كيف وقع الفشل التجاري الذي يتعرض له فيلم "قصة جان دارك" في اميركا على مخرجه الفرنسي لوك بيسون؟ بحجم الستين مليون دولار التي تكلفها هذا الفيلم والجهد الذي واكبه، بالإضافة الى الطموحات الكبيرة التي أحاطت به. هذا شيء كثير يدفعه مخرج واحد من ذاته في سبيل ان يدرك الجمهور الاميركي الاعتماد عليه، خصوصا اذا ما كانت البطولة من نصيب إمرأة فرنسية وتقوم بها ممثلة أسمها ميلا جوفوفيتش. في سؤالي المخرج عن السبب الذي من اجله اختار جوفوفيتش للبطولة، رفع حاجبيه كمن يستعجب السؤال وقال: "ليس هناك من ممثلة أخرى جديرة بتقمص الشخصية .. أعطني اسماً". ربما هن قلة اللواتي يستطعن تقمص شخصية البطلة الفرنسية جان دارك، لكن الأقل هن اللواتي يستطعن تلبية شروط المخرج بيسون الخاصة بذلك التقمص. مع ميلا جوفوفيتش، بطلته المفضلة، يدفع بيسون بالشخصية الى الحدود التي تروق له وهي بعيدة. جوفوفيتش تجسد الشخصية المذكورة فعلاً، لكنها تبقى كما لو كانت تشخيصاً مسايراً وليس متعمقاً، ربما لأن الدور كتب على أساس ان تتبدى كل معالم الشخصية حوارا ولفتات غضب أو ابتهالات مرفوعة الى السماء، وليس هناك من شيء داخلي دفين يجذب جوفوفيتش - اذا ما كانت مؤهلة - الى الشخصية التي تؤديها بالكامل. على أن إخفاق "قصة جان دارك" في اميركا، المحطة الاولى للعروض العالمية، لا يعود الى تشخيص جوفوفيتش ومدى نجاحه أو إخفاقه. التجربة كان عليها أن تخبر الفرنسي لوك بيسون بأن الاميركيين يقبلون على الموضوع وليس على الوجه، اذا ما التقى الاثنان فهذا رائع. لكن اذا لم يلتقيا فإن التفضيل حينها للقصة والحبكة والجوهر المستوحى من الفيلم حتى من قبل مشاهدته. هذا الى جانب أن فيلماً آخر، وبعنوان "جان دارك" كان عُرض مباشرة الى البيوت قبل اطلاق فيلم بيسون في الاسواق بأسابيع قليلة. إنه فيلم تلفزيوني انتجته محطة CBS مع ليلي سوبييسكي في دور المناضلة الفرنسية المعروفة الى جانب جاكلين بيسيت، باورز بوث، شيرلي ماكلين بين آخرين، ومن إخراج بعيد عن الاستعراضات الانتاجية والفنية المختلفة لكريستيان دوغواي. بيسون ضحية طموحاته بعد نجاح "العنصر الخامس" الذي حققه بالانكليزية ومن بطولة ذات الممثلة مع بروس ويليس. لكن نجاح ذلك الفيلم شيد على اساس انه خيالي/ علمي غريب الى حد ملحوظ عن باقي الأفلام المشابهة. لم يكن فيلما مميزا في النواحي الفنية، لكنه كان غريبا عما تنتجه هوليوود في هذا المجال، جديد ومنعش والإقبال الكبير الذي حققه في اميركا والعالم كان مفهوما. مع "قصة جان دارك" فإن السؤال الأول الذي يتغاضى الفيلم ومخرجه عن الاجابة عنه هو: لماذا؟، السؤال الثاني: ما الاضافة وما الجديد؟ لن تجد الاجابة عن أي من هذين السؤالين حين مشاهدة هذا الفيلم. بيسون ينطلق بوجهة محددة وهي تقديم حكاية جان دارك كما لم يفعل احد غيره، ولا اقصد هنا فيلم كريستيان دوغواي لأن معطيات هذا الفيلم الفنية ليست طموحة كثيراً بدورها بل تحفة المخرج الدنماركي كارل ثيودور دراير "آلام جان دارك" وهي نسخة صامتة حققها في فرنسا مع لمساته ذات الاصول التحليلية النفسية الصعبة، وفيلم روبير بريسون ذو المعالجة الخاصة "محاكمة جان دارك" 1962، وفيلم الاميركي اندرو فليمنغ "جان دارك" الذي لمعت فيها انغريد برغمن على الرغم من فقر الفيلم ابداعياً 1948. قصة جان دارك، بصرف النظر عمن يرويها، تبقى مدعاة للتأمل في كل مرة، فتاة شابة شهدت غزو البريطانيين لفرنسا وهي صغيرة وقتلهم بعض اقاربها، ومنذ ذلك الحين، ونسبة للتأثير النفسي الذي سكنها لقاء ما شاهدته، ادعت بأنها على صلة خطابية مع الله وأنها مرسلة من قبله لتطهير فرنسا ولإنقاذ ملكها شارل السابع من المؤامرة المحاكة ضده من قِبَل أعداء البلاط الفرنسيين والانكليز الغازين. في سن الثامنة عشرة شقت طريقها الى المعارك الطاحنة بين الجيشين الفرنسي والبريطاني وألهبت حماس الجنود اكثر من مرة على الرغم من قوة اعدائهم، بعد عام واحد كانت تحضر محاكماتها بعدما وجدتها الكنيسة مدانة بتهمة الزندقة فأحرقت حية. هناك غموض في بعض مراحل حياة جان دارك ولوك بيسون لا يسعى هنا لإزالته، مثلاً ما يبدو لنا وهماً، كان يبدو لجان دارك حقيقة، كانت تعتقد تماما بأنها مرسلة وأنها على صلة إلهية خاصة. هذا الاعتقاد جذب اليها تأييد الشعب الفرنسي، لكنه قسم الموقف حيالها لدى السياسيين وقادة الكنائس، بيسون خلال محاولته عدم الخوض فيما لا يعلم، يتجاهل، مع الأسف، التفسير الاكثر اقناعا في هذه المسألة، هو أنها لم تكن فقط ضحية اعتقادها الراسخ الذي وصل بها الى حد الوهم المطلق، بل ضحية الذين صدقوا أن وهمها بات خطرا على مراكزهم في السياسة أو في الدين. المشاهد قد يستنتج ذلك، لكن ليس بسبب إقدام المخرج بيسون على توفيره، بقدر ما هو نتيجة قراءة لا يمكن إلا أن تتم على هذا النحو. ما يهم بيسون اكثر، شكلياً على الأقل، هو خوض المعارك الطاحنة بين الجيشين الفرنسي والبريطاني، كما لو كان طرفا فيها. انه هنا يبلغ الفيلم مداه الاستعراضي. الكاميرا صور الفيلم تييري أربو غاست لكن بيسون حملها ايضا تقتحم الصدور والأدرعة وتلتقط صور الذراع المبتورة والاجساد المتهاوية. تجد نفسها في المعمعة كما لو أنها جزء منها. هذا الإخراج البدني يختلف عن اساليب كلاسيكية في اخراج مشاهد المعارك في الافلام التاريخية المختلفة، ربما لا شيء سيخلف اسلوب كوبريك في اخراج معارك "باري ليندون" ولا شيء سيقارب جهد السوفياتي سيرغي بوندراتشوك في "ووترلو"، لا نرى هنا لقطة عامة صامتة للجيوش بألوف من الجنود المستعارين من الجيش الروسي أو الايرلندي قبل ان تلتحم، ولا توجد مشاهد مصورة من الجو او كاميرا ترتفع عن الأرض لتكشف العدد غير المتناهي للجيش، تلك اللحظات الصامتة جدا التي تجعلك تفكر في الحرب والسلم مقابل الموت والحياة، غير موجودة هنا. الوقت الذي لدى بيسون سيستغله في تصوير طحن الحديد وتفتيت الاجساد ولن يكون ذلك بلقطات سريعة من هنا وهناك، فالمخرج الفرنسي يؤمن باستعراضاته، انه يريد أن يحقق المشاهد التي لا تنسى في هذا السبيل. نزاع في التفسير المشكلة هي أن المشاهد يشعر على رغم كل الجهد المبذول، بأن هذا الاستعراض لا يبلغ حالته الذهنية المفترضة، بيسون كمن أتقن التقنيات والطريقة لاستعراض العضلات الفنية، لكن استبدال التقنية بالرؤية العميقة والعضلات الفنية، بالفن الحقيقي لا يزال له مشوار آخر. فيلمه مؤثر ويصيب الاهداف التي يقصدها جيداً، لكنه ليس "كاغاموشا" كوروساوا بأي حال ولأي لحظة منه. اللقاء التالي تم بيننا بعد مشاهدة الفيلم في عرض خاص، أي قبيل افتتاحه بأسبوعين؟ من الطبيعي أن يكون السؤال الأول هو عن الذي شدك الى موضوع هذا الفيلم؟ - "أشياء كثيرة شدتني الى "قصة جان دارك" .. في الاساس أنها لا تزال جوهر نزاع في التفسير الروحاني الى اليوم، في فرنسا هي لا تزال مثالاً يذكر، والموقف حيالها لا يزال منقسماً بين مؤيد ومستنكر، لكن الجميع يوافقون على أنها نموذج للمرأة الفرنسية المناضلة والمضطهدة بسبب عقيدتها". الأحزاب اليمينية الفرنسية ترى، كما قرأت، أن جان دارك مثال يحتذى بها؟ - "صحيح هي نموذج لكن ليس لدى الاحزاب اليمينية وحدها، أنا لم اصنع فيلمي على هذا المقياس، الألمان وجدوها مادة دعائية بين الحربين وهي لا تزال محط الانظار كنموذج، وإذا ما كان هناك حزب يستخدمها نموذجا فإن ذلك مبهج بحد ذاته، إن هناك نموذجا وطنيا يحتذى به". أبسبب هذه المحاولة لم ترغب في قراءة دينية مثلا أو سياسية؟ - "ليس لي علم بحقيقة ما عايشته جان دارك من سرائر، هل تراءى لها انها كانت على صلة مع الله أم أنها كانت تعتقد ذلك؟، هل بلغت النضج أم الجنون؟ لا أدري، ولا أحد يدري، ولا أريد لهذا الفيلم أن يمضي كالأفلام السابقة في محاولة تفسير غير مؤكدة وواثقة. لكني في الوقت ذاته لم أمنع نفسي عن الابتعاد عن رأي المؤرخين الذين كثيراً ما يكون احاديا خالصاً كما لو أن الحالة كانت جنونا مطبقا". حين نتحدث عن جان دارك وما تراءى لها من "حديث" مع الله نتحدث عن مفهوم الخالق حسب الكنيسة.. عن المسيح أساساً.. أليس كذلك؟ - "طبعا، وما أود قوله في هذا الخصوص هو أن ما كنت أبحث عنه في الفيلم، وما دفعني له من باب اجابتي عن سؤالك الأول، هو رغبتي في إدراك المعايشة العاطفية لجان دارك، معايشتها للحالة الروحانية التي وضعت نفسها فيها. لقد قرأت كتاباً صغيراً وضعه راهب حضر معركة اورليان تحت قيادة جان دارك وخلف مشاهد يصف فيها حالة البطلة بعد انتهاء فصل من المعركة. لقد نظرت الى جثث 500 جندي فرنسي وبدأت بالبكاء، بالنسبة الي هذه اللحظة العاطفية هي ما يستوقفني .. لماذا بكت؟، لأنه اذا ما كانت هناك برغبة إلهية وفعلت ما فعلته تبعا لتلك الرغبة فإنها غير مسؤولة عن النتائج، الجواب هو لأنها كانت في ريبة من أمرها، وهذا هو دور الفنان". ماذا وجدت ايضا في الكتب التي قرأتها عنها؟ - "كل ما وجدته في الكتب يشبه الأحجية، تجد مواقف كنت تعلمها، حوارات قالتها وأنا استخدمت 90 في المئة من هذه الحوارات في فيلمي، حاولت استخلاص الواقعية ورسم الصورة الاقرب الى الواقع، هناك رجل اسمه مسيو بوازي، انه رئيس مركز جان دارك في اورليان، ولديه نحو 800 كتاب عنها، عرضت الفيلم عليه وكنت متوترا بعض الشيء حيال ما سيقوله بعد المشاهدة، فوجدته مصدوما، وقال لي إنها المرة الأولى التي يرى جان دارك في السينما على النحو الذي قد تكون عليه في الواقع. نعم هذه هي فتاة مليئة بالأمل والطيبة ومليئة بالريبة في ذات الوقت". هل شاهدت الأفلام العديدة التي تم تحقيقها عن جان دارك منها ما هو فرنسي وروسي وأميركي؟ - "شاهدت فيلماً تسجيلياً عنها. لكن العجيب والإشكال هو انني شاهدت روميو وجولييت إذن لماذا يصر السينمائيون على صنع المزيد من قصص الحب المستنتجة من مسرحية شكسبير؟، كم رساماً رسم تفاحة؟، في كل مرة تم فيها تحقيق فيلم عن جان دارك هناك وجهة نظر مختلفة، لقد ماتت في العام 1431 لكن تم تعليبها في الأفلام بروحية هذا القرن بدءا من العام 1920 في الأفلام الصامتة. معظم هذه الأفلام اعتبرتها قديسة، لكن جان دارك بالنسبة لي قديسة فقط عند النهاية، عندما قالت لنفسها: لا استطيع ان امضي في هذا الاتجاه ويداي ملطختان بالدماء". ما الذي استرعى انتباهك في الأفلام السابقة عن جان دارك .. اذا ما كنت تريد ان تمد خطاً واحداً بينها، ما سيكون هذا الخط؟. - "لقد شاهدت قليلاً من تلك الافلام، مع الأسف، ومنذ وقت بعيد، عندما بدأت بالاهتمام بها بدأت اقرأ عنها ولم اعمد الى الافلام، ليس لأني كنت خائفا، بل لأني.. المشكلة ليست مشكلتي، تلك الأفلام هي وجهة انظارهم وليست وجهة نظري وكنت مهتما بما أود أن اقوله من خلال وجهة نظري أنا". ماذا تقول في مسألة اختيار ميلا جوفوفيتش وهي أوكرانية لتقوم بدور المرأة التي توافقني القول أنها نموذج فرنسي.. ألا ترى تضارباً هنا؟ - حسناً سأحاول ان اكون نزيها جدا. لقد أمضيت 20 ساعة في اليوم منذ عامين وأنا أعمل على هذا الفيلم. هذه هي حياتي وأنا احبها، أحب أن احقق افضل فيلم استطيع تحقيقه، ولست مهتماً بالمداخلات السياسية، نعم، الفرنسيون قد يجدون في الأمر تناقضاً، لكني أضع الشروط الفنية التي تناسبني، لقد رسم فان غوغ "ايريس في فرنسا" واللوحة في اللوفر، فهل تنتمي الى فرنسا أو الى هولندا؟ لماذا اخترت ميلا جوفوفيتش للبطولة؟ - "قدم لي ممثلة افضل لتلعب دور جان دارك، انا لم أجد". ايضاً الفيلم ذاته ناطق بالانكليزية، هل هذا جزء من طموحاتك الخاصة بصرف النظر عما يخلقه من تضارب ثقافي؟، انه كمن توافق على ان السينما الاميركية هي التي تستحق تحقيق كل الافلام لها حتى ولو كانت تدور حول شخصية وتاريخ غريبين..". - أكرر أنني لا أرى حدوداً كالتي تراها، وليس هناك من تضارب، هذا القول هو ما سيواجهني في فرنسا. لكن الشروط التي اضعها فنية...". هل ووجهت بهذه الملاحظة في فرنسا؟ هل قيل لك الممثلات الفرنسيات اللواتي يصلحن لدور جان دارك كثيرات..؟ - "لا أحد يستطيع أن يصل الى مستوى صدق ميلا، لقد استعنت بممثلين وممثلات فرنسيين وبريطانيين وايرلنديين ومن كل مكان. ميلا ولدت في روسيا ونشأت في اميركا لكنها مخلوبة بالثقافة الاوروبية، وتعرف الكثير عن فرنسا وثقافتها". في "الحاسة السادسة" بدأت خطا سعى آخرون كثيرون من المخرجين الفرنسيين لتقليده، وهو تحقيق افلامك بالانكليزية على الطريقة الهوليوودية. ما رأيك أولاً بذلك المنهج؟ - "ما هي الطريقة الهوليوودية؟ انها وسيلة استعراض مفتوحة أمام مخرجين كثيرين من كل انحاء العالم للعمل قبلي جاء سينمائيون كثيرون من كل أنحاء العالم. وحققوا أفلامهم في هوليوود. اعتقد أن المهم هو البصمة التي تحملها معك من سينما الى سينما بصرف النظر عن موقع تلك السينما". لكن في الموقع الحالي للسينما الاميركية التي تهيمن على الثقافات الاخرى حول العالم والتي تزاحم السينما الفرنسية في عقر دارها، ألا تعتبر ذلك نوعاً من الخروج عن السينما الوطنية التي تحتاج للوك بيسون وغيره؟ - "لا أعتقد انها خروج عن اي شيء. لوك بيسون حر في تحقيق فيلمه في فرنسا او في اميركا وبأي لغة. المهم عنده هو اتقان الصنعة".