استمرت تداعيات أزمة "مقام شهاب الدين" في مدينة الناصرة بالرغم من موافقة رئاسة البلدية والاسلاميين المعتصمين على قرار الحكومة الاسرائيلية المتأخر الذي أوصى ببناء مسجد على نحو ثلث الأرض المتنازع عليها والمحاذية لكنيسة البشارة وسط المدينة، ووضع المساحة المتبقية تحت تصرف البلدية. إذ أعلن رؤساء الكنائس المسيحية في اسرائيل والقدس رفضهم القرار، وقرروا من جانبهم إغلاق كنائسهم يومي 22 و23 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، فيما اعتبر بعضهم ان هذه الخطوة انتهازية ومن شأنها تعطيل زيارة البابا للناصرة واسرائيل. وفي حين ان إخلاء خيمة الاعتصام امس كان سيمهد لنزع فتيل الأزمة في المدينة، إلا ان انتهازية اسرائيل وتدخل المؤسسات الكنسية والحركة الاسلامية سيزيد من الشرخ الطائفي ويعمق الفرز الديني، ليس في الناصرة فحسب، بل وفي الجوار الفلسطيني والعربي. إذ اعتبرت السلطات الكنيسة ان القرار الحكومي مجحف بعد ان أقرت المحكمة رسمياً ان الأرض ليست وقفاً اسلامياً كما يدعي الاسلاميون، وفي ضوء إلقاء السلطة الفلسطينية اللوم على الحكومة الاسرائيلية واتهامها بالتفرقة، إلا انه في غياب تحرك عربي فاعل خرجت اسرائيل الرابح الأكبر من الانقسامات الطائفية وزعزعة الوحدة الوطنية والتي شكلت حجر العثرة الأساس أمام التوصل الى حل أهلي لأزمة الأرض. لقد فشلت السلطة الفلسطينية في سياسة مراعاة الطرفين ومراضاتهما في المدينة كي لا تُحرج الأحزاب السياسية التي تقف وراءهما، وتركت الباب مفتوحاً على مصراعيه لكي تتدخل السلطات الاسرائيلية وتحرض الأطراف المتنازعة بعد ان أقنعت كلاً منهما انها تقف معه ضد الطرف الآخر، حتى نجحت في تأجيج الخلافات الطائفية التي لم تكن لها أرضية خصبة في الناصرة حتى الماضي القريب. وجاء تدخل الكنائس متأخراً وليعبّر عن قصر النظر في التعامل مع قضية محلية بين بلدية منتخبة ومجموعة من المتطرفين التي يقول خصومها انها تلقت الدعم من حكومة بنيامين نتانياهو السابقة، فهل من مصلحة ان لم نقل حق رؤساء الكنائس ان يعارضوا بناء مسجد؟ ولو افترضنا ان خطواتهم الاحتجاجية نجحت وتهديداتهم في شأن زيارة البابا وضرب السياحة أدت الى تراجع حكومة ايهود باراك عن بناء المسجد، فماذا ستكون نتائجها محلياً وكيف ستنعكس عواقبها على أهالي المدينة وعلى التعايش بين أبناء الشعب الواحد. وحتى لو افترضنا ان المطالبة أصلاً ببناء مسجد ملاصق للكنيسة تكون صومعته أعلى منها كانت انتهازية في نياتها واستفزازية في اسلوب فرضها، فقد جاء الرد الكنسي قصير النظر ليؤكد نجاح اسرائيل في عملية التفرقة وليبعد الأنظار عن مصادرات الأوقاف الاسلامية في فلسطين عموماً، وعن ابتزاز السلطات الاسرائيلية المؤسسات الكنسية للاستيلاء على أراضيها بالرغم من معارضة المسلمين والمسيحيين ومواجهاتهم على مدى عشرات السنين ضد مصادرات الاراضي التي لم تتوقف حتى هذه الساعة. لقد أدت عملية الاعتصام منذ نحو سنتين الى ضرر كبير محلياً وفلسطينياً، ولا بد من احتواء الأزمة اليوم قبل غد والقبول بحل وسط يضمن التعايش الأهلي ويطوي صفحة النزاع ويفتح صفحة جديدة من التآخي. وتقع الكنائس في الفخ الاسرائيلي حين تنجر وراء خطوات المتطرفين. واذا ما استمر تصعيد رؤساء الكنائس وقيادة الحركة الاسلامية سيتحمل الطرفان مسؤولية التصعيد الطائفي وتحويل الأقلية العربية الى أقليات طائفية تعتمد على كرم السلطات ومواقفها اللامبدئية. وإذ أن الأطراف المحلية تتحمل أساساً قسطاً كبيراً من المسؤولية بعد ان رفضت اقتراحات وحلولاً تهدف الى وقف النزيف الطائفي وتدعو الى التصدي لسياسة المصادرات الحكومية، فإن تحركات المؤسسات والحكومات أخذت تنشط اليوم في تأجيج الصراع بدلاً من احتوائه. وفي نهاية المطاف لن يضيف مسجد جديد الكثير على عشرات المساجد في المدينة ولن يؤدي قرار الكنائس بالإغلاق الى اضعاف الاقتصاد الاسرائيلي. وانما يبقى الخاسر الأكبر أبناء هذا الشعب في "لعبة مجموع الصفر" داخل الدولة الصهيونية والتي تقول بأنه كلما خسر العرب من وحدتهم ربحت اسرائيل من تفرقتهم.