مضت من العمر سنوات تزيد على نصف القرن - وحينما احاول أن اتصفح كتاب الحياة أجد ألوان صفحته تشبه الوان الطيف: فمنها ما يشع بهجة وضياء، ومنها ما ينزوي خلف عتمة الحزن والاحباط، وهكذا الدنيا. كان سؤالاً فاجأني بكيفية رؤيتي للحياة، ونظرتي الى الكون، قبل أن أصل الى سن العشرين. كان السؤال جميلاً، وكان محيراً في الوقت نفسه، فهل بوسعي الآن وأنا في سن الثامنة والخمسين أن أتذكر بموضوعية وحياد، كيف كنت في سن العشرين؟! وهل يمكن للإنسان أن يكون موضوعياً بأثر رجعي؟! وهل يمكن استرداد الرؤية والرؤى، كما هي، من ذمة الزمان؟! ثم هل يستطيع المرء أن يكتب، أو حتى يتذكر، تاريخه الشخصي من دون أن تلونه سنوات النضج والخبرة؟! ألف "هل" و"وهل" يمكن ان يثيرها هذا السؤال الجميل والمربك المحير. ولكن على الانسان أن يخوض التجربة، وللقارئ أن يحكم. بيد أن هناك تحفظاً لا بد من وضعه قبل محاولة التذكر مؤداه ان الذي يحكي رجل في سن الثامنة والخمسين، ولكنه الشاب نفسه الذي كان في العشرين، فأيهما نصدق: الرجل الكهل أم الشاب؟!!. كانت سنوات التكوين في عمري بدأت مبكراً بفضل جدي، وربما كانت ثقافته الواسعة وحبه للحياة وراء ميلي الى القراءة التي فتحت لي أبواباً سحرية في زمن لم يكن فيه غير الراديو والسينما التيكانت عزيزة المنال. وفي ظل ظروف القراءة والاستماع يحتاج المرء الى الخيال لكي يعينه على تمثل ما يقرأه وما يسمعه. في ذلك الزمان كانت الحدوتة ما تزال تؤدي دورها، وشاركت الحواديت في صياغة الوجدان والثقافة العامة لمعظم أبناء جيلي. وما بين القراءة والسينما والحدوتة تربى العقل ونما الخيال في مرحلة التكوين، ولكن حقائق الحياة الصعبة في مجتمع مصر قبل سنة 1952، تركت بصماتها واضحة على رؤيتي. فقد ولدت في القاهرة ونشأت في حي "كوبري القبة" و"منشية البكري". وكانت هذه النشأة سبباً في أن أرى كثيراً من مظاهر التناقض الاجتماعي الذي لم أفهمه في ذلك الحين، إذ كان الاغنياء والفقراء متجاورين في حي "كوبري القبة" يفصل بينهما شارع واحد هو شارع "الملك"، كما أن "منشية البكري" كانت ضاحية جديدة تربط ما بين "كوبري القبة" و "مصر الجديدة"، وكانت مشاهد الغنى والفقر تتداخل مع بعضها بشكل جعل الانسان يسأل "لماذا" من دون أن يجد اجابة وهو في سنوات التكوين. ثم قامت ثورة 23 تموز يوليو 1952، وكنت تخطيت العاشرة من عمري، لكنني لم أفهم بوضوح سبب فرحة الاهل والجيران والناس عموماً بهذا الحدث. ولم يحدث تغير واضح في حياة أسرتنا، أو جيراننا يبرر لي هذه الفرحة الطاغية، وكان عليّ أن أنتظر حتى أدخل الجامعة لكي أدرك مدى التغيير الذي حدث ومدى تأثيره الاجتماعي والسياسي، لقد رأيتم تظاهرات واضطرابات ما قبل 1952، ولم أفهم معناها، وارتبطت في ذهني بعبارة "اجازة لأجل غير مسمى". ففي أحيان كثيرة كانت التظاهرات تنتهي بإخراج طلبة المدارس لكي "ينعموا" بهذه الاجازة غير محددة المدة. ولكن فترة الدراسة الثانوية شهدت نوعاً آخر من التظاهرات "المرتّبة" تأييداً للثورة، أو تنديداً بالأعداء الخارجين. وكنتُ في مدرسة "القبة" الثانوية ألاحظ ان التظاهرات تبدأ من طابور الصباح. وجاء العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، فتطوع شباب المدرسة لحمل السلاح في حماسة بالغة وأخذنا اجازة اخرى "لأجل غير مسمى" وبدأنا نسمع عن الانزال الذي تم في بورسعيد، ثم عن الانذار الروسي، ثم عن هزيمة قوات العدوان الثلاثي وانسحابها، وعدنا الى المدرسة. في تلك السنوات كانت المدرسة تمثل كل المجال الحيوي لطاقات الانسان، في اللعب والدراسة والهواية والشقاوة، ولم يكن هناك قدر من الاهتمام بالقضايا العامة أو الاحوال السياسية، فقد كان الناس يناضلون من أجل اشياء أخرى في حياتهم اليومية تتعلق بالمعيشة، وتعليم الاولاد وتحقيق "الستر" في أحوالهم، وكانت طموحاتي محدودة في النجاح والالتحاق بالجامعة، وكنت أرى الدنيا بهذه الرؤية المحدودة في مجتمع يجاهد للخروج من الحصار. ثم دخلت الجامعة، فرأيت أن دنياي قبلها لم تكن شيئاً. فالنسيج الاجتماعي لطلبة الجامعة أكثر تنوعاً وثراءً من ثوب طلبة مدرسة القبة الثانوية بطبيعة الحال. كما أن آفاق الفكر والمعرفة أوسع مساحة. وفي الجامعة بدأت أدرك أن الدنيا ليست هي تلك الدنيا التي كنت أراها من منظاري المحدود في مرحلة ما قبل الجامعة، فلم تعد اهتماماتي قاصرة على الدراسة وحدها، وإنما عرفت النشاط الجامعي بكل رحابته، فالرحلات والمعسكرات الجامعية التي كانت كثيرة ومجانية جعلتني أرى بلادي وأهل بلادي بشكل لم أكن أعرفه من قبل، كما جعلتني أدخل مرحلة الرشد الاجتماعي من خلال خبرات الجماعة. وجذبتني الفرق الفنية وحاولت أن اكون فناناً - ثم اكتشفت أنني لا أمتلك الموهبة الفنية وأن الفن لا يمكن أن يكون بالنيات. وفي سنوات الجامعة تغيرت نوعية الكتب التي أقرأها، كما دخل المسرح والموسيقى دائرة اهتمامي، وساهما في المزيد من تشكيل وجداني وعقلي وكنت أحاول أن أبدو شاباً عصرياً متمديناً من خلال حضور حفلات الباليه والموسيقى الكلاسيكية ولكنني اكتشفت أنني استمتع بالموسيقى العربية وبالمسرح المصري في عز نهضة الستينات من هذا القرن. وعرفت أن ذوقي مصري الملامح عربي السمات. وفي سنوات الجامعة أيضاً عرفتُ حقيقة الانتماء الى الأمة العربية ذات الماضي العريق، وكان المشروع القومي واعداً زاهياً يملؤنا فخراً وزهواً. وكنا مطمئنين الى صدق كل ما يقال لنا عن القومية العربية ووحدة الأمة من الخليج الى المحيط. ولم تكن السياسة بالنسبة الى شخص مثلي تعني شيئاً أكثر من الموافقة والرضا والفخر، اذ لم يكن هناك نشاط سياسي حقيقي، كما أن الظروف التاريخية الموضوعية كانت تحتم توجيه الطاقات الكامنة نحو نمط من التنمية الاجتماعية والاقتصادية كان مطلوباً، ولكني طبعاً لم أفهم ذلك سوى في سن متأخرة لقد خشيت باستمرار من أن أرى سن العشرين بعيون سن الثامنة والخمسين - وهذا ما حدث. كانت سن العشرين - على المستوى الشخصي والموضوعي - سن التفاؤل والأمل والانطلاق. ففي هذه السن الزاهرة عرفت مشاعر الحب الفوارة، كما عرفت الصداقة المخلصة الخالية من شوائب الغرض والمصلحة، واستمتعت بأغنيات عبدالحليم حافظ وعبدالوهاب وأم كلثوم وفايزة أحمد. وضحكت مع "ساعة لقلبك" برنامج إذاعي وتمايلت طرباً وضحكاً مع فناني الكوميديا "الصاعدين" - آنذاك - مثل فؤاد المهندس وأمين الهنيدي وعبدالمنعم مدبولي، وغيرهم. وسرحت بخيالي مع رومانسية فاتن حمامة وفريد الاطرش، وأدهشتني واقعية صلاح أبو سيف. ومن ناحية أخرى تأججتُ حماسةً بخطب جمال عبدالناصر وأشعار صلاح جاهين، وشعارات القومية العربية، وقوة الاحساس بالثقة في الحاضر والمستقبل. ولم يكن هذا السن الجميل ليسمح لأحد أن يكبح اندفاعه. أو يقلل من تفاؤله، أو يقيد حماسه. وكان تصورنا لواقعنا جميلاً، وكنا نصدق ما يغنيه عبدالحليم حافظ في أغانيه الوطنية، وكانت أحلامنا ممكنة التحقيق داخل الوطن. ولم تكن فكرة الهجرة لبناء المستقبل خارج الوطن قد عرفت طريقها الى المصريين. كانت سن العشرين أشبه بالحافة الفاصلة بين "ربوة الحلم" و"هوة الواقع" وفي هذه السن دخلت الحياة من أبوابها الواسعة. ومن المثير والغريب أن نهاية سنوات الجامعة كانت بالنسبة لي نهاية سنوات الحلم الجميل، كما كانت بالنسبة لمصر والعالم العربي نهاية لفترة المشروع القومي الجميل. فقد تخرجت في العام 1967 وما أدراك ما العام 1967... وكان ذلك في سن الرابعة والعشرين. قاسم عبده قاسم استاذ التاريخ في جامعة الزقازيق المصرية