لا ينقطع تحويم الطيور في فن حسين ماضي، ولا تغريد العصافير حيثما اجتمعت وكيفما تفرقت يقيم لها فضاءً خافقاً باللون والحركة" ولا تغيب المرأة عن صورتها في عين الفنان ومخيلته، لأنها طالما ارتبطت بمسيرته الفنية الطويلة التي تنوعت عطاءاتها ما بين رسم ونحت وحفر، بما يستحق العودة اليها مراراً لرصد ظواهرها وتحولاتها شكلاً ومادة، ولأن مسيرة حسين ماضي أبعد من أن تُحصر لغزارتها، فقد عملت غاليري "أليس مغبغب" في بيروت الأشرفية على استرجاعها باحتفالية تختصر لتقطف أجمل التجارب الناضجة في المراحل الفنية. انطلاقاً من آخر الانتاجات وتذكيراً بالبدايات، أي من حاضر الفنان الى ماضيه، عبر ثلاثة معارض، الأول ضم 14 لوحة جدارية اكريليك لنساء وعصافير، والثاني لمجموعة من المحفورات غرافور، لينوليوم وليتوغرافي من السبعينات والثمانينات، انتهاء بمعرض النحت الذي يندرج تحت عنوان "ستون عاماً، ستون منحوتة" جص وفخار وحديد وبارولييف المزمع اقامته في صالة المركز الثقافي الفرنسي. لغة الشكل من زخارف الوسائد تطل النساء في قيلولة ناعمة، منفردات أو مجتمعات، ومن الوشوشات والضحكات والثرثرات يبدأ لينكشف عالم بغاية الرقة والحبور. فزائرات المحترف هن جليسات الفنان. أجسادهن أقواس وخطوط لينة وقاسية. تتراءى أزياؤهن وتسريحاتهن ورغم ظهورهن فهن متواريات مثل قبلات تطير في الهواء. هكذا تتحوّل موضوعية الواقع الى ذاتية الأسلوب كحقيقة أكيدة. فالأسلبة لها سطوة التحكم بالشكل أي شكلٍ كان، امرأة أو عصفوراً أو طبيعة صامتة، فتجرِّده من صفاته ووظائفه في الواقع، وتحيله الى الصناعة الخطية والتلوينية، بسلوك ارتجالي واختزالي يبتكر حضوره بسرعة ويُصيب معناه في التكرار. هكذا ينظر الفنان الى المرأة كحضور وشكل وحركة، يتأملها حتى يصل من خلالها للوضعية المدهشة. كأنه يرى ليتعلم وينسى ليبتكر، يسوقه كل حب جديد ليكشف أنوثة المرأة وما يدنيها من الطبيعة، كثقافة مقسومة الى نصفين أو كقلب زهرة في الأماكن الأكثر جاذبية. إذ لا ينفك بعيداً عن التشويه من تركيبه للشكل تركيباً يبتكره، يصبح معه الخط منحنياً كقوس أو مشدوداً كوتر ومداعباً يكاد يبلغ الظرف. وأحياناً تنحت ريشته الشكل بخطوط ثخينة مثل شرائط الحديد المطوي وبين أنواع التعابير الخطية تبدو المرأة مستسلمة للنوم متراخية كأنها في غيبوبة حلم أو منصرفة الى زينتها. ويظل الشكل افتراضياً ليس لذاته وانما لحضوره غير العادي والموارب بالكيفية التي يتم فيها التعبير عنه، ذهاباً الى ما وراء الشكل أي تكوينه وحركته الباطنة المؤلفة من أقواس وخطوط ومن مستقيمات ومنكسرات. من نقطة الى خط مستقيم ثم الشوق الى الانحناءات واغراءاتها، وطالما الواقع موجود طالما هو متحول لأنه البحث عن الخصائص، في نظام لا يتوقف عن التنفس والوجود والتكرار. معه يصير الشكل نظاماً شكلانياً متحولاً والعصافير اشارات حروفية على الأرجح كلغة تصويرية حركية لا تُقْرأ بالعين فحسب بل تحس لأنها قابلة للتأويل، كما أن خضوع تلك الاشارات الحروفية الى نظام هندسي يجعلها تشبه الأرابسك، ومنها الى الخط والزخرفة والرقش والألفباء العربية، تلك مصادر التجريد الهندسي وجمالياته التي تحضر في فن حسين ماضي وستظل تتنوع طالما أن الدائرة تدور والمربع ينقسم الى مثلّثين والقوس يتحد مع الوتر. المفردات التصويرية الحرية التي يترجم بها الفنان معطيات الحياة هي التي تضفي على عمله هذه القوة الشديدة التأثير. فهو يسلك سبلاً مختلفة، متماسكاً في معالجاته لأشكاله ومفرداته. حتى إذا التفت الى الأشياء فهو لا يرسم طبيعة صامتة حقيقية الا ليعرف مدى استدارة التفاحة فوق عنق الإناء الموضوع على طاولة مسطحة، انها الأحجام والكتل التي يجعلها تتحاور في فضاء اصطلاحي، لابراز التناقضات في الأشكال والألوان، واذا استعمل الألوان البنية والزرقاء فهو يحيطهما بالأحمر الآجري ذي النبرة الرزينة وبدل أن يُرينا وجوهاً نسائية يقترح علينا احجاماً يخترقها بحرية ويحس بالحاجة للعودة الى النحت مأخوذاً بسحر المعدن، ومرة يصنع زخرفة على محفورة، ومرة يعدُّ طيوره للطيران فيجعل حركاتها أكثر انطلاقاً. وحين يقتحم الأشياء يفككها وبنزوة يعيد تركيبها، فالتجريب المبني على المراس والمعرفة مع العين المدربة، يحيل العناصر الى فنون تطبيقية. فيده كيد البهلوان تستخدم لدراسة الأشكال قصاصات الورق ثم لا تلبث أن تُخرج من المربع عصفوراً ومن أنصاف المربعات والمستطيلات رفوف عصافير ومن المثلثات المذنبة حركات متباينة في التحليق بين علو وهبوط. إلا ان القوس والخط، كمفردة تصويرية، هما من أكثر المفردات التي يعتمد عليها ماضي في تجسيد الشكل هندسياً، كبصمة قادرة على التواجد في أي مكان وبدل أي شيء. فالقوس والخط المزدوجان هما الرأس والشفاه وتكرارهما الجسد ونصفهما الفخذ. وهما على الجدار والوسادة كزخرف ومتشابكان كسوار حول معصم أو متفتحان كزهور معقودة حول عنق أو متداخلان كانحناءة طائر. وثمة تكرار أوتوماتيكي للقوس والخط اللذين ينفصلان عن دورهما في التصوير، ليتحولا الى قماشة تجريدية من المفردات كإشارات حركية عريضة تحتل شاشة الذاكرة كلها وكذلك فضاء العين. هكذا تذهب الأشياء من البساطة الى التعقيد ومن الجزء الى الكل ومن الوحدة الى التكرار والتنوع بين رؤية وتحليل وهندسة واختزال واصطفاء، تفسح لظهور العلاقة الوطيدة بين العين واليد والبداهة والضرورة والذاكرة والذهن والارتجال وبراعة الاقتراح. العودة الى الطبيعة "الطبيعة هذا العري الكبير بلا نهاية وبلا مراوغة يسحرني. أجدها واضعة نفسها أمامي فلا أرتوي منها وحيالها تظل عيني نهمة بلا حدود". يقول حسين ماضي. لذلك تظل عناصر الطبيعة حاضرة حين يرسمها بواقعية أكاديمية أو حين يجردها هندسياً، كمادة وشكل ونظام، من مبدأ الوحدة والتكرار، الكبر والصغر، التنوع والاختلاف... هذا المبدأ الذي يهدف الى تسجيل اشكال الكائنات وحركاتها بأبسط الخطوط: "لا أرى لأرى. بل لأقرأ بعين البصيرة"... بمعنى آخر الأمانة للطبيعة ثم خيانتها. التكعيبية - التحليلية والى كونه من ورثة التكعيبية، ينتمي حسين ماضي الى الحداثة التشكيلية بعنوانها العريض. من مبدأ دراسة الشكل كخطوط وسطوح وحجم وكتلة وتجزئته وتحليله هندسياً براك وبيكاسو ثم اسلبته خطياً ولونياً وحركياً. فنتذكر احياناً قصاصات ماتيس وطيوره وعارياته الزرقاء وتجريدياته الزخرفية المستوحاة من نظام الأرابسك. إلا أن اسلبة ماضي خرجت عن منهج التكعيبيين الى هندسة الفنون الإسلامية مع لغة المربع وأجزائه عبر الوحدة الصحيحة الكاملة وجمع التكسير من ضمن علاقة الجزء بالكل. يقول ماضي "التكعيبية تيار مهم لكن انتهى عند حدوده في رؤية الأشياء من كل الأوجه مجابهة ونصفياً وخلفياً... إلخ دفعة واحدة. فقد وصل الفنانون الى التكعيبية من الطبيعة، في حين ذهبتُ من الطبيعة الى سر نظامها الداخلي المنسجم مع مبدأ التكوين الكوني لاكتشف التنوع في الوحدة، لأن ايماني بوحدانية الخالق جعلني أرى في وحدته تعددية صفاته، كما أرى أثره في خلقه. ذاكرة النحت ومثلما كان لبيكاسو رجعة الى النماذج الجبسية اليونانية والرومانية القديمة ولاحقاً الأقنعة الأفريقية، كان للفنان حسين ماضي علاقة قديمة مع فنون المشرق الأدنى الحضارات الفرعونية والبابلية والآشورية والفينيقية التي أغنت، كموروثات حضارية وجمالية، تجربته النحتية في بداياتها خلال مرحلة إقامته في روما أواسط الستينات وظهرت على الفخار بأشكال واقعية صرفة أوائل النماذج لموضوعات حية ما لبثت أن تحورت هندسياً" فالزخارف والورود المتفتحة كأقواس مع أوراق ذات تلافيف حلزونية هي جوانب خفية من الفنون البدائية التي ظهرت ملامحها في أعمال تشبه الأقنعة المحفورة داخل دوائر الاختام الاسطوانية والوجوه المضروبة على العملات القديمة، وبانعطافات حسية في التصوير التجسيمي المتعدد الأبعاد، تبرز مواضيع الأمومة والمرأة والحصان والديك والطير والمفكر والعازف كتجارب مشحونة بالاحتشام الجمالي الكلاسيكي الذي يخلو من الثغرات الداخلية. في حين أن مرحلة الثمانينات ارتبطت بمادة الحديد، مع غياب الواقعية البريئة وحضور النزعة الهندسية المشاكسة الكتلة والفراغ لتغدو السطوح متناقضة بين مسطحات منبسطة وانكسارات زوايا حادة معها تصل الأشكال الى ذروة البلاغة في التعبير عن قوة الحركة وصفاتها