في الرابع عشر من كانون الأول ديسمبر 1960، مع الولادة الرسمية ل"منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" OCDE، انفتح الأفق الأول، تاريخياً، لذلك الاهتمام الذي راحت الأمم الغنية تبديه ازاء الأمم الفقيرة. وكان لهذا الأمر مغزاه السياسي العريض في ذلك الوقت الذي كانت فيه الحرب الباردة تذر اقرانها، وتهدد في كل لحظة بالتحول الى حرب ساخنة. قبل ولادة تلك المنظمة، كانت الهيئة السابقة عليها هيئة اوروبية بحت تحمل اسم "المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي"، وكانت هذه الهيئة تضم 18 دولة أوروبية، من دون ان يعرف احد حقاً ما الذي سيكون عليه مصيرها المقبل ضمن اطارها الأوروبي، خصوصاً وان القوتين الأبرز اقتصادياً في العالم الغربي في ذلك الحين كانت الولاياتالمتحدة وكندا. والولاياتالمتحدة بالذات كانت في عز دخولها العالم القديم كنتيجة من ناحية لانتصارها في الحرب العالمية الثانية، ومن ناحية ثانية لموقعها الأساسي في الحرب الباردة وفي المجابهة مع المعسكر الاشتراكي. في ذلك الحين كانت المجابهة مع الاتحاد السوفياتي وتوابعه، هي الأساس، وكانت المجابهة تدور من حول تغلغل نفوذ كل من الكتلتين في البلدان النامية، وكانت كوبا قدمت المثل "الأسوأ" وما ان انتصرت ثورتها حتى راحت، حسب الرأي الاميركي "ترتمي في احضان السوفيات"، وكانت حركات التحرر الوطني المنتشرة في بلدان افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية تميل، رغم مقولات الحياد وعدم الانحياز، ناحية المعسكر الاشتراكي. وكان هذا في حد ذاته يشكل خطراً كبيراً على معسكر "العالم الحر" - كما كان المعسكر الغربي يسمي نفسه -. وكان المحللون الاميركيون - والغربيون عموماً - قد رأوا ان معركة النفوذ، لئن كانت في صورتها الخارجية سياسية وأيديولوجية، فانها في صورتها الداخلية اقتصادية. بمعنى ان البلدان النامية قد تميل في نهاية الامر الى حيث يمكن ان تميل مصالها الاقتصادية والتنموية. من هنا كان الصراع الجديد، يتمحور من حول المساعدات التي يمكن تقديمها. هنا لا بد من الاشارة الى ان الولاياتالمتحدة نفسها، كانت عملت طوال السنين التالية للحرب العالمية الثانية، على محاربة الاستعمارين القديمين، البريطاني والفرنسي بشكل جدي، محاولة ان تحل محلهما في مناطق نفوذهما القديمة. غير ان الطرف الذي كسب من تلك المحاربة كان موسكو لا واشنطن. وهكذا وجدت واشنطن نفسها مضطرة الى اعادة النظر في سياستها. وهي اذ ادركت انها لا تستطيع، بعد، ان تتغلغل منفردة داخل هذا العالم النامي الفقير، ارتدت الى اوروبا تحاول ان تتغلغل فيه شراكة معها. وفي رأي العديد من محللي تلك الفترة، هذه هي الخلفية التي حكمت ذلك التبدل الذي طرأ في ذلك اليوم على المنظمة التي كانت اوروبية، فأضحت عالمية. وكان هذا التبدل على أية حال ثمرة جهود أربعة من الحكماء فرنسي، وبريطاني، وأميركي، ويوناني انكبوا على دراسة الوضع طوال ذاك العام. وكان في رأي هؤلاء ان لجنة "التبادلات" وهي جزء من تنظيم المنظمة الجديدة، ستكون الأهم لأنها ستشكل منبراً عالمياً لدراسة المعضلات الأساسية مثل المجابهة بين السياسات التجارية العامة للدول الاعضاء والصعوبات المتعلقة بالتبادلات، اضافة الى بحث الصعوبات على المدى الطويل في مجال التبادل التجاري بين الدول الاعضاء والعالم الخارجي. وعلى هذا الأساس كانت النتيجة ان حددت ضروب تحرك ثلاثة للعمل على أساسها، وهذه الضروب تشكل، الأساس لبرنامج عمل المنظمة الجديدة: 1 - تنظيم السياسات الاقتصادية للدول الأعضاء أوروبا والولاياتالمتحدة وكندا بهدف تحقيق أفضل تقدم ممكن في مستوى المعيشة والعمل. 2 - تنسيق العون المقدم الى الدول النامية اقتصادياً، مهما كان شكل هذا العون ووجهته. 3 - احداث تطور مطرد في التجارة العالمية على اسس تبادلية لا تمييز فيها بين أمة وأخرى. ومن اجل الوصول الى هذه الاهداف، وما يتفرع عنها، اعلن ان المنظمة سيمكنها اما ان تتخذ قرارات ملزمة لأعضائها كافة الا اذا تقرر لاحقاً عكس ذلك، وإما ان تطلع بتوصيات غير ملزمة، وإما اخيراً ان تعمل على عقد اتفاقيات بين الدول الاعضاء، او بين الدول الاعضاء والعالم الخارجي، او مع المنظمات العالمية... وهذه القرارات والتوصيات يجب ان تتخذ بالاجماع، غير ان غياب بلد عضو، لا يجب ان يكون عقبة تحول دون تطبيقها على الآخرين. وفي الاحوال كلها نعرف ان تأسيس تلك المنظمة و"انفتاحها" على الدول النامية، كان وراء العد العكسي لعلاقة المعسكر الاشتراكي بتلك الدول، خاصة وان نشاطها سرعان ما ارتبط بنشاطات البنك الدولي الخاضع، هو، لهيمنة واشنطن. الصورة: البلدان النامية، من التجاذب السياسي الى التجاذب الاقتصادي.