ترى لو لم تقد الأقدار والظروف جمال الدين الأفغاني الى مصر خلال تلك الحقب الصاخبة من حياة الفكر والسياسة في الشرق، هل كان سيقيض للامام محمد عبده ان يكتسب كل تلك الهالة الفكرية التي اكتسبها ويكون حقاً ما صار عليه بعد ذلك؟ أبداً، اذ، صحيح ان تربية محمد عبده وثقافته ووعيه، أمور كان من شأنها ان تجعل منه مفكراً متميزاً بين أقرانه، غير ان لقاءه بالافغاني كان هو ما اعطاه تلك الاسثنائية التي مزجت لديه بين الوعي المتقدم وأصالة التفكير، بين الحفاظ على التراث والرغبة في دخول العصر، بين ثقافة عريقة عريضة وفكر متنور. فالأفغاني كان، بعد كل شيء، تلك الشرارة التي اشعلت اللهيب في الشرق كله، ولدى محمد عبده بشكل خاص. وعلى رغم ما قد يخيل الينا من ان محمد عبده قد عاش طويلاً، سوف يدهشنا ان نكتشف ان هذا المفكر الذي ترك بصماته على جزء كبير من حياة الفكر العربي والاسلامي، وبالتالي على جزء من الحياة العربية والاسلامية، لم يعش سوى ست وخمسين سنة. فهو ولد العام 1849 في احدى قرى مديرية الغربية في مصر. وكان في السابعة عشرة من عمره حين انتقل الى الأزهر ليتأدب في علومه على ايدي كبار اساطين الفكر المتنور فيه. وكان محمد عبده قد أبدى في يفاعته من النجابة والفضول تجاه كل ما له علاقة بالعلم والتبحر في التاريخ، ما جعل ذهابه الى الأزهر أمراً طبيعياً. والسنوات التي أمضاها محمد عبده في القاهرة بين 1866 و1871، أي العام الذي وصل فيه الى العاصمة المصرية، ذلك الإمام الافغاني المتمرد، جمال الدين، كانت سنوات اعداد أدبي ولغوي مكنت محمد عبده من تطلعاته التنويرية وجعلته يطّلع على مثالب الفكر التقليدي ويفكر بالطريقة الأفضل لاخراج الأمة من عصور الظلام. وهو لئن عرف كيف يشخص الداء فإنه ظل عاجزاً عن تحديد الدواء. وحين وصل الافغاني والتقاه محمد عبده، في من التقوه من المفكرين والمتنورين والباحثين عن مستقبل جديد، أدرك محمد عبده انه بات قادراً على الوصول الى الدواء، أو على الأقل إلى الإجابات الشافية. ولم يفت الاستاذ الافغاني حسبما يقول يوسف اسعد داغر ان "يؤثر في شخصية تلميذه تأثيراً بعيداً" حيث حوله الى "خوض غمار الإصلاح اذ وجّه عقليته وجهة الطموح والحرية وفتح عينيه على ضعف المسلمين وانحلالهم ومناهضة الغرب لهم". في العام 1877 نال محمد عبده، من الأزهر، الذي كان اصلاحه بالنسبة اليه أهم واجبات المفكرين المتنورين في تلك الحقبة، شهادة العالمية، انتداب لتدريس الأدب والتاريخ في "دار العلوم" و"مدرسة الألسن"، كما عمل محرراً، ثم رئيس تحرير لصحيفة "الوقائع المصرية" سائراً في هذا على خطى سلف كبير آخر هو رفاعة رافع الطهطاوي. في تلك الاثناء كانت روح محمد عبده الثورية أوصلته الى بداية محاولاته الهائلة للتوفيق بين الاسلام ومطالب العصر الجديدة، فكتب في ذلك وعمل من اجله، وكان يمكن لمسيرته ان تقوده الى خطوات أخرى أكثر تقدماً، لولا احتلال الانكليز لمصر اثر الثورة العرابية التي وقف الى جانبها، ثم وجه اليها أقسى نقد بعد ذلك، متهماً اياها بأنها السبب في مجيء الانكليز. ولأن محمد عبده اتهم بإصدار فتوى تقضي بخلع الخديوي توفيق، جرى نفيه - بعد استتباب الأمر للانكليز - من مصر، وكان ذلك في العام 1882 فتوجه الى بيروت حيث درس العلوم الدينية في المدرسة الأزهرية، كما درس في أولى المدارس المقاصدية. غير ان اقامته في بيروت لم تطل، اذ استدعاه جمال الدين الافغاني الى باريس، حيث تعاونا على إصدار "العروة الوثقى" التي لعبت دوراً كبيراً في الوعي التنويري في ذلك الحين. وكانت سياسة الصحيفة تقوم على اصلاح الاسلام ومناهضته الاستعمار البريطاني خاصة. حين توقفت "العروة الوثقى" عن الصدور عاد محمد عبده الى بيروت مدرساً، وفي هذه المدينة كتب واحداً من أهم كتبه "رسالة التوحيد" كما خاض في غمار التحقيق الأدبي عبر شرح "مقامات الهمذاني" و"نهج البلاغة" وعرب بعض كتابات استاذه ولاسيما "رسالة في الرد على الدهريين". بعد ذلك عفي عنه في مصر فتوجه اليها عائداً، حيث اسندت اليه مناصب عدة منها القضاء، ثم عضوية مجلس الأزهر - حيث خاض معارك عنيفة للاصلاح - وصولاً الى منصب الإفتاء. وهو حين رحل عن عالمنا في العام 1905 كان أضحى علماً ومرجعاً، وخلّف العديد من الكتب والدراسات التي نشر معظمها بعد رحيله، ومنها "الاسلام والنصرانية"، وتفسير 6 أجزاء من القرآن الكريم.