كان الجمهور ينتظر اللوحة الأخيرة من عرض "باليه موريس بيجار" وعنوانها "أم كلثوم" لكن الفرقة العالمية لم تقدمها، ما أحدث خللاً في الفصل الثاني إذ اقتصر على لوحة واحدة هي رقصة "البوليرو" الشهيرة. ولوحة "أم كلثوم" لم ترق لجهاز الرقابة في الأمن العام اللبناني فأعمل فيها المقص حرصاً على "المشاعر" الدينية علماً أنها قدمت في مصر ولقيت نجاحاً كبيراً ضمن مسرحية بيجار "هرم" التي أخرجها في القاهرة عند سفح الأهرامات في العام 1990 وشاءها تحية الى الحضارة المصرية القديمة والحديثة. لكن الجمهور اللبناني الذي غصّت به طوال ليلتين قاعة "بيروت هول" الفسيحة لم يحرم من اللون الشرقي والعربي، إذ تخلّل صوت أم كلثوم أحد مشاهد "طريق الحرير" ممثلاً مصر في سياق البلدان أو الحضارات التي اجتازها "طريق" الحرير ومنها إيطاليا وتركيا وإيران والصين... طبعاً لم يأتِ موريس بيجار شخصياً الى لبنان مثلما جاء في العام 1963 ليقدّم في بعلبك مسرحيته الشهيرة "تكريس الربيع"، فهو الآن في طوكيو التي تكرّمه في برنامج احتفالي ضخم. وخيراً فعل ربّما بعدم مجيئه إذ كان سيصدمه حرص الأمن العام على الأخلاق والمشاعر، هو الذي قدّم أكثر من مرّة أجمل العروض على أدراج قلعة بعلبك وفي هوائها الطلق الذي كان مفعماً آنذاك بالحرية والطمأنينة. غير أن فرقته المحترفة براقصيها الماهرين ورقصاتها الساحرة لم تكن في حاجة الى رقابته إذ قدمت اللوحات الثلاث ببراعة فائقة وعفوية ممزوجة بمراس متين وحرية مضبوطة تماماً. واللوحات الثلاث اختارها بيجار بنفسه من "الريبرتوار" العظيم الذي وسم حركة الرقص العالمي. وهي من أعمال قديمة له مثل "عصفور النار" 1970 و"بوليرو" 1961 وأخرى جديدة "هرم" 1990 و"طريق الحرير" 1999. وعبر هذه المختارات تبدّت "عظمة" هذا الفنان الذي لم ترهقه سنواته السبعون ولم تخفف من وهج النار المشتعلة في داخله وهي نار الفن، نار القلق، نار الأسئلة الميتافيزيقية الحارقة حول الحياة والموت، الجسد والروح، الرغبات والأهواء. فالرقص الذي أسسه بيجار لم يقم فقط على الإختبار والتجريب والبحث الشكلي الصرف مقدار ما قام على عمق أو مضمون روحي وفلسفي وصوفي. ولعلّ الأفكار التي طرحها في معظم أعماله والمواقف والأحوال التي أثارها تشهد جميعاً على فرادته وعلى همومه الفنية والماورائية معاً. ولعلّ اللوحات التي اختارها بيجار من قديمه وجديده بدت متناسقة كل التناسق وخصوصاً أنه كلّما قدّم بعضاً من قديمه يمعن في صوغه صوغاً حديثاً مع راقصين يتبدلون باستمرار ويتبادلون الرقص والرقصات. "عصفور النار" ينهض من "رماد" الماضي مجسداً طائر "الفينيق" الذي يرفض الاحتراق. أما رقصة "بوليرو" فقدّمها في صيغة جديدة رائعة اندمجت فيها الموسيقى والرقص في حركة متنامية وفق تصاعد الموسيقى والرقص معاً. وفي لوحة "طريق الحرير" الرائعة دمج بيجار بين حضارات عدة وإن استهلّ اللوحة برقص تعبيري على موسيقى الإيطالي فيفالدي فهو سرعان ما انتقل الى الجو التركي موسيقى وحركة ثم الى المناخ الإيراني فالصيني ثم المصري ختاماً. و"طريق الحرير" اختصرته الشرائط البيض جامعة اللوحات بعضها الى بعض موحية بأن ما جمع الشعوب هو طريق السلام لا الحرب. والجمهور اللبناني الذي غصّت به القاعة الفسيحة ليل أمس وأول من أمس لم تروِ اللوحات الثلاث عطشه الحارق الى مشاهدة "باليه موريس بيجار" والى التمتع بهذه اللحظات الفنية والجمالية النادرة. وكان ينقص فعلاً ختام تلك "المختارات" في لوحة "أم كلثوم" حيث يبرز شغف بيجار لا بالثقافة والفن العربيين فقط بل شغفه بالصراع الوجودي والوجداني على السواء الذي يحياه الجسد العربي والروح العربية.