مثل طائر العنقاء أو الفينيق الأسطوري الذي ينبعث كل مرة من رماده حياً، نهض المستشار الألماني غيرهارد شرودر من المنحدر العميق الذي كان قد وصل اليه في الأشهر القليلة الماضية مع حزبه الاشتراكي الديموقراطي الحاكم، ليحلق عالياً فوق الحلبة السياسية في المانيا. وفي الوقت الذي بدأت شعبيته بالارتفاع من جديد بدأت تهبط شعبية الحزب الديموقراطي المسيحي المعارض وسمعة المستشار السابق هلموت كول بسبب فضيحة "الحسابات السوداء" التي كان يتصرف بها والتي تتدحرج حالياً مثل كرة ثلج لا يعلم المرء متى ستتوقف وما هي الأضرار التي ستلحقها بالحزب وبعدد من قياداته. وسجل المؤتمر الحزبي العام الناجح الذي عقده الاشتراكي الديموقراطي قبل اسبوعين في برلين انتصاراً كبيراً للمستشار الألماني لم يكن يتوقعه أحد في مثل هذه القوة والدقة. واجمع المراقبون السياسيون هنا على انه مع اعادة انتخاب شرودر رئيساً للحزب وبنسبة محترمة بلغت أكثر من 86 في المئة من أصوات المندوبيين حصل في المرة الماضية على 73 فان نجم المستشار بدأ صعوده السياسي الثاني بعد الهاوية التي سقط فيها مع حزبه في الانتخابات المحلية التي جرت في الأشهر الأخيرة في ست ولايات. وجرى تسجيل الاشارات الأولى لهذا الصعود المفاجئ قبل أسابيع قليلة، عندما وضعت المعاهد الاقتصادية الخمسة الأساسية في البلاد وهي معروفة ايضاً باسم الحكماء الخمسة تقريرها نصف السنوي حيث أشادت بخطة التقشف الحكومية وتوقعت نمواً اقتصادياً ملحوظاً في البلاد في العام 2000 سيصل الى 7.2 في المئة، أي ضعف النمو الحاصل في السنة الحالية. وحصل الاختراق الفعلي للجمود وللبلبلة اللذين لفا عمل المستشار وحكومته بعد الهزائم الانتخابية والسياسية التي منيا بها عندما سارع شرورد قبل شهر تقريباً الى انقاذ شركة هولتسمان للبناء من الافلاس المحتم بعدما تخلت عنها المصارف المقرضة. وأدت هذه المبادرة لا الى انقاذ الشركة الضخمة، فقط بل ايضاً حوالى 60 ألف عامل وموظف فيها وفي عشرات الشركات الصغيرة التي تعمل في اطارها. وأثار هذا الموقف موجة من التأييد الشعبي العارم على رغم الانتقادات التي وجهها أرباب العمل الى المستشار بسبب تدخل الدولة في سير الاقتصاد الحر. وبعد ان كاد اسم شرودر يصبح مثار سخرية دوى اسمه على مدى يومين من حناجر آلاف عمال الشركة في الشوارع وهم يحيونه ويهتفون له في لحظات ذكّرت بالهتافات باسم كول ايام اعلان الوحدة الألمانية. ولاحظت الاستفتاءات التي أجريت، بدء صعود نجم شرودر واستعادة حزبه لجزء غير قليل من ثقة ناخبيه السابقين الذين لمسوا ان الحزب لا يزال حزباً اجتماعياً يغار على مصالح الفئات الشعبية بعدما كادت تزول هذه الصورة، خصوصاً بسبب "ورقة شرودر - بلير" التي صعقت الحزب وجماهيره. ومع ان شرودر لا يزال مقتنعاً بالورقة من حيث المبدأ، الا انه تخلى عن فكرة تطبيق بنودها في الوقت الحاضر. أما الاختراق الثاني الذي حققه شرودر وحزبه فلم يكن بفضلهما أساساً، وانما أمنه لهما على طبق من فضة المستشار السابق هلموت كول، مع انكشاف فضيحة التبرعات السرية التي كان يضعها في حسابات سرية بلغت 20 حساباً كان يتصرف بها على مدى 16 سنة من حكمه من دون علم احد تقريباً باستثناء عدد قليل جداً من المقربين منه. هذا الأمر شكك بقوة في صدقية كول المالية وفي الأسباب التي جعلته يتصرف بتبرعات لا يعلن عنها ويطرح الأسئلة عن الأشخاص والهيئات التي حصلت عليها، اضافة الى انتهاك المستشار السابق قانون الأحزاب وتمويلها حيث كان يفترض فيه ان يسهر على تطبيقه على نفسه قبل الآخرين. ودفعت الفضيحة التي احدثت هزة اخلاقية في البلاد البرلمان الاتحادي الى تشكيل لجنة تحقيق ستبدأ عملها مطلع العام المقبل للاستماع الى أقوال كول وغيره لمعرفة من كان يعلم بأمر الحسابات السوداء، ومن أين اتت التبرعات، ولماذا دفعت، ولمن أعطيت، وعلى من وعلى ماذا صرفت؟. ويبدو أيضاً ان النيابة العامة في بون ستصدر مذكرة تحقيق مع المستشار السابق بعد اعترافه بخرق قانون الأحزاب وقد توجه اليه تهمة الخداع والرشوة. وفي استفتاء أجري أخيراً تبين ان شعبية كول الذي سيدخل التاريخ باعتباره "مستشار الوحدة الألمانية" ومهندس "الوحدة الاوروبية" تراجعت بصورة كبيرة في الأسابيع القليلة الأخيرة. وتخشى أطراف من قيادة حزبه الآن من انه ان لم يتحمل نتائج مسؤوليته عن الفضيحة في أسرع وقت ويستقيل من رئاسته الشرفية للحزب ومن نيابته في البرلمان الاتحادي ويبتعد عن المسرح السياسي، فستكون نتائج ذلك كارثية على سمعة الحزب، خاصة وان استحقاقين انتخابيين مهمين أصبحا على الأبواب في ولايتين. وكما يقول المثل الشعبي فان "مصائب قوم عند قوم فوائد"، ولا شك ان المحنة التي يمر بها الحزب الديموقراطي المسيحي حالياً يستفيد منها شرودر وحزبه وسيحاولان الاستفادة منها الى أقصى حد. لكن لا بد من القول ان الحزب الاشتراكي الديموقراطي والمستشار الألماني يبذلان حالياً كل جهد ممكن لاستعادة ثقة المواطنين بهم، ويبدو ان الظروف العامة، والاقتصادية خصوصاً، ستساعدهما على تحقيق ذلك. والاستفتاءات الأخيرة تشير الى ان الاشتراكيين والخضر سيفوزون في الانتخابات العامة اذا جرت الآن. لكن موعد الانتخابات هو عملياً بعد ثلاث سنوات، وهي فترة طويلة قد تشهد أكثر من عاصفة وأكثر من تبدل في الفصول وفي المواقع.