لا تزال الأوضاع في صربيا تستأثر باهتمام اعلامي دولي كبير، نتيجة ارتباطها بمشاكل منطقة البلقان الساخنة وعلاقات بلغراد المتوترة مع غالبية الدول الغربية، اضافة الى محاولات المعارضة السياسية المحلية، المدعومة من جهات خارجية، اطاحة نظام الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش. وخلافاً لما تحاول وكالات ووسائل اعلام غربية ان تروجه بشأن حصول تغييرات "ديموقراطية" وشيكة في بلغراد بفعل الضغط الشعبي، فإن المتابعين عن قرب يجدون الأمر على النقيض من ذلك، فكل استطلاعات الرأي العام، على تباين مصادرها ومواقفها، اشارت الى انه على رغم عدم رضا الصرب عن بقاء ميلوشيفيتش في السلطة ومعارضة اسلوبه "المتعجرف" في التعامل مع معارضيه، إلا أنهم يؤكدون على ضرورة بقائه "لأن مواصفات الآخرين ليست أفضل منه" واظهرت ايضاً استياء المواطنين، بمن فيهم المعارضون، من الحصار وإدانة الدول التي تفرضه. وإزاء هذا التقويم الشعبي، فقدت التظاهرات التي بدأت في العديد من مدن صربيا، منذ خمسة اشهر، مبررات التعويل عليها، بعدما عجزت عن استقطاب المواطنين، وتراجع عدد المشاركين فيها باستمرار حتى أصبح يحسب بالمئات، واضطر منظموها، الذين قالوا أنهم يمثلون ثلاثين حزباً سياسياً، الى التخلي عن القيام بها يومياً وتحويلها الى اسبوعية ودورية، كما خففوا من مطالبهم الى حد الاكتفاء بإجراء انتخابات عامة مبكرة. ونتيجة لهذا "اليأس" وتبادل اتهامات التسبب بالفشل بين المعارضين أنفسهم، وانسحاب عدد من الاحزاب من تكتل "التحالف من أجل التغيير" الذي ينظم الاحتجاجات، واخفاق حاكم المصرف المركزي اليوغوسلافي السابق دارغوسلاف افراموفيتش في تشكيل "حكومة انقاذ معارضة" ورفض زعامة الكنيسة الارثوذكسية الصربية ذات النفوذ الواسع "مباركة حملة الشوارع" اكد قائد التظاهرات زوران جينجيتش انه سيستقيل من رئاسة "الحزب الديموقراطي" ويعتزل العمل السياسي "إذا أخفقت الحملة الشعبية في إرغام الحكومة على اجراء انتخابات عامة بحلول آذار مارس المقبل". وبدا واضحاً، حتى الآن، ان ميلوشيفيتش هو الذي يحدد ما يمكن ان تحصل عليه المعارضة، والذي لن يتجاوز في المرحلة الراهنة اطار الانتخابات البلدية وحسب المعايير التي تقررها الحكومة من خلال الغالبية البرلمانية التي تتمتع بها. ويسود الاعتقاد في منطقة البلقان، ان الدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص، لم تتعظ من الدروس السلبية التي آل إليها الحصار الذي تفرضه، بإجراءات ذاتية أو دولية، على العديد من دول العالم والتي لا ترتاح لمسلك أنظمتها منذ 40 عاماً، علماً أنها لم تسقط نظاماً واحداً منها، على رغم الأضرار الجسيمة التي ألحقتها بشعوب تلك البلدان، وهي بذلك اعادت الخطأ سهواً أو عمداً، في يوغوسلافيا، ما جعل حتى ممثلي العديد من دول الاتحاد الأوروبي يجاهرون في اجتماعاتهم الأخيرة بأن "العقوبات المفروضة على بلغراد ساعدت نظام ميلوشيفيتش على البقاء في السلطة، ونجحت فقط في الإضرار بشعب هذه البلاد" كما دفع وزراء خارجية دول الاتحاد الى ان يضعوا في جدول أعمالهم الاسبوع الماضي مسألة اعادة النظر في هذه العقوبات، على رغم الضغوط الاميركية لإبقائها وتشديدها، مما أدى الى ترسيخ القناعة لدى غالبية الصرب، بأن المستهدف هو الشعب وقوة صربيا، وليس النظام. وظهر الموقف الصربي جلياً الثلثاء الماضي، حين تجاهل سكان فيش 240 كلم جنوب شرقي بلغراد، ثاني أكبر مدن صربيا بعد بلغراد، وصول 10 صهاريج وقود منحة من الاتحاد الأوروبي تكفي لتدفئة مدينتهم مدة 4 أيام، ولم يسر في موكبها ترحيباً عشرات الألوف من السكان كما دعا رئيس المجلس البلدي فيها زوران جيفكوفيتش الذي ينتمي الى المعارضة. وذكرت صحف محلية ان سكان فيش كانوا يرددون، على رغم معاناتهم، للمسؤولين الأوروبيين الذين رافقوا الصهاريج "نحن نمقت كل من يعاملنا كشحاذين، ولذا لسنا سعداء باحسانكم، ارفعوا الحصار واتركونا ندبر أمورنا ونختار مستقبلنا حسب مشيئتنا... أما اذا واصلتم شعاركم: إذا أردتم الدفء في الشتاء فجيب عليكم معارضة نظام ميلوشيفيتش"، فلن تجدوا منا غير الصد، لأننا صرب معروفون بمقت التدخل الاجنبي في صراعاتنا الداخلية، وعليكم ان تسحبوا شرطكم: النفط من أجل الديموقراطية"! ومهما كانت حقيقة ما ذكرته الصحف المحلية، فمما لا شك فيه ان الغرب لم يسلك السبيل القويم لإزاحة ميلوشيفيتش، لأنه اعتمد على ثلاثة أمور تثير المشاعر القومية للغالبية السكانية الصربية، وهي: دفع الاموال للمعارضة والتي بلغ المعلن الاميركي منها خلال ستة اشهر 27 مليون دولار، والتي لم يبين المعارضون الذين استلموها أوجه التصرف بها وصرفها، ما وفر القناعة لدى المواطنين بأن زعماء المعارضة "عملاء يعملون لإملاء جيبوبهم، وليس من اجل اشباع بطون الشعب واعادة بناء ما دمرته الغارات الجوية". والأمر الثاني، ان الاميركيين والأوروبيين يركزون اهتمامهم على الأقليات المجرية والكرواتية في مقاطعة فويفودينا، شمال صربيا والبوشناقية المسلمة في منطقة السنجاق الجنوبية ما ساعد في نجاح الدعاية الحكومية بأن الغرب يسعى لتكرار ما فعله في كوسوفو "الذي كان مخططاً له في حلقات متتابعة لتفتيت صربيا" خصوصاً وان رئيس الجبل الاسود ميلو جوكانوفيتش كان اعتمد في فوزه على أصوات الاقليات الألبانية والبوشناقية والكرواتية ما جعله غير مرغوب به من غالبية قومه أهل الجبل الأسود، وهو ما يجري تنفيذه في مقدونيا حيث وقف الألبان الى جانب المرشح الحكومي المدعوم من الغرب بوريس ترايكوفسكي لجعله رئيساً للجمهورية على رغم ان غالبية المواطنين من العرق المقدوني يعارضونه. والأمر الثالث، ان الغرب يسعى الى الكمية "المزيفة" وليس النوعية "الحقيقة"، ولذا يوجه دعوات الحضور الى عواصمه ومقرات منظماته الى رؤساء احزاب من أمثال: المزراعين، والديموقراطي المسيحي، والبديل الديموقراطي، والشعبي الصربي، والديموقراطي الاشتراكي، التي لا مكانة جماهيرية لها، والى حد لم تستطع حتى ادخال ممثلين عنها الى المجالس البلدية في مناطق رؤسائها ومراكزها، ناهيك عن نائب واحد في البرلمان، وفي المجال ذاته يدعي زعماء احزاب الاقليات العرقية المجرية والبوشناقية والكرواتية، والتي لا ترتاح لها الغالبية الصربية، وهو ما تتبناه ايضاً الاذاعات الموجهة باللغة الصربية ضد نظام بلغراد من الجبل الاسود وكوسوفو والبوسنة والولايات المتحدة وبريطانيا والمانيا وفرنسا ودول غربية اخرى، والتي تبث برامجها ليل نهار من دون ان تلقى تجاوباً من المواطن الصربي. هذا الوضع جعل المعارضين الرئيسيين في صربيا، ومنهم زعيم "حركة التجديد الصربية" فوك دراشكوفيتش يقولون: "اذا كان الغرب يسعى الى التغيير بهذه الوسائل، فليهنأ ميلوشيفيتش باستمرار البقاء في السلطة".