لطالما شكلت قضية الفلسطينيين في الأردن المحتوى الفعلي للنقاش الداخلي في ذلك البلد، بحيث يشعر المرء ان الوقائع الكبرى التي أحاطت بالاردن لم تؤد الا الى مفاقمة هذا المحتوى وإلى وضعه أمام اختبارات جديدة. الانتفاضة الفلسطينية الأولى طرحت على الأردن قضية فلسطينييه، واتفاق وادي عربة، وقرار فك الارتباط بين الضفتين ايضاً. الادوار والوظائف للجماعتين اللتين يتشكل منهما الاردن، الاقتصاد والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، كلها عناصر أخضعت بشكل او آخر الى معادلة «فلسطيني – شرق أردني». الجماعات السلفية المتشددة تم البحث بمضامين هوياتها المحلية وفقاً للفروق بين الهويتين، وأبو مصعب الزرقاوي وشيخه أبو محمد المقدسي هما جزء من منظومة علاقة الكر والفر بين مركبي الهوية الوطنية في الأردن. اذا كانت هذه حال عناصر الحياة السياسية في الأردن فمن الطبيعي والبديهي ان تواجه جماعة «الإخوان المسلمين» وهي علامة رئيسية ومركزية في التركيب الاردني، معضلة هوية موازية للمعضلة الوطنية، لا بل انها هنا تأتي مشحونة بدلالات أخرى وتعرض الهوية الوطنية، ليس لجماعة الإخوان فحسب انما ايضاً لعموم مركبات المجتمع، الى أسئلة خطيرة. استيقاظ المخاوف من «لا وطنية» جماعة الإخوان أمر مشروع فعلاً، فنحن في الاردن حيال أكبر حزب في البلد يخترق جسمه وهيئاته نفوذ من خارج الحدود. وهذا يمثل خطراً فعلياً على السيادة الوطنية. وقد يأتي من يستعمل هذه الحقيقة في سياق تحريضي ملبياً تطلباً «وطنياً» سخيفاً لا يخلو من عنصرية، لكن ذلك لا ينفي على الإطلاق مشروعية المخاوف على الهوية الاردنية المخترقة بنفوذ واضح وكبير لحركة «حماس» «الفلسطينية» في أكبر حزب اردني. تكابد جماعة «الإخوان المسلمين» في الاردن هذه الأيام هذه المعضلة، وهو أمر ليس جديداً عليها، اذ لطالما جادت الأيام على تلك الجماعة بمحطات تستيقظ فيها تلك المعظلة، سواء في هيئاتها الداخلية، أم على المستوى الوطني، وليست الحكومة والأجهزة الحاكمة ببعيدة عن معضلة الإخوان هذه، وهو أمر طبيعي أيضاً، إذ ان الحكومة معنية بوجود جماعة من المفترض ان تكون جزءاً من الحياة السياسية الداخلية، لكنها معرضة لنفوذ من خارج الحدود قد يصطدم بمصالح الاردن، وهو أمر حصل مراراً على كل حال. فليس خافياً ان حركة «حماس» جزء من تحالف أقليمي ليس الأردن جزءاً منه على الأقل، إذا لم نقل انه خصمه حكومة ونظاماً، وأن يكون للحركة الفلسطينية نفوذ في الاردن من خلال مشاركتها في قيادة الاخوان أو تصدرها هذه القيادة، فإن الأمر لن يكون مريحاً للنظام من دون شك. في محطات كثيرة عكست الوقائع معضلة العلاقة بين «الاخوان المسلمين» وحركة «حماس» وأظهرتها على نحو جلي. في الانتخابات الداخلية للجماعة، التي فاز فيها أخيراً التيار «الحمساوي»، وفي العلاقة بين الأخوان وحزبهم، أي «جبهة العمل الإسلامي» الذي أستولت عليه «حماس»، عبر الانتخابات أيضاً. ومثلما كان للتداخل التنظيمي ارتداداته الوطنية والداخلية، كانت للمحاولات الخجولة ل «فك الارتباط ارتداداته أيضاً الناجمة عن التداخل الصعب بين مركبي الهوية داخل جماعة الأخوان. فما أطلق عليه أزمة «مكاتب الخارج» يمثل على نحو جلي جوهر مأزق الاخوان، اذ ان هذه المكاتب تشكل إحدى أبرز قنوات تمويل الجماعة في الأردن وفي فلسطين، لا سيما منها مكاتب الخليج، وبما أن الفلسطينيين من الاخوان أوسع نفوذاً في هذه المكاتب بسبب انتشارهم في هذه الدول، فمن الطبيعي ان تكون «حماس» أكثر نفوذاً فيها. لكن في المقابل تأسست هذه المكاتب بصفتها ممثليات ل «الاخوان المسلمين» في الاردن، ومن المفترض ان تغذي صندوق الاخوان وبرامجهم في الاردن، وجاء سعي حماس للاستقلال بهذه المكاتب بمثابة سعي للانقلاب على قيادة الاردن، ولكنه من جهة أخرى مؤشر الى رغبة في الاستقلال. كانت زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل «الاجتماعية» للاردن مناسبة أخرى لاستيقاظ المعضلة الاخوانية، على رغم ما تضمنه كلام مشعل في عمان من كلام تطميني عن احترام «حماس» سيادة الاردن. فزيارة مشعل أشرت الى مستوى النفوذ الذي تتمتع به «حماس» داخل جماعة الاخوان، وهو في كلامه التطميني والهادئ أوحى بقدرات على «مساعدة» الاردن في معضلاته الداخلية. لم يخلف كلام مشعل ارتياحاً في الكثير من الأوساط، لا سيما الجناح «اليمين» للهوية الاردنية، على رغم ان انزعاجاً لم يظهر في الأوساط الرسمية. ومرة أخرى ذكرت «حماس» الاردنيين بأنها خير من يمثل رفض توطين الفلسطينيين في بلدهم، مع ما يشي فيه هذا التذكير من خبث استعمال معضلة المواطنين اللاجئين في مخاطبة مشاعر مضادة لها. لا شك في ان لكلام «حماس» عن تمثيلها رفض التوطين أصداء في أوساط قريبة من السلطة في الاردن، لا بل ان الفترة التي شهدت تقارباً بين الاجهزة الأمنية في الاردن وبين «حماس» أستعمل في الترويج لها معادلة ان تقارب الحركة الاسلامية الفلسطينية في أحد وجوهه انما هو تقارب مع الطرف الفلسطيني الرافض للتوطين، مع ما يتضمن هذا الكلام من تلميح الى مخاوف أردنية سادت في حينها من اقدام خصوم «حماس» الفلسطينيين، أي الرئيس محمود عباس، على مفاوضات حول مصير اللاجئين لا يكون الاردن شريكاً فيها. يلابس هذا الاعتقاد هذيان لطالما أصاب المغالين بمشاعرهم الوطنية في أي مكان في العالم، اذ أنه يستحضر لحظة راهنة مغفلاً مساراً طويلاً من الوقائع والحقائق. فأصحاب وجهة النظر هذه من الجهة الاردنية يُدركون تماماً ان طموحات «حماس» في الاردن لا يمكن اختصارها برفض التوطين، وأن امكان مدها نفوذاً في بنية المجتمع أكبر من قدرة «فتح» أو محمود عباس «الساعي الى توطين الفلسطينيين» بحسب الهذيان الوطني عينه. القرائن كثيرة على ذلك الافتراض، وقضية «الاخوان المسلمين» أكثرها وضوحاً، اذ لم تبد «حماس» رغبة تذكر في فك الارتباط، وهي ان فعلت في محطات عابرة، انما جاء ذلك في سياق سعيها الى تعزيز نفوذها والاستقلال بالامكانات المتوافرة لدى الجماعة الاردنية، كما هي حال «مكاتب الخارج». الأكيد ان توطين الفلسطينيين في الاردن لا يشكل مصلحة ل «حركة حماس»، وهو ليس برنامجها بالطبع، لكن السؤال هو عن السياق، اذ لا يبدو ان اداء الحركة الفلسطينية سيفضي الى عودة اللاجئين في المدى المنظور وغير المنظور، فتأبيد الصراع يعني تماماً تأبيد اللاجئين في مخيماتهم. ثم ان هؤلاء منطقياً ومن دون التطرق الى النيات جسر نفوذ أكيد ل «حماس» في الاردن. لكن وفي مقابل «أحقية» المخاوف من ثنائية هوية «الاخوان المسلمين» ثمة أسئلة لم تجب عليها حملة هذه المخاوف، فقضية اللاجئين الفلسطينيين في الاردن لا تشبه قضيتهم في دول الشتات الاخرى، فللجوء هؤلاء الى الاردن مراتب وحقبات متفاوتة، ثمة لاجئون يحملون الجنسية الاردنية، وهم ما زالوا ثنائيي الهوية، وثمة آخرون يحملون جوازات سفر اردنية من دون ان يحملوا الهوية، وثمة فئة ثالثة لا تحمل لا الجنسية ولا وثيقة السفر. الاردن يخوض نقاشاً داخلياً فعلياً في قضية اللاجئين الفلسطينيين اليه، لكن لا أجوبة واضحة على مستويات اللجوء الثلاثة. فالقول ان حملة الجنسية الاردنية من اللاجئين أصبحوا أردنيين وقُبلوا في الدولة والمجتمع وفي مراتبهما صحيح، لكن القبول ما زال غير مترافق مع اقرار بنهائية هويتهم، وعدم الإقرار هذا متبادل. ثم ان هذا الإقرار يحتاج ما يعادله في السياسة، وفي ما يتعدى الحصص في الدولة والقطاع الخاص، انما في الهوية أيضاً. فأن تُشفى جماعة «الاخوان المسلمين» من ثنائية هويتها فإن الامر يحتاج الى أكثر من قرار داخلي تتخذه بفك ارتباطها ب «حماس»، اذ على الدولة الاردنية ان تخاطب عضو الاخوان من أصل فلسطيني بما يساعده على حسم ولائه في داخلها، خصوصاً اذا كنا نتحدث عن أكثر من 50 في المئة من عدد السكان. الأجوبة التي يحصل عليها المرء في الاردن على تساؤلات من هذا النوع، خصوصاً من أصحاب وجهة النظر القائلة بضرورة أردنة «الإخوان المسلمين» لا تنفي جميعها استمرار الرغبة في الإبقاء على العنصر الفلسطيني في الهوية الاردنية لدى حاملي هذه الهوية من الفلسطينيين! وفي هذه الحال لا بد من ان يضع الاردن نفسه أمام سؤال هذه المعضلة، وأن يسعى الى حلها. المواطنة الكاملة في مقابل المحاسبة الكاملة على ما تمليه هذه المواطنة. مسؤولية الدولة والمجتمع ونخبهما لا يقلان أهمية عن مسؤولية «الإخوان المسلمين»، وربما حان الوقت للتفكير بإضافة عناصر للهوية الوطنية تساعد على ذلك.