على رغم اعتناء البهائيين بالنص المقدس لمؤسس الديانة البهائية، إلا أنهم لم يشيروا إلى تحدث الوحي البهائي عن هذه الشخصية، ولم يتحدثوا عن علاقة البهاء بجمال الدين من خلال هذا النص، والذي يكشف عن توتر العلاقة بين البهاء وجمال الدين، ويكشف لنا بالتالي خطأ أبو الهدى الصيادي في نسبته جمال الدين إلى البهاء، هذه النسبة التي لم تكن صحيحة أبداً، لأنّ جمال الدين لم يكن في يوم ما من أتباع البهاء، ولا من مؤيديه، بل على العكس كانت العلاقة بينهما علاقة الأنداد التي تشوبها الغبرة والقترة. كان جمال الدين معروفاً من قبل بهاء الله، وكان بهاء الله نفسه يتطلع إلى كسبه واصطياده وضمه إلى الأتباع، غير أن جمال الدين رجل حرون طامح شامس، يسأله أحد الناس عن مذهبه فيجيب: «لا أعرف أحداً أعظم مني يمكن أن أتقبل طريقته» (انظر: علي شلش، «جمال الدين الأفغاني بين دارسيه». ص 102، ط: 1، دار الشروق: القاهرة، 1987). وعلى طريقة النص المتعالي يورد البهاء حديثه عن جمال الدين من دون ذكر اسمه في لوحٍ اسمه «لوح الدنيا» فيقول: «سبحان الله قد ظهر في هذه الأيام ما هو سبب الحيرة. فمن المسموع أن شخصاً ورد إلى مقر سلطنة إيران، وسخّر جمعاً من العظماء تحت إرادته. حقاً إنّ موقفاً كهذا يدعو للندب والنواح. تُرى ما بال مظاهر العزة الكبرى قبلوا الذلة العظمى؟ أين الاستقامة وأين عزة النفس؟ لم تزل شمس العظمة والعلم طالعة ومشرقة من أفق سماء إيران، ولكنها انحطت الآن بحيث جعل بعضُ رجالها أنفسهم ملعب الجاهلين. ونشر الشخص المذكور بحق هذا الحزب في صحف مصر ودائرة معارف بيروت ما تحيّر منه أصحاب العلم والمعرفة، ثم توجّه إلى باريس وطبع صحيفة باسم «العروة الوثقى»، وأرسلها إلى أطراف العالم وإلى سجن عكا أيضاً، وأراد بهذه الذريعة إظهار المحبة وتدارك ما فاته. مجمل القول إنّ هذ المظلوم سكت عنه، نسأل الله أن يحفظه وينوّره بنور العدل والإنصاف. له أن يقول: إلهي إلهي، تراني قائماً لدى باب عفوك وعطائك، وناظراً إلى آفاق مواهبك وألطافك. أسألك بندائك الأحلى، وصرير قلمك يا مولى الورى أن توفّق عبادك على ما ينبغي لأيامك ويليق لظهورك وسلطانك. إنك أنت المقتدر على ما تشاء. يشهد بقوتك واقتدارك وعظمتك وعطائك من في السماوات والأرضين. الحمد لك يا إله العالمين ومحبوب أفئدة العارفين. ترى يا إلهي ما ينبغي لعظمتك ويليق لسماء فضلك. إنك أنت الفضال الفيّاض الآمر الحكيم لا إله إلا أنت القوي الغالب القدير». (انظر: بهاء الله، «الكلمات الفردوسية: مجموعة من ألواح بهاء الله». جمعها وقدم لها يوسف أفنان ثابت، ص 248، ط: 1، دار المدى: دمشق، 2009). إنّ هذه الفقرات تفيد البهائيين في تحديد تاريخ كتابة هذا (اللوح) التي يمكن أن نقرر أنها كانت ما بين 1886 و1887، لأن جمال الدين الأفغاني وصل إلى ميناء بوشهر في 12أيار (مايو) 1886، ومكث في إيران قبل أن يطلب الشاه منه المغادرة بعد حوالى 18 شهراً، ويُفترض أن يكون نص لوح الدنيا قد كُتب في حدود هذه الفترة. يؤكد هذا النص الملاحظة التي قدمتها نيكي كيدي عن جمال الدين الذي «كانت له مقدرة غريبة على اقتحام الدوائر الحكومية العليا». (انظر: علي شلش، «جمال الدين الأفغاني بين دارسيه»، ص 87). وأضيف على ذلك أنه كان كحجر المغناطيس بالنسبة إلى المثقفين وحتى عموم الناس، فمنذ وصوله إلى بوشهر تقاطر الناس لرؤيته، ومنهم الشاعر فرصة الدولة شاعر شيراز الذي كتب قصيدة سجّل فيها لقاءه، واتصل به أيضاً سديد السلطنة، وكان من أكبر المثقفين والكتاب، فتلقى على يديه الدروس، وسجّل في كتبه حديث أستاذه عن ضرورة وجود التشريع وحرية التعبير والتصنيع والمساواة والديموقراطية في إيران، وأخطار الاستبداد والحكم المطلق، ودعاه الشاه من طريق اعتماد السلطنة وزير الصحافة (الذي كتب سيرة مختصرة للسيد جمال الدين ضمن كتاب كبير في عنوان «المآثر والآثار»)، إلى زيارة طهران فذهب ماراً بأصفهان التي أقام بها فترة، وفيها قابل ظل السلطان بن الشاه وحاكم المدينة الذي أُعجب بآرائه وتفكيره، ثم انتقل إلى الشاه فاحتفى به، وأُعجب بأفكاره الإصلاحية، وكتب هو عن نفسه عن ذلك، فذكر أنّ الشاه وصفه بأنه «أعلم أهل الأرض»، وأنه أراد تعيينه وزيراً للحربية ثم رئيساً للوزراء. وإلى هذه الحدود لا نرى أي مسوّغ يدعو البهاء للندب والنواح! ما قد يدعونا إلى التفكير في أن الحسد هو الداعي إلى ذلك، غير أنّ التمعن أكثر في شبكة علاقات جمال الدين سيكشف لنا عن صورة لم يتم التطرق إليها سابقاً، وهي أن جمال الدين ذا الخلفية البابية القديمة، وقف بعد الباب في صف الأزليين ضد البهائيين، وهذا ما أزعج البهاء تحديداً، وأثار حفيظته، ويبدو أن جمال الدين بعد مغادرته العراق وتجواله في شتى بقاع الأرض ظل على اطلاع دائم بتطور الدعوة البابية وبمآلاتها، وظل على صلة بأتباعها، وسندرك ذلك من خلال اصطفائه أتباعه من البابيين من جماعة صبح الأزل، وفي تلك الزيارة لإيران التي يتحدث عنها البهاء نزل جمال الدين في أصفهان في بيت الحاج سيّاح الذي اكتسب اسمه من كثرة سياحته، والتي عرف جمال الدين في إحداها حين التقيا في اسطنبول عام 1870، وقد تعلّق هذا الرجل بجمال الدين وصار من أخلص أتباعه، وكان من البابيين، ولما انتقل جمال الدين إلى طهران أعدّ له صديقه الحاج محمد حسن أمين الضرب بيتاً له في طهران، استضافه فيه، وعيّن لخدمته ميرزا رضا كرماني، والذي غدا من أخلص محبي جمال الدين ومن أقرب المقربين لديه، إضافة إلى علاقته الوطيدة بالشاعر أحمد روحي كرماني، وبالمفكر آقا خان كرماني الذين تحلقوا حول جمال الدين في اسطنبول، وشكلوا الدائرة الأقرب إليه، وإذا علمنا أن هذين الرجلين الأخيرين تزوجا ابنتي الميرزا صبح الأزل، أمكننا أن نخمن وجود نوع من العلاقة بين الأفغاني وصبح الأزل، وهذه العلاقة ما كانت ترضي البهاء بأي حال من الأحوال، على اعتبار صبح الأزل هو ناقض لعهد أخيه البهاء ومنكر لميثاقه، وهذا ما أشرنا إليه في مقالنا: «جمال الدين الأفغاني والكرمانيون». ثم نرى البهاء ينعى على الأفغاني أنه نشر في صحف مصر، وفي دائرة معارف البستاني معلومات حول «البابية» أزعجته، ونرجّح هنا أن يكون سبب انزعاج البهاء من جمال الدين هو إثباته في الموسوعة المذكورة مسألة الخلاف على خلافة «الباب» بين البهاء وأخيه الميرزا يحيى، الملقب من قِبل الباب نفسه ب (صبح الأزل)، هذا الخلاف الذي تحوّل إلى شقاق قاتل بين الأخوين، وأدى إلى انشطار البابية إلى (أزليين) و (بهائيين). كُتبت هذه المادة التي يشير إليها البهاء في عام 1884، وقد جرى خلاف حول كاتبها! فقد رجّح علي شلش أنه البستاني، أما قدسي زاده فأثبت أنه الأفغاني، وكذلك سيد هادي خسروشاهي الذي أدرج النص في الآثار الكاملة للسيد جمال الدين الحسيني الأفغاني، ولدى الرجوع إلى النص نفسه نرى أن الأفغاني هو الكاتب الرئيسي، وأن البستاني أضاف عليه بعضاً من الوقائع والمعلومات من مصدر آخر لم يكشف عنه، لأنه اكتفى في ختام المقال بقوله: «هذا ما رواه عنهم السيد جمال الدين الأفغاني المشهور وغيره»، وهذا يوقعنا في مشكلة أخرى، وهي أننا لا نستطيع الجزم في ما إذا كانت الانتقادات الموجهة إلى البابية وإلى بهاء الله تحديداً في هذا النص هي من تحرير جمال الدين أو من تحرير المصدر الآخر؟ ولدى مقارنتنا بين هذه المادة، وبين تلك التي أوردها فريد بك وجدي في دائرة معارف القرن العشرين، نجد أن المعلومات التي ترد في هذه الأخيرة مبنية على مراجع استشراقية (المسيو جوبينو صاحب كتاب «الديانات والفلاسفة في آسيا الوسطى»)، في حين أن المعلومات الواردة في دائرة البستاني تعطي انطباعاً واضحاً أنها لم تُستقَ من المراجع، بل من المعايشة والمعرفة المباشرة، ومن أجل ذلك فقد خلت من أية إشارة مرجعية! وهذا ما يرجّح كون الأفغاني هو كاتبها، لأنه فعلاً عايش هذه الفرقة في بداية صعودها منذ أيام يفاعته الأولى. ثم يذكر البهاء أن جمال الدين حين سافر إلى باريس وأصدر «العروة الوثقى»، أرسلها له في سجنه بعكا تحبباً وتودداً وتداركاً لما فاته. ويقول البهاء في نهاية ذلك: «مجمل القول إنّ هذا المظلوم [يعني نفسه] سكت عنه [عن جمال الدين]. نسأل الله أن يحفظه وينوّره بنور العدل والإنصاف. له أن يقول: إلهي إلهي، تراني قائماً لدى باب عفوك وعطائك، وناظراً إلى آفاق مواهبك وألطافك. أسألك بندائك الأحلى وصرير قلمك يا مولى الورى أن توفّق عبادك على ما ينبغي لأيامك ويليق لظهورك وسلطانك»... إلخ وهنا نرى طمع البهاء في أن يضم جمال الدين إلى رحابه، فهو بعد أن قرعه وشنّع عليه يعود ويوارب له باب الدخول، ويرمي له الصنارة عسى أن تلتقطه وتصطاده، وليس ذلك بمستغرب لمن علم اقتدار السيد جمال الدين وألمعيته وأهميته. ترى كم كانت ستحصد البهائية من فائدة لو تمّ هذا الأمر للبهاء، وهذا ما يذكرنا أيضاً بعلاقة عباس أفندي بن البهاء بالإمام محمد عبده الذي كان يتمنى من كل جوارحه ضم محمد عبده إلى سلسلة الأتباع. وتصوروا مقدار الفائدة العظيمة التي كانت تتطلع إليها البهائية نتيجة إيمان هاتين الشخصيتين العظيمتين بها. ولكن هذا ما انقضت الأيام دونه.