كان الكاتب الكبير إميل زولا في قمة مجده، وفي الثانية والستين من عمره، حين استأجر شقة يقيم فيها في باريس، حيث كان ينوي ان يمضي الشتاء في العاصمة. على غير عادته كان شهر ايلول سبتمبر الباريسي في ذلك العام بارداً، وكانت شقة زولا شديدة الرطوبة، فما كان من الكاتب الا ان اشعل نار المدفأة وأخلد وزوجته الى النوم. لكن حريقاً شب بعد وقت قصير، وقضى اميل زولا مختنقاً، بينما نقلت زوجته الى المستشفى، ثم تماثلت الى الشفاء بعد يومين. الحادث تافه لكنه قضى على الكاتب الذي اشتهر برواياته ذات النزعة الطبيعية، والتي مارست تأثيراً كبيراً على الكثيرين من كتّاب العالم، ومن بينهم بالطبع كاتبنا العربي الكبير نجيب محفوظ الذي صاغ ثلاثيته الشهيرة الى حد ما على نسق سلسلة روايات "آل روغون ماكار" التي ارخ زولا من خلالها لأسرة فرنسية امتدت حياتها على مدى عدة اجيال خلال عهد الامبراطورية الثانية. لقد تميز عمل اميل زولا ككاتب روائي من طراز رفيع بتمحيصه خفايا الحياة الاجتماعية للناس، وبدراسة مدى تأثير الوراثة والبيئة الطبيعية على سلوك شخصياته، وهذه الدراسة تتسم بنزعة علمية قد تبدو معها بعض صفحات "نانا" و"جيرمنال" و"صفحة من الحب" و"الحلم" وغيرها، وكأنها مجرد انعكاس للتحقيقات الصحافية التي كان اميل زولا يقوم بها في احياء باريس وغيرها من المدن، دارساً فيها علاقات البشر بمهنهم وبالمكان الذي ينتسبون اليه، اضافة، بشكل خاص، الى تأثير انتماءاتهم الطبقية عليهم. غير ان هذا الدأب العلمي لم يمنع اميل زولا من ان يكون صاحب مخيلة كبيرة في ابتكار الاحداث والنهايات وفي رسم مصائر شخصياته، مما جعل معظم رواياته قادراً على ان يظل حياً حتى اليوم بيننا، يطبع ويقرأ وكذلك يحوَّل الى افلام ومسرحيات ومسلسلات متلفزة. غير ان الروائي في اميل زولا لم يكن كل شيء، فزولا كان كذلك واحداً من الذين رعوا المدارس الحديثة في الفن التشكيلي، وساند بشكل خاص اعمال صديقه سيزان الذي ارتبط معه بعلاقة وثيقة. كان زولا كذلك صحافياً من طراز نادر، يجوس في خبايا المجتمع، وله من الجرأة ما جعله يتصدى لأكثر المسائل حساسية، ومن ذلك دفاعه الشهير عن الضابط الفريد داريفوس، الذي - بسبب يهوديته - اتهم بالتجسس في زمن كانت فيه معاداة السامية ضاربة اطنابها في فرنسا. لقد كان لمقال زولا الذي نشره في صحيفة "اورور" بعنوان "اني اتهم"، دور كبير في تعاطف الناس مع الضابط، وهو ما جرّ على زولا غضب جماعات القوميين اللاساميين واليمين المتطرف التي حاولت ضربه واغتياله مرات عدة، وخاصة بعد ان تنبهت الى ان اميل زولا ليس فرنسي الأصل، بل هو من اصل ايطالي ابوه كان مهندساً ايطالياً جاء الى فرنسا للمشاركة في اعمال شق قناة عرفت باسمه لفترة من الزمن. ولكن زولا عرف كيف يتصدى بشجاعة لكل الحملات التي شنت عليه. فاقترن لديه فعل الكتابة بفعل مقارعة الظلم وبفعل الجرأة على خوض معترك السياسة وقضايا المجتمع. وهذا ما جعل اناتول فرانس، يؤبن اميل زولا، يوم جنازته التي كان داريفوس في مقدمة المشيعين فيها، بقوله: "لقد رغب اميل زولا في ان تعم السعادة على الأرض اكبر عدد ممكن من البشر. كان ينهل من الفكر ومن العلم نهلاً، وكان ينتظر من القوة الجديدة، قوة الآلة، ان تصل الى تحرير الانسانية العاملة بشكل تدريجي".