من الصعب ان ينكر أحد وجود تهديدات حقيقية للبنيات الاجتماعية للمهاجرين المغتربين، الذين جاؤوا الى الديار الأوروبية عامة وبريطانيا خصوصاً، من البلدان العربية كافة، تهديدات تطال سلوكهم وقيمهم ووحدة الجماعات التي ينتمون اليها. فالفوارق بين المجتمعات الأصلية للمهاجرين وبين مجتمعات الغربة كثيرة ومتعددة ومتنوعة: فروقات في أنماط العيش والسلوك والقيم والحياة ككل، وفروقات في دور الدولة ومجالسها البلدية ومهماتها. وتعتبر الأسرة المغتربة المهاجرة أكثر الوحدات الاجتماعية تأثراً بتلك التهديدات، ان لجهة الزوج أو الزوجة وخصوصاً الأولاد. هذا في حين ان هناك من يقلل من وجود مثل تلك التهديدات للبنيات الاجتماعية للمهاجرين ولا يعتبرها خطرة الى درجة تشغل البال. أين الحقيقة في كل ذلك؟ ما يمكن قوله بداية هو ان هناك اسر عدة تعرضت فعلاً للتفكك الأسرى بفعل الغربة، لكن ليس شرطاً ان تتفكك كل الأسر المهاجرة في المهاجر والمغتربات. ففي لندن، تعرضت أسر للتفكك الأسرى، وأسر قليلة جداً تعرضت للانهيار الكلي فتشتت أفرادها في أكثر من جهة. لكن اكثرية الأسر العربية ما زالت سليمة. ولقد تبين لي، حسب دراسات اجتماعية احصائية **، اجريتها على مدار سنوات، خلال 1990 و1993 و1997، اكثرها في لندن وبعضها في مانشستر وبرمنغهام، ان هناك أربعين عائلة عربية في العاصمة لندن وعشرين تقريباً في مانشستر وبرمنغهام، بين عائلات اسلامية ومسيحية تعرضت فعلاً للتفكك بسبب الهجرة من أوطانها الأصلية. الى جانب خمس عائلات تقريباً تعرضت للانهيار الكلي. وأبرز ما يمكن قوله، وبشكل أولى، ان السبب الرئيسي وراء تفكك هذه الأسرة أو تلك، حسب الدراسات نفسها، عائد لانتقالها من مجتمعات تحكمها ضوابط اجتماعية متنوعة ناتجة عن انتمائها الى جماعة معنية، كبيرة كانت أم صغيرة، أكانت عائلة أو طائفة أو منطقة جغرافية، الى مجتمعات تسودها مقاييس وقيم فردية، وحيث الفرد ينظر اليه كشخص بحد ذاته بصرف النظر الى أي جماعة انتمى. وفي مجتمعات الغربة هذه تولت الدولة مباشرة أو عبر المجالس البلدية مهمات كثيرة من رعاية وحفظ حقوق الأفراد وحتى الأسر، حسب قوانين محددة، وليس حسب انتماء الفرد الى هذه الجماعة أو تلك، والدولة بذلك حلت محل تلك الجماعات وافقدتها أهميتها. لكن رغم ذلك، ما زال يمكن القول ان العائلة العربية والاسلامية بالذات في المهاجر ما زالت بخير. والواقع ان هكذا بحث يحتاج الى تحديد المفاهيم وضبطها: فما هو التفكك الأسري؟ ما أشكاله وأسباب حدوثه وكيفية علاجه؟؟ إن الأسرة الزواجية هي وحدة اجتماعية متماسكة تقوم على قطبين هما الرجل والمرأة، ثم الأبناء، ووحدتها هذه شرط استمرارها، ولا يمكن لهذه الوحدة ان تستمر الا إذا قام كل من الزوج والزوجة بدوره في الأسرة، وتعامل كل منهما مع الآخر على أساس الاحترام المتبادل، واحترامهما معاً لوحدة الأسرة وحرمتها وقدسيتها. واذا كانت للرجل السلطة في الأسرة، فإن سلطته لا تقوم الا بقبول المرأة وبرضاها وبناء لما لديها من تقدير لذاك الرجل، ولسلوكه ومعاملته ولتحمله المسؤولية الأسرية، انها سلطة اقتناع واقناع، وإلا تحولت السلطة تسلطاً. كذلك اذا لم تكن المرأة في مستوى ذاك الاحترام الذي يوليها إياه الرجل، وفي مستوى المسؤولية الأسرية العائدة اليها، فإنها تتسبب بخلل كبير في صرح الأسرة ذاك. استناداً الى ذلك يمكن القول ان التفكك الأسري هو ذاك الخلل الذي يصيب تلك الوحدة الأسرية، لسبب من الأسباب، أكان من جانب الرجل أو المرأة أو الأبناء. وفي حال استمر ذاك التفكك وتزايد، وصل الى انهيار الأسرة ككل بما لذلك من عواقب وخيمة على الرجل والمرأة والابناء على السواء. وأشكال هذا التفكك كثيرة. فهو يحدث بسبب الزوج، وذلك عندما يحول الرجل المنزل الزوجي الى مجرد مكان يأتي اليه فقط للأكل والشرب والنوم دون ان يبدي أي اهتمكام أو احترام لزوجته أو اهتمام بأولاده، فيصبح معظم وقته في الخارج ويتحول المنزل مجرد مكان مستأجر وكأنه فندق أياً كانت الأسباب التي يدّعيها هذا الزوج. أو عندما يقتر الرجل الزوج ويبخل بماله على أسرته فتقع في الحاجة التي قد تصل بها للجوع أو تكون في حالة مجرد سدّ الرمق. وكذلك الحال في اللباس أو تلبية أي حاجات منزلية لزوجته ولأبنائه. أو عندما يحول الزوج الأسرة الى جحيم، فما ان يأوي الى المنزل حتى يملأه صراخاً وعنفاً ضد زوجته وابنائه متصرفاً معهم دون اخلاق ولا قواعد أسرية متعارف عليها دينياً واجتماعياً. وقد يحدث التفكك الأسري بسبب الزوجة، وأشكاله كثيرة. فهي يمكن ان تتسبب به بسلوكها، كأن تهمل مجمل الواجبات الأسرية المترتبة علىها، بحيث تقضي معظم وقتها إما خارج المنزل أو في المنزل ولا تقوم بشيء أو تقوم بالحد الأدنى غير الكافي نحو زوجها أو ابنائها من ضرورات منزلية وأسرية. وبالنسبة للابناء، هناك ايضاً الكثير من أشكال التفكك الأسرى الذي يتسببون به من غياب دائم عن المنزل، وقضاء الوقت باللهو واللعب بعيداً عن الدراسة، والانتماء الى جماعات الانحراف الاجتماعي اخلاقياً واجتماعياً: جماعات تتعاطى السرقة أو المخدرات أو العنف الاجرامي. هذه كلها أشكال من التفكك الأسرى يقوم بها طرف من الأسرة فتهز بنية الأسرة كلها، لأن الأسرة صيغة مشتركة في كل شيء، حالة متناغمة أي نشاز أو خلل يظهر فيها بسرعة ويهز تلك الصيغة. وهناك تفكك عفوي يلحق ببعض الأسر، تفكك لا يمكن تلافيه ولا يكون أحد في الأسرة متسبباً فيه، بل يكون السبب ظروف الحياة والعمل وطبيعة المجتمع ككل. كأن يعمل الأب والأم ويذهب الأبناء للمدرسة، ويلتقون ليلاً لساعات قليلة، الأمر الذي يضعف علاقات الحياة الأسرية. هذا النوع من التفكك قد يكون مقبولاً ومبرراً، لكنه اذا استمر يهدد وحدة الأسرة وهو ما يحتاج لمعالجة خاصة. إذن هذه الأشكال كلها للتفكك الأسري هي نفسها التي تلحق بالأسرة أكانت في الوطن أو في المهجر. لكن نسبة ذاك التفكك تزداد في المهجر والغربة: فمن كل مئة اسرة في الوطن، هناك احتمال ان تتعرض للتفكك سبع أو عشر أسر، في حين ان نسبة التفكك الأسري في الغربة ترتفع لتصل الى ثلاثين وربما الى أربعين في المئة. لماذا؟ لأن أسباب التفكك تتزايد وتتنوع، وهذا ما يجعل البحث عن أسباب التفكك هو الأهم، أملاً في البحث عن الطرق المناسبة لمعالجة ذاك التفكك. ويمكن تصنيف أسباب التفكك الأسري في نقاط رئيسية منها ما يكون في أساس قيام الأسر المتفككة. فعندما يكون الزواج للزواج نفسه، أي عندما يقرر الأهل ان يزوجوا ابنهم لكي "ينضب" كما يقولون بالتعبير الشعبي، أي لكي يأوي لمنزل ويستقر مع اسرة. وكذلك الحال عندما يقرر الأهل تزويج ابنتهم ليستروا عليها أي لمجرد ايجاد زوج لها، أي زوج، كي لا تبقى على ما هي عليه. هذا النوع من الزواج مهدد بالتفكك بسرعة في الوطن، ومهدد بالتفكك والانهيار، وبسرعة أكثر فأكثر في الغربة لأن روابطه تكون واهية لا تقوم على نوع، على الأقل، من معرفة بعضهما بعضاً أو من التفاهم أو حتى مجرد التوافق على الاستمرار في اطار الأسرة. وهناك أسباب مالية تتسبب بتفكك الأسرة: شح المال وقلته أو بالعكس كثرته ووفرته. فالمال ضروري في حد أدنى ومتوسط لقيام الأسرة واستمرارها، لأن مسؤوليات الأسرة كثيرة ولا بد من المال لتلبيتها، من هنا ضرورة عمل الرجل واحياناً عمل المرأة من أجل الدخل اللازم للحياة. وقلة الدخل تتسبب في الحاجة والفقر وتكاثر المشاكل في الأسرة، حتى وإن سادت القناعة، فلا قناعة مع الفقر والحاجة. كذلك كثرة المال تفسد الأسرة اذا لم تكن اخلاق الزوج والزوجة سليمة، اذ مع المال الكثير يتعاظم البحث عن اللهو واشكال تمضية أوقات الفراغ، خصوصاً اذا كان المال يتوافر دون عمل يومي، كوجود رأسمال كبير له مردود دائم. وهذا يتسبب بتفكك الأسرة لأن كل فرد منها سينشغل بالبحث عن مسراته ولهوه. فكيف إذا كان الحال في الغربة، في مدينة لندن أو باريس حيث اشكال اللهو وانواعه متاحة لمن معه المال وكثيرة ومتنوعة. وأسباب تفكك الأسرة اجتماعية، وعائدة احياناً لعلاقات الزوج بأهله، اذا كانت على حساب مصلحة اسرته، وكذلك الحال علاقات الزوجة بأهلها، هذا في حين ان العلاقات السليمة مع أهل الزوجين مفيدة جداً احياناً لما تمثله من ترسيخ للعلاقات الاجتماعية وتنويع لها وانعاشها بتجارب الأهل. من هنا فإن أحد أسباب تفكك الأسرة هو ابتعاد الزوج أو الزوجة عن أهله أو أهلها لأسباب عدة أو بفعل الغربة احياناً، لأن هذا الغياب في أحيان كثيرة، هو غياب للنصيحة والمحبة والإحاطة العاطفية. كما ان عدم توازن العلاقات داخل الأسرة بين الزوج والزوجة يتسبب بتفكك الأسرة. فالأسرة يجب ان تكون مجتمعاً متوازناً ومتكاملاً بين قطبيها الرجل والمرأة، فأي تسلط من جانب احدهما على الآخر انما هو خطر يهدد الأسرة كلها. وحتى اذا كانت للرجل مسؤولية الإنتاج والإعاشة فإن الأم لها مسؤولية المنزل والأبناء اذا لم تكن تعمل. والمسؤوليتان متساويتان، فإذا كان الرجل ينتج ولا توجد في المنزل امرأة مدبرة عاقلة فإن البيت يخرب بفعل هدر المال في أوجه غير ضرورية. أما الأولاد فإنهم احياناً سبب رئيسي لتفكك الأسرة اذا لم يحسن الأب والأم تربيتهما، أو إذا اختلفا على تلك التربية، وراح كل منهما يتنافس مع الآخر في إملاء رأيه ووجهة نظره في التوجيه وإصدار الأوامر احياناً. هذه أسباب التفكك اينما كانت الأسرة. لكن ما يمكن التركيز عليه في شأن الغربة وأثرها في التفكك الأسري هو القول ان انتقال الفرد من مجتمعات تتصف بنوع من الضبط والانضباط اجتماعياً ودينياً واخلاقياً، الى مجتمعات يخف فيها ذاك الضبط والانضباط واحياناً ينعدمان، هذا الانتقال يهز شخصية ذاك الفرد، فكيف بالأسرة. * مختص في علم النفس الاجتماعي. ** "مؤسسة المشعل/ برس نتورك" ساعدت في اجراء تلك الدراسات.