في ادخال دولة سبقت ميلاده بثماني سنين داخل عباءته. ويختلف المؤتمر عن الجبهة الاسلامية السابقة من حيث المحتوى والمضمون، انه - هذا مأزق آخر - يمثل في غياب الفعاليات السياسية وعاء جامعاً أشمل لألوان الطيف السياسي مرتدة أو متداعية من ولاءات سياسية سابقة، كانت السلطة في غياب الآخرين مصدر جذب لهم ولما يمثلون، متبنياً أهداف وبرامج أحزاب الوسط الأمة والاتحادي مما يجعله رصيداً مهماً وفاعلاً وإضافة دون شك في بلورة الوسط السوداني العريض بمشروعه الوطني، لو قدر لإيقاع الهدوء والعقلانية ان يسير بنفس الوتيرة، وبتفاعلاته الداخلية فقط. مع كل هذه الأسس والمعطيات التي ساهم فيها النظام نفسه ينبغي على البشير وجهاز الرئاسة، ان يغتنم هذه الفرصة النادرة وينحاز للسودان وموروثه وقيمه المتمثلة في اجماع الأمة والتراضي المعهود في الشعب السوداني بالإسراع في خطوات الوفاق والمصالحة الوطنية للم الشمل الذي طالت بعثرته، وإعادة تأطير الوسط، لا لشيء سوى الاطماع الشخصية والنظرة الحزبية الضيقة، والمزايدة دون وعي في تسجيل المواقف. إكمال خطوتي الوفاق والمؤتمر الجامع، أصبحتا من الضرورات القصوى في هذه المرحلة. وتستوجبان ان تكونا الشغل الشاغل للبشير والمعارضة وفي مقدمة اجندتهما الملحة على حد سواء. على ان يتم ذلك في مدة لا تتعدى نهاية فترة اعلان حال الطوارئ، أملاً في التوصل لحكومة اجماع قومية برئاسة البشير نفسه، ذات برنامج محدد ومدة لا تتجاوز الثلاث سنوات، أملاً ان يقف الوطن بعدها على رجليه. وفي ذات المنحى والاتجاه، هنالك برنامج العمل الوطني المقدم من الحزب الاتحادي الديموقراطي والذي وافق عليه النظام عندما كان موحداً في الرؤى، ويصلح في اعتقادي ان يكون بداية طيبة لأجندة النقاش بين جميع الأطراف، وهو قابل من دون شك للحذف والإضافة والتعديل. على ان يتفرغ السياسيون لبناء أحزابهم اعلاءُ لدور المجتمع، وتحديث برامجهم علناً نخرج من ثقافة القبلية الحزبية السائدة، على ان يخوض الجميع الانتخابات الحرة المباشرة التي تعقب انتهاء فترة الحكومة القومية "حكومة البرنامج" وصاحب الغلبة فيها يتولى ادارة دفة الأمور في البلاد بما منح له من تفويض حسب برنامجه. ما صرح به الفريق البشير في القاهرة عن تكوين جبهة وطنية عريضة ليس بعيداً عن فكرة حكومة البرنامج اذ بها يمكن ان نحقق وبصورة حضارية التداول السلمي للسلطة ونعيد للسودانيين حقهم الذي نزع منهم مدة طويلة من الزمن، دون ان نعرض الدولة للترنح والاهتزاز، ودون ان نعرض نسيجها الاجتماعي للتمزق ومؤسساتها للانشطار والتشرذم. وتعود الديموقراطية الرابعة مع بداية الألفية الثالثة. بهذا فقط يكون البشير قد انتصر للسودان وخرج من المأزق، واصبح بطلاً قومياً، ولا أخاله فاعلاً غير هذا، فهو كعسكري تربى على الحفاظ على الوطن وسلامته وأمنه واستقراره... لا على بهرج السلطة ومناوراتها وصراع القصور... فهلا فعل!؟ * استاذ الدراسات الافريقية - جامعة نيويورك