على الأرجح ان الأزمة بين الحكومة الأردنية وحركة حماس لن تقف تداعياتها عند قرار الإبعاد الذي اتخذته هذه الحكومة بحق أربعة من قادتها السياسين. فوجود حركة حماس على الساحة الأردنية هو أعمق من تمثيل بضعة أردنيين لجناحها السياسي. فهؤلاء ينتمون بالأساس لجماعة الإخوان المسلمين التي انبثقت منها حركة حماس في الداخل وأفرزت مجموعة منهم في الخارج لتمثيلها سياسياً في البداية وليصبحوا قيادة سياسية لحماس في ما بعد وينشطوا في مختلف الدول العربية لحشد التأييد والدعم لبرنامجهم، مرتكزين الى الحركة الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم العربي. ولهذا فإن إنهاء الوجود القيادي لحركة حماس في الأردن لا يعني انهاء ووجود عمل هذه الحركة على الساحة الأردنية التي تحظى فيها بتعاطف كبير من الأردنيين بأصولهم المختلفة خصوصاً وأنها لم يسجل عليها خلال وجودها هناك أية إساءة لأمن الأردن ولا محاولات للتدخل في الوضع الداخلي الأردني. ولهذا فان الحركة الإسلامية تستطيع ان أرادت حمل مشروع حركة حماس وجعله في مقدمة اولوياتها وتعويض الفراغ الذي خلفه خروج قادة حماس من الأردن، من خلال إبراز رموز اسلامية متعاطفة مع حركة حماس وبرنامجها لا سيما وان هناك العديد من هؤلاء من هو موجود الآن ويمارس هذه المهمة. وعلى الرغم من ان القيادة الحالية للإخوان لا تبد تحمساً لهذا الأمر مخافة ان تتعرض لإجراءات عقابية من الحكومة الأردنية بما في ذلك حظر عمل الجماعات المرخصة كجمعية خيرية حتى الآن، إلا أن أية قيادة لهذا التنظيم لا تستطيع ان تنأى بنفسها عن تحمل مسؤولية الدفاع عن برنامج المقاومة الذي تتبناه حركة حماس خشية فقدان تأييد القواعد المنظمة فضلاً عن تراجع شعبية هذه القيادة في أوساط الشارع الأردني، وهو ما تحتاجه في المرحلة القادمة في ظل تزايد المؤشرات على مشاركة الإخوان في الانتخابات البرلمانية المقبلة بعد إدخال تحسينات على قانون الصوت الواحد أو حتى إلغاؤه حسب التوجهات التي أعلن عنها في العهد الجديد والتي كانت باكورتها تغيير قانون المطبوعات والنشر بعد الأخذ ببعض ملاحظات المعارضة ونقابة الصحافيين الأردنيين عليه. كما ان الحكومة الأردنية تدرك تماماً أهمية استمرار الإخوان كمعارضة سياسية سلمية تحول دون بروز جماعات متطرفة كما هي الحال في العديد من الدول العربية المجاورة، إضافة الى ان هذه الجماعاة هي الوحيدة بين القوى الأردنية التي لم تعان من مشكلة الإقليمية والتمييز بين الأردنيين بمنابتهم المختلفة وهي بذلك تشكل عاملاً مهماً من عوامل الاستقرار في البلد، الأمر الذي يجعل إضعاف الإخوان خسارة للحكومة الأردنية وليس للجماعة فقط! ان التداخل الشديد في نسيج العلاقة الأردنية - الفلسطينية واستحالة القفز عن حقيقة وجود أردنيين من أصل فلسطيني لم تحل قضيتهم عبر المفاوضات الحالية ولا يتوقع ان يكون لها حل مرض عبر المفاوضات النهائية، يجعل من غير الممكن إنهاء تعاطف هؤلاء مع حركة تمثل بالنسبة لهم أملاً أخيراً في الدفاع عن قضيتهم. أما التشكيك في مواطنة هؤلاء والتخويف من تداعيات وجود حماس السياسي في الأردن على الوحدة الوطنية الأردنية ومقارنة ذلك بما حصل في أيلول 1971، فهو ليس إلا مجرد تبريرات تساق للتغطية على الدوافع الحقيقية من وراء الحملة الأمنية على حماس وهي: التساوق مع ترتيبات إقليمية مرتبطة بعملية التسوية الجارية تهدف الى إضعاف حركة حماس من خلال عزلها عن أحد قواعدها الشعبية المهمة في العالم العربي وإرباكها تنظيمياً بتشتيت قادتها في بلدان العالم العربي بدلاً من تركيز وجودهم في الأردن. إضافة الى محاولة إضعاف مركز قيادة الحركة في الخارج الذي ترى هذه الأطراف انه أكثر تشدداً من قيادة الداخل التي تتعرض لضغوط شديدة من أجل وقف مقاومة الاحتلال والاندماج في عملية التسوية. كما ان حركة حماس استطاعت كسب احترام جزء مهم من الشارع الأردني بكافة منابته وأصوله من خلال تركيزها على إسلامية الصراع وعدم الاكتفاء بدور الفلسطينيين فيه، إضافة الى أنها سارت في نفس الخط الذي انتهجته حركة الاخوان المسلمين بعدم منازعة السلطة الأردنية والاكتفاء بالإصلاح الاجتماعي والسياسي، بل ان حماس على خلاف الاخوان المسلمين كتنظيم أردني لم تطرح نفسها كمنافس سياسي لأية قوة حزبية أردنية، الأمر الذي جعلها تكسب تأييد معظم هذه القوى بما في ذلك بعض التنظيمات الوسطية المحسوبة على الحكومة. كل ذلك يدفع للاعتقاد بأن الخسارة التي تعرضت لها حماس بخروج قادتها من الأرض الأردنية لا تعني إنهاء التأييد الشعبي، وان حجم التراجع في الوجود الشعبي لحماس سيتحدد في ضوء برنامج قيادة الاخوان المسلمين المستقبلي في معالجة الهم الفلسطيني وتضمينه بشكل أوضح في خطط وبرامج الجماعة على كافة المستويات، وهذا بدوره سيتحدد في ضوء نتائج التفاعلات الداخلية على خلفية تباين الآراء في الاستراتيجية والمواقف التي اتخذتها هذه القيادة لمعالجة أزمة حماس مع الحكومة. ومما لا شك فيه ان الأزمة التي واجهتها حركة حماس بإبعاد قادتها من الأردن سيكون لها تأثير على أداء الحركة ودورها على الساحة الفلسطينية في هذه الفترة الحساسة التي ستشهد انطلاق مفاوضات الحل النهائي، فالحركة ستحتاج بطبيعة الحال الى وقت لإعادة ترتيب وجودها القيادي وأشكال عملها التنظيمية التي تتناسب مع الدول التي ستتواجد فيها، إضافة الى ترتيب صيغ وآليات القرار القيادي وكيفية تواصله مع جسمه التنظيمي وقياداته في الداخل، وأخيراً حسم خيارها في المضي قدماً في المشروع الوطني الفلسطيني البديل عن مشروع أوسلو، والذي كانت - قبل دخولها في الأزمة مع الحكومة الأردنية - قد وعدت الفصائل المعارضة المتحالفة معها بانجازه خلال فترة قريبة. ومع ذلك، فإن المعطيات الجغرافية ترجح ان الحركة ستلجأ الى الاستفادة من تجربتها السابقة عبر توزيع ثقلها السياسي في أكثر من عاصمة عربية، مما قد يستدعي في ظل صعوبة التواصل القيادي تبني نمط من أنماط اللامركزية في قراراتها بما يحمله ذلك من سلبيات في ظل التباين السياسي الملحوظ واختلاف الرؤى والمواقف السياسية التي كان يجري في السابق استيعابها عبر التواصل القيادي بين مختلف قطاعات الحركة في الداخل والخارج. وربما كان هذا التحدي هو الأسهل مقارنة مع ما سيستجد من آراء ومواقف تتعلق بمستقبل العمل العسكري للحركة والانخراط في مفاوضات الحل النهائي والمشاركة في السلطة الفلسطينية لتجنيب الحركة المزيد من الضربات أو التعرض لمزيد من الملاحقات والمضايقات من الدول العربية المضيفة التي وقع بعضها معاهدات سلام مع الدولة العبرية بينما ينتظر بعضها الآخر ذلك خصوصاً إذا وقعت سورية ولبنان. إلا ان حماس ما زالت ترى ان استمرارها في مقاومة الاحتلال والتمايز عن بقية الفصائل الفلسطينية التي اكتفت مؤخراً بالعمل السياسي هو العنوان الأهم لقوتها وشعبيتها مع استمرار البرامج السياسية والاجتماعية التي تصب في خدمة المقاومة. وربما يعزز من هذا التوجه انها تحمل مشروعاً لم يستنفذ أغراضه بعد في ظل استمرار الموقف الصهيوني المتشدد من عملية السلام، إضافة الى استمرار حاجة الدول العربية لمقاومة حماس لممارسة ضغوط على الدولة العبرية للتعامل بشكل جدي مع المطالب العربية، او على الأقل رغبة الكثير من الدول العربية للحفاظ على ورقة حماس قوية لاستخدامها في المستقبل في حالة فشل عملية التسوية. وهذا يجعل هذه الحركة تتمسك ببرنامجها المقاوم حتى وان اضطرت في بعض الأوقات والمراحل ان تخفف منه او تجترح وسائل وأساليب لا تجر عليها المزيد من التبعات السلبية وهو ما لمسناه مؤخراً من تركيزها على العمليات التي تستهدف الجنود والمستوطنين. لقد استنزفت الأزمة التي استمرت على مدى ثلاثة أشهر الكثير من جهد الحكومة الأردنية وحركة حماس في الوقت الذي كان يمكن فيه حلها بسرعة لو لم تلجأ الحكومة الأردنية الى أسلوب الاعتقال والمداهمة لا سيما وان حماس لا تستطيع ان تفرض وجودها السياسي في أي بلد عربي بما في ذلك الأردن بدون موافقة هذا البلد، إلا ان اللجوء الى خيار الإبعاد غير القانوني أساء الى الحكومة الأردنية التي ان أرادت التوسع في تطبيقه ضد الأردنيين الذين يناصرون حماس او غيرهم من أصحاب الأصول والمنابت الأخرى لوجدت نفسها أمام معضلة كبرى استطاعت الدولة الأردنية استيعابها والتعامل معها منذ نشوء المشكلة الفلسطينية. ان استمرار الصراع العربي الصهيوني بعدم حل المشكلة الفلسطينية وعودة الفلسطينيين الى أرضهم سيجعل جذوة المقاومة مستمرة على الأرض الفلسطينية وما يستتبع ذلك من تأييد لهذا النهج في العالم العربي والاسلامي بما في ذلك الأردن الذي يتمتع بوضع خاص بسبب الوجود الفلسطيني الكثيف. ولذلك فإن التعامل مع هذا الواقع وفق الرؤية الأمنية الضيقة من الأطراف العربية الموقعة على معاهدات سلام مع الدولة العبرية التي تتعامل من منطق القوة والاستعلاء لن ينجح في إضعاف إصرار الفلسطينيين على الحصول على حقوقهم، ودعم العرب والمسلمين لهم حتى في أصعب الظروف وأحلكها. * كاتب فلسطيني.