آخر البدع، تلك التي خرج بها مجلس الأعيان الأردني، بتحقيق "المساواة" بين المرأة والرجل في الحق في ارتكاب "جريمة الشرف". والأدهى، تحية بعض روابط النساء للقرار لأنه اعترف بأن المرأة ايضاً يمكن ان تغضب! إلا ان مجلس الأعيان قصر الاستفادة من الاحكام التخفيفية على الزوجة فحسب. هذه أصبح بإمكانها ان "يفور دمها"، بحسب الفذلكة القانونية المعتمدة لتبرير جرائم "الشرف"، فتقتل زوجها أو عشيقته متلبسين بواقعة الزنا "مثبتة"، كما يقول النص المقترح، ثم تحوز الأسباب التخفيفية التي ينعم بها الرجال على نطاق وبشروط أوسع بكثير. أما الرجال، فالمادة 340 من القانون الجزائي، التي رفض مجلس النواب تعديلها أو إلغاءها، تنص على حق أي رجل في الاقتصاص من زوجته أو اخته أو أي امرأة من أصوله أو فروعه. يبقى ان قرار مجلس الأعيان هذا غير ملزم، ويعود الأمر بالنهاية الى مجلس النواب الذي يحتفظ بالكلمة الفصل. يبلغ عدد المقتولات في الأردن ذوداً عن "الشرف" حوالى ثلاثين امرأة سنوياً، حسب الإحصاءات الرسمية، بينما يقول بعض المصادر ان الرقم الفعلي ضعف هذا على الأقل. ولكان الأمر برمته سيبقى تافهاً ولأمكن اعتباره شديد الهامشية لولا معطيان: الأول يتعلق بكيفية تعاطي مختلف القوى السياسية مع الموضوع داخل الأردن نفسه، والثاني يتعلق بتشابه لافت مع أحداث وقعت في بلدان عربية أخرى في الأيام القلائل الماضية نفسها. في الأردن، تحالف نواب العشائر مع النواب الاسلاميين في التصويت ضد مشروع إلغاء المادة القانونية المتعلقة بجرائم "الشرف". اما ان يصوت نواب العشائر ضد هذا الإلغاء، فمن ضمن نظام الأشياء. قانون جرائم الشرف عشائري بامتياز. هو كذلك في منطقه الاجتماعي وفي سياقه التاريخي. ولأنه كذلك فهو تعريفاً سابق على الإسلام بل مخالف لأسسه ولجوهر ما جاء يحمله من مفاهيم وأصول ناظمة للاجتماع الانساني. ينظم الاسلام بدقة لا تترك مجالاً للاجتهاد واقعة الزنا. ويطلب، كما يعلم الجميع، أربعة شهود عدول تتطابق شهاداتهم لوقوع واقعة الزنا، التي يعرّفها بوصفها العلاقة الجنسية الكاملة. لا الشبهة ولا السمعة ولا الإشاعة ولا الخلوة ولا حتى الفراش! ومعروفة الأحاديث الشريفة بهذا الصدد. معروفة الأحكام - أو ندرتها الشديدة على الأصح - التي ثبتت فيها واقعة الزنا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين. يساوي الإسلام في أحكام الزنا بين المرأة والرجل، مساواة تامة. وهذا أيضاً غير قابل للاجتهاد. سوى ذلك، يقيم الاسلام الحدود بواسطة القاضي ولا يترك أحداً يأخذ حقه بيده. وهذا أيضاً مبدأ اساسي لا اجتهاد فيه. تقوم الدنيا ولا تقعد ان اقترح احدهم تعديلاً على الاحكام الاسلامية المتبعة في مسائل قد تبدو ثانوية أو قد يبدو الاجتهاد فيها ضرورياً لمسايرة التغير والتطور الانسانيين. يقولون لك: "لا اجتهاد في معرض النص"، أو يقولون لك ما معناه ان لا اجتهاد البتة، متسلحين على هواهم بالإمام الغزالي وبسواه. أما أن توجد قوانين معمول بها في المحاكم ومنصوص عليها كتابة، وتخالف مخالفة صريحة الشرع الاسلامي وتستند في مخالفتها أو تبرر مخالفتها للاسلام بالواقع الاجتماعي - التقاليد العشائرية، العقلية السائدة الخ... فيبدو أمراً طبيعياً مألوفاً. بل تنحاز حركات الاسلام السياسي الى القانون الجاهلي ضد مبادئ الاسلام، كما حصل منذ أيام اثناء التصويت على تعديل المادة 340 من القانون الجزائي الأردني. تنحاز حركات الاسلام السياسي، ممثلة بنوابها في البرلمان، الى ممارسة معادية للاسلام لضرورات سياسية بحتة. لأنها تستند في قاعدتها الشعبية الى ركائز ذات أصول اجتماعية وفكرية عشائرية. ولأنها تستمد نفوذها الاجتماعي والسياسي من الانحياز المستمر الى أكثر المفاهيم والقيم والممارسات بدائية وتخلفاً، تلك المتوافرة في كل المجتمعات، لكنها أقرب الى الغرائز والنوازع منها الى الفكر والسياسة. تنحاز لها، تحابيها أو تستسهل استنفارها كقاعدة جاهزة، كما تستسهل افتعال استنفار مستمر ضد أعداء وهميين، يسار علماني متغرب، يريد هدم المجتمع وتدمير قيمه. حركات الاسلام السياسي الأردني تخالف جوهر الاسلام إكراماً لعيون الأصوات الانتخابية والتحالفات الانتخابية والسياسية وما الى ذلك. والنواب يصوتون، والحركات خارج البرلمان تؤيد النواب أو تلتزم الصمت في أحسن الأحوال. ولا من يقلق للتناقض الفاضح ولا من يحزنون. ثم يتكرر السيناريو إياه في الكويت. ويبرز الى السطح سلوك سياسي متعدد الأطراف يوحده ويجمعه طابع مشترك: الرياء. الحكومة تحاول تمرير تعديل على قانون الانتخاب يفسح المجال أمام مشاركة المرأة في عملية الانتخاب والترشيح، اعتباراً من العام 2003. أصدرت الحكومة التعديل في مرسوم أميري أثناء غياب البرلمان في الفترة ما بين حله والانتخابات الأخيرة في تموز يوليو الماضي. واسقطه النواب، لعله نكاية بالحكومة من احدى النواحي. هنا ايضاً حصل تحالف نيابي عشائري - اسلامي مجدداً نواب الاخوان المسلمين وحركات سلفية وبعض الاسلاميين المستقلين من أجل اسقاط المشروع، وصوّت نواب تقدميون ضده وامتنع أشهرهم، أحمد السعدون عن التصويت! وحدثت كالعادة ممارسات الممالئة والمسايرة والأخذ بالخاطر بين مختلف القوى والشخصيات. ولعل الاختلاف في الرأي حول الشرعية الاسلامية لمشاركة المرأة في السياسة، أكثر احتمالاً من الاختلاف حول الشرعية الاسلامية لقانون القتل غسلاً للعار. ولعل علنية ووضوح تشكل المعركة، جدلاً وتصويتاً، حول مرتكزات تتعلق بالحرتقة السياسية بين مختلف تيارات وكتل وشخصيات الحياة السياسية الكويتية، موالية ومعارضة، لعل كل ذلك مما يخفف من هول الواقعة مقارنة مع ما حدث في الأردن. ولعل كون البلدين، الأردنوالكويت، ليسا من البلدان ذات الضخامة عدداً وحجماً، مما قد يدفع بالبعض للاشارة الى عرضية هذه الاحداث، والى انتمائها الى النوادر والطرف - الثقيلة الدم - اكثر منها الى الظواهر الاجتماعية الدالة. وكان ذلك مما قد يعتد به تخفيفاً عن النفس من الكدر، لولا الخبر الذي لازم خبري الأردنوالكويت: انه في مصر، دعا حزب العمل - اكثر الاحزاب السياسية الاسلامية اعتدالاً وانفتاحاً - الى مؤتمر جماهيري للمرأة المسلمة رداً على الاحتفال بمئوية كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة". هل حدث شطط في مؤتمر وزارة الثقافة احتفاء بقاسم أمين؟ هل مارس الخطباء فيه ثنائية مبتذلة ما بين "التحرر" و"الظلامية"، الأولى ممثلة بقيم بات التعبير عنها يجري بطريقة فردية وسطحية ولفظية في النهاية، والثانية يراد بها كتلة صماء إجمالية هي الاسلام؟ ربما، في مؤتمر وزارة الثقافة المصرية، بدا الخطاب النسوي التحرري عصابياً، متآكلاً في العديد من جوانبه، عاجزاً عن توليد رؤية اجتماعية لمسألة المرأة، الآن، في مصر وفي العالم العربي، رؤية تحدد الأولويات وتعيد وضع مسألة المرأة ضمن الاشكالية الأعم المتعلقة بتصور تنموي وتحرري يخص مصر وربما اجمالي المجتمعات العربية. ولا شك في ان أزمة هذا الخطاب النسوي، وقصوره وفواته، جزء من الأزمة الفكرية السياسية العامة المتعلقة بواقعنا الراهن وبتصورنا - أو انعدام تصورنا - للمستقبل ولكيفيته، أي لملامحه ولوسائل تحققه. ولكن هل يجاب على أزمة كهذه وعلى "المهرجان" الذي عبّر عنها، بمهرجان مضاد؟ أليس هذا من نفس طينة ذاك؟ وبين الاثنين تبرز لعبة حشد كل فريق لناسه، إبراز قوته العددية وسطوته المعنوية، ويضيع بينهما جوهر الموضوع والإجابة عن أسئلة الواقع المطروحة. ذلك ان هناك "قضية مرأة" لا يفيد معها تجنب الخوض فيها من قبيل ما فعل حزب العمل اذ اكتفى بالتأكيد على ان الاسلام منح المرأة كافة حقوقها. فهل نحن بصدد المبادئ الاسلامية نظرياً؟ وكيف يفسر عند ذاك حزب العمل سلوك النواب والأحزاب الاسلامية في الأردنوالكويت ومعظمها ممن يقيم معه علاقات وطيدة، ومعظمها ينتمي الى نفس الحركات التي تشاركت مع حزب العمل في الدعوة الى المهرجان المضاد. ثم ما هي في تصور حزب العمل الحقوق المدنية والقانونية والسياسية للمرأة وكيف يسعى الى فرضها على "القوانين الوضعية" السائدة في معظم الأقطار العربية؟ وفي كل ذلك، بين قانون جرائم "الشرف" في الأردن، وحرمان المرأة من أبسط حقوقها المواطنية في الكويت، ولجوء حزب العمل الاسلامي الى المهرجانات المضادة، تذهب قضية المرأة ضحية استعمالها وسيلة، بل الوسيلة الأيسر والأكثر إثارة للانفعالات لأسباب عديدة. وكلما تأزم الواقع، وكلما تصارعت الحركات السياسية داخلياً وحدثت فيها خلافات وانشقاقات، ازدادت المزايدات على حساب المرأة، فنرى كل فرقة توغل في التشدد، فيتحول الحجاب الى نقاب والنقاب الى غطاء اسود يلف الوجه والجسد وهلم جرا... والأدهى ان المرأة نفسها تشارك في اللعبة: بعض النساء بتبنيها خطاباً وسلوكيات لا ترتكز الى أية هموم اجتماعية عامة، والبعض الآخر بمنح النوازع الأكثر بدائية شرعية نسوية، بحجة الدفاع عن القيم والتقاليد الاجتماعية. ليس "رفقاً بالقوارير" وانما إحقاق للحق: أين الدين من ذلك كله؟