لمعرض الخزاف العراقي رعد الدليمي، في صالة السيد للفنون في دمشق، نكهته الخاصة، المنبثقة من اللون الأزرق الفاتح. ومن اندماج الحرف بالسيراميك كحقل فني ضمن الاطار العام للتشكيل، اضافة الى هندسة الفراغ، والكتل التي تأخذ شكل الدائرة والمستطيل والقوس، أو المزاوجة بين كل ذلك. اتكأ المعرض على تاريخ رافدي طويل من تصنيع الخزف وزخرفته، وهو تاريخ تحوله من قميته الاستعمالية باعتباره حاجة يومية، الى قيمته الجمالية في التزيين للواجهات وفضاءات الغرف والأمكنة عموماً. وثمة نفحة روحية تواجه العين ما ان تؤسر بذلك الزخم الشاسع للتكوينات، المستوحات من القباب والمآذن والزخارف الشرقية والجداريات القديمة، ذات العلاقة بالحضارات ما قبل الاسلامية، وانتهاء بوقتنا الحاضر. انتقل رعد الدليمي من مهنة الخط والزخرفة الى فن السيراميك، وترك بصماته واضحة على القطع الفنية، سواء عبر الدقة المنفذة حروفيا، او طابع الرقش الذي يضفي جمالاً على الأشكال، حتى وان بعدت عن موضوع محدد. يقول الدليمي: كنت خطاطاً ومزخرفاً منذ الطفولة، هاوياً ثم محترفاً. شاركت في كثير من معارض الخط في العراق وخارجه، وكانت انتقالتي المفصلية حين ادخلت الحرف العربي الى مجال الخزف، بعدما اكتشفت ان الخزف يستوعب مجمل الفنون التشكيلية، من خط اللوحة الزيتية الى طريقة التلوين الذهبي ثم مطاوعته للمشهدية السردية والتجريد، اضافة الى تقبله للزجاج مادة تنسج في صلب العمل. في المعرض نوعان من التعامل مع السيراميك. الأول هو الجداريات، ضمن اطارات خشبية ذات خلفيات زرقاء داكنة تتحول الى الأسود ما ان ينسكب الضوء عليها. اذ يعطي هذا الأسلوب مساحة للتشكيل مريحة، فتستوعب اللوحة ضمن مسقط أمامي واحد. وهو عادة ما يكون على هيئة صفائح صغيرة تشكل الموضوع. والمجسم، الذي يرى من مساقط عدة، ويمكن للمشاهد الدوران حوله من دون وجود نقطة مركزية للرؤية. مستطيلات ودوائر وكتل جمالياتها من العلاقة بينها، اضافة الى علاقتها بالفراغ حولها. وعلى رغم وجود الحرف كمفردة تشكيلية محسوسة في الأعمال الا انه يختلف بين النمطين، اذ يأخذ الحرف تجسيده الافقي في الجداريات وحدها، اما في المجسمات فيمتلك خاصية بلاستيكية في الدوران والالتفاف. لكن لكل نمط جماليته، وميزته. ذلك ان تقسيم الجداريات الى قطع خلق توازناً مستقراً لها، اضافة الى انه أضفى سمة جمالية كونتها خطوط التلاقي بين القطع، كسرت رتابة اللون الشذري المفروشة على السطح، او اللون القمحي الخارج من طبقات التراب. والتربة المستخدمة في السيراميك هي التربةالعراقية، ذات المكونات الخاصة التي تساعد في تماسك العمل. تربة ملائمة للسيراميك، يجدها المرء على شواطئ الأنهار، وهي ما يعرف في العراق بالطين الحري، المتكون من الترسب الطويل لغرين المياه، خلطات ذلك الطين عادة تحتمل الف درجة مئوية، أما اذا كان المطلوب درجة حرارة أعلى فتضاف بعض المواد الكيمياوية المقوية كي لا ينصهر الطين، وكي تصبح السطوح أكثر ملاسة. وتوفر الطين الحري بغزارة في العراق ربما كان السبب وراء انتشار الخزف العراقي منذ فجر السلاسات البشرية. ان ملاسة السطوح السيراميكية تبث سكينة حول الأشكال، لما تحمله من رهافة الأصابع التي اشتغلت عليها، وتأتي هذه المرحلة بعد فخر الطين، في حين يضاف الزجاج مع الأكاسيد وترش بعد الفخر، لتعقبها عملية التذهيب. الكرة والمستطيل، والقوس غير المكتمل، تعطي السطوح مساحة تستوعب الحروف والتشكيل وتمحور الفضاء حولها، فاذا القوس مدخل لبيت غائب، والكرة قبة مئذنة والمستطيل معمار يتألق بألوان السماء الصافية. الالوان شرقية اسلامية لها طابع تراثي وديني، تحيل الى روح التعبد في المساجد والأضرحة. للشذري قدسية في نفس الانسان، الشرقي خاصة، مثلما الحرف ايضا، له قدسية الكلمة التي خلقت الكون بأمر الخالق، حسب الديانات التوحيدية. وهذا ما تحاول الأعمال ايصاله الى الحواس، بصرية كانت أو جوانية مخزونة في اللاشعور الجمعي. ومع اللون الشذري مفردات من البيئة والتراث، إذ ليس هناك مفردة غريبة والتوظيف ضمن اخراج حديث. الحرف والزخرفة واللون هي التي تخلق الخصوصية كما يقول رعد الدليمي، على رغم ان هناك لوحات خارجة عن هذا الجو، ذات لون ترابي وبشكل جداري أو مجسد، جمالياتها تنتمي الى تراث ما قبل اسلامي، يشبه مكتشفات أثرية. والملاحظ أيضاً، وجود مزاوجة بين التراث القديم والاسلامي والبيئة المحلية. هذه الأصالة، التي ركز عليها الفنان كثيراً، تشف ايضاً عن فجوة بين الحياة المعاصرة والأعمال المعروضة. فجوة احدثت هروباً نحو التاريخ، فالحياة من بنايات الى بشر الى كائنات، من خرائب وتشوهات وهزائم، غائبة ولم تحضر سوى ظلالها، والحداثة المرئية تتجسد بالشكل وتوزيع الكتل ودخول الحروف بشكل مبتكر الى فضاء العمل. مسلة قديمة فيها حروف عربية، ونقوش والوان، ضمن تقطيع حديث، نافذة أو باب قديم أو قبة. مستطيل يحمل كتلة دائرية، الكرة والمستطيل بدمجهما يعطيان شكلاً آخر. مستطيلات عرضية أو رأسية، اضافة الى أشكال هندسية مركبة، مع انحناءات، ضمن مقاسات ونسب، تعتمد احياناً على سليقة الفنان. الخلفيات ازرق داكن، ومع الانارة تعطي لوناً أسود يقترب من الوان الخزف، إلا انها تبرزها أكثر مما تخفف من توهجها. ولا يخفى ان درجة التحكم بالوان السيراميك صعبة جداً، فهو مادة حساسة، العمل معها في حاجة الى ممارسة، فالانسجام بالألوان وكثافتها في السطوح تعتمد على خبرة الفنان بالتعامل مع الزجاج والألوان القادمة من الأكاسيد الكيمياوية، ونسبة اللون تعتمد على الدقة البارزة في كل قطعة، وهذا ما جعل الدليمي يستفيد من الجو العام للمكتشفات الأثرية، البابلية والسومرية والاشورية، من حركات الحفر في الطين والتدوين عليها، لكن بحرف عربي وأسلوب مختلف. بدلاً من الحرف المسماري استخدم الحرف العربي، الكوفي القديم بأنواعه، وهناك تزاوج بين مختلف العصور الحضارية، مما جعل العين تسبح في سمفونية من النغمات اللونية حكمها الأزرق الشذري في تدرجاته الشفيفة. النقاط، اضافة الى الحروف، لها حضورها أيضاً، كونها تشكل حالة جمالية ووظيفية، فالشكل المجرد، الدائرة والمستطيل والقوس، تكسر رتابتها النقاط فتمور الحركة خارج السكون. النقاط لخلق الحركة، والحروف تنبت رقشا وزينة حيناً ومعنى صوفيا حينا آخر، مثل تجسيم كلمة الله في جدارية كبيرة، وتوزيع جملة بسم الله الرحمن الرحيم. عبر تصغير وتكبير، دمج وتأطير، عبر تكعيب وتدوير واستطالة، تتخلق جمالية أخرى. هي دوران الكتل داخل الفراغ، حيث الخطوط الهندسية تتشعب في الاتجاهات كافة مثل اذرع دخانية عملاقة.