تنطوي كتابة المذكرات في البلدان العربية على عنصر تراجيدي خفي. فهي إعلان ضمني، إن لم يكن صريحاً بالنهاية: لا النهاية الجسدية لكاتبها، بل نهاية عصر أو قضية أو فكرة عاش المؤلف من أجلها. أكثر من هذا: إنها اعتراف ضمني بنهاية مهزومة. لذا ميّزت المذكرات العربية منذ البدء. إذ لا يذكر كاتب هذه السطور قائداً عربياً منتصراً كتب مذكراته، كما فعل ونستن تشرشل على سبيل المثال. هناك بالطبع عشرات الأمثلة على الإيهام بالنصر لدى كتاب المذكرات العرب أو كتبتهم من القادة السياسيين، لكن القارئ الذكي يستطيع تلمس حس الفجيعة لدى هؤلاء الكتاب حتى وهم يتحدثون عن انتصاراتهم. ثمة حالة معاكسة: قادة ظنوا أن أفكارهم لم يعد لها مكان بفعل التغيرات الانقلابية، فكتبوا وهم تحت وطأة الإحساس بالنهاية، لكن الأجيال اللاحقة ظلت ترى فيهم رموزا نبيلة لا بد من إبقاء الأفكار التي عملوا من أجلها حية مثل الزعيم السوري خالد العظم أو العراقي كامل الجادرجي. لعل العراق يمثل أفضل تربة لاختبار الفرضية السابقة عن تراجيديا النهاية في كتابة المذكرات. والسبب بسيط: فالتغيرات السريعة والمدوية في المشهد الفكري - السياسي والاجتماعي تجعل الفكرة الواحدة محل حماس ملتهب اليوم، وذات صيت سيئ غداً. لعل العراق يشبه من هذه الناحية فرنسا في تقلبات المزاج الفكري السائد فيها بين ليلة وضحاها. بدأ سيل المذكرات الشخصية في الثمانينات بين رجال العهد الملكي الذين أحسوا متأخرين ربما أن عودة الملكية إلى العراق باتت مستحيلة، فأخذوا يذكّرون أجيالا من القراء لم تعش حقبتهم بأدوارهم الوطنية في صناعة العراق الحديث ومحاولة إزالة ما علق بأذهان الناس العاديين عن علاقتهم بالدول الغربية بوصفها "عمالة" أو "تبعية". ثم جاء سيل ثان من المذكرات عن ثورة 14 تموز 1958 التي قلبت الملكية في العراق. وكما هي العادة، قرأنا أعمالاً لأناس من شتى الاتجاهات، كل يريد إقناعنا بأن الثورة علامة تجارية مميزة لشخصه أو لتياره السياسي. في الدفق الثالث من المذكرات مسحة درامية أكبر مما نجد في الحالين السابقين، كما أظن. أعني هنا نوعاً من المذكرات، لم نعتد عليه، لقادة ينتمون إلى تيارات لا تزال ترى، أو تقنع الناس أنها، جزء من الحاضر لا الماضي: شيوعيون وبعثيون وقوميون باتوا يتبارون في الحديث عن تجاربهم مع أحزابهم، وتجارب أحزابهم مع المجتمع العراقي، وروايات لأحداث لا نزال نعايش بعضها. تكمن التراجيديا هنا في أن هذا الضرب من الكتابة كان حتى الأمس القريب أمراً لا يمكن تخيله. نشر سامي الجندي ومنيف الرزاز في أواسط الستينات عملين خطيرين عن تجربتهما مع حزب البعث، لكن هذين العملين اعتبرا إعلاناً بالقطيعة مع التجربة الماضية. وكذلك فعل شيوعيون غادروا أحزابهم، غالباً تحت ضغط السجون والتعذيب، فكانت كتاباتهم أشبه بالوشايات برفاق الأمس مما هي بالمذكرات. وثمة ضرب ثالث، لا يستحق تسميته مذكرات أو تأريخاً هو التطبيل التبريري للحزب وأمجاده، وهو ما لا يعنينا هنا. الجديد هو سيل مذكرات القادة الشيوعيين والبعثيين الذين ظلوا يعتبرون أنفسهم جزءا من التيار الذي تنتمي إليه أحزابهم حتى وإن غادروا العمل الحزبي بالمعنى الدقيق للكلمة. كان هؤلاء حتى الأمس القريب ربما حتى حرب الخليج والانقلاب الهائل في الخارطة السياسية لقوى المعارضة والحكم في العراق يختزلون أشخاصهم إلى جنود الحزب الذي حتى لو كبا سيجد الطريق إلى تصحيح أخطائه والنهوض من كبواته. وبالتالي فإن من غير اللائق الحديث عن دور شخصي لهم، وإن كانت ثمة آراء شخصية، فإن المكان المناسب لطرحها هو الهيئات الحزبية لا المطبوعات العلنية. بهذا المعنى، ينطوي النشر المتكاثر لمذكرات قادة لا تزال أحزاب بعضهم تقود السلطة، على عنصر تراجيدي يتمثل في الإحساس الضمني بأن ما ناضلوا وعاشوا من أجله أفضى إلى فشل مدوّ وبات ينتمي إلى الماضي. لماذا كتبوا مذكراتهم إذن؟ تشترك المذكرات التي سأتناول هنا في تأكيدها على الحقائق التاريخية المطموسة التي يريد الكتاب توضيحها للقراء، وفي رغبة الكتاب تقديم دروس للأجيال اللاحقة لكي لا تقع في الأخطاء التي وقع فيها مناضلو الخمسينات والستينات. لكن القارئ، بالطبع، لا يقرأ العمل، أي عمل، وفقا لرغبات كاتبه. ثمة بالفعل كم كبير من الوقائع المتعلقة بتاريخ العراق المعاصر مما نجهل. والكتاب الثلاثة الذين نستعرض أعمالهم، لا سيما القائدين البعثيين الفكيكي وشبيب، احتلوا مواقع أهّلتهم لتنويرنا بعدد من تلك الوقائع. لكن القارئ يخطئ إن قرأ كتب المذكرات هذه بحثاً عن "الحقيقة". بالطبع ثمة وقائع مهمة يكشف عنها كتاب المذكرات الثلاثة، مثل كيفية تنفيذ حكم الإعدام بعبدالكريم قاسم في كتاب شبيب. لكن الأهم من الوقائع، هو تفسيرها وتسبيبها. كيف يرى الكاتب البعثي أو الشيوعي واقعة ما حين يسترجع الأحداث؟ كيف كان يرى الواقعة ذاتها أثناء حدوثها؟ لماذا يراها بعين مختلفة؟ ولعل الأمر الأكثر إثارة لاهتمام القارئ المشاكس يكمن في ما لا يقوله الكاتب. وليس الأمر في أن الحقائق التي نسكت عنها تغدو سامة، كما يقول نيتشه، بل في أن الصمت، مثل الكلام، آيديولوجيا. خذ مثلا مذكرات القائد الشيوعي العراقي رحيم عجينه . ثمة جانب نمطي نبهني إليه الصديق الكاتب زهير الجزائري في مذكرات القادة السياسيين. قبل الدخول إلى عالم الاحتراف السياسي، هناك طفولة، عائلة، مدينة، بيئة اجتماعية، يصفها الكاتب بهذه الدرجة أو تلك من البراعة والحنو والشاعرية. ولكن، ما ان ندخل مرحلة الاحتراف السياسي حتى تختفي تلك كلها ويستحيل العالم إلى قيادات قطرية وقومية، لجان مركزية ومكاتب سياسية. كل هذا متوقع في مذكرات القادة الثلاثة، فليس بينهم من عرف عنه الخروج عن نمطية القائد في حزبه. لكن القارئ يفاجأ بأن الدكتور عجينه الذي يحتفظ بتفاصيل ممتعة ومهمة عن حياته الطلابية في مصر وبريطانيا، يغادر النمطية في محطتين مهمتين من محطات حياته وحياة الحزب الذي ارتبط اسمه به: اليمن وكردستان. هنا لا نتيه في الاجتماعات الحزبية ولا الصراعات التي نطلع على وقائع مهمة حين يتعلق الأمر بحدوثها أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. ما الذي حدث؟ ليس الأمر سهواً أو نسياناً، ولا كون المذكرات غير مكتملة نشرت بعد وفاة الدكتور عجينه. ذلك أنها سجلت على أشرطة تسجيل من قبل رفاق للكاتب عاشوا معه في اليمن وكردستان، الأمر الذي يجعل الحديث عن تجربته في هذين الموقعين في مقدمة ما يتذكره الكاتب. ولا يعود الأمر كذلك للانضباط الحزبي وخشية الكاتب من تسريب أسرار إلى الخصوم، لأن ما كتبه عن أواخر الثمانينات يكشف أسراراً أكثر خطورة بكثير. لليمن تفرد فقرة من صفحة واحدة لا غير عنوانها "اليمن في الذاكرة". أي وفاء! لكن اليمن هي أيضاً في ذاكرة ضحايا المنظمة الحزبية التي قادها مع آخرين الدكتور عجينه. المنظمة التي كانت تلجأ إلى ضرب الرفاق وتهديدهم وقطع أرزاقهم بالتعاون مع الرفاق اليمنيين. هكذا يغدو الصمت آيديولوجيا لا يجدي معها وصف المؤلف الراحل بالموضوعية العالية التي عرفت عنه، كما تقول المذكرات. ربما أملى عقل الكاتب الباطن عنوان تلك الفقرة عليه: لنبق اليمن في الذاكرة لا على الورق! ويبدو أن لعنة اليمن أو نعمته أحيانا ظلت تطارد عدداً من القادة السياسيين، لا سيما من ألّبوا الرئيس السابق علي ناصر محمد على المذابح التي ارتكبها بحق "رفاقه" عام 1986 . ففي مقابلاته المطولة مع مجلة "الوسط"، لم يجد القائد الشيوعي اللبناني جورج حاوي تفسيراً لأسباب مغادرته اليمن بالضبط في اليوم الذي ارتكبت فيه المجازر وانتهت إلى إقصاء علي ناصر عن السلطة سوى القول أنه كان مرتبطا بموعد في غاية الأهمية مع القيادة السورية في اليوم ذاته، ليفاجأ القارئ أن السيد حاوي قد نسي التبرير المعطى قبل بضعة سطور، إذ يصل حاوي إلى دمشق ويزور هذا وذاك ناسياً موعده المهم الذي اقتضى مغادرته لليمن. تبقى اليمن في الذاكرة وترفض الخروج إلى الورق. فماذا عن كردستان التي يصلها الدكتور عجينه عام 1984؟ هنا يخالف المؤلف النمطية المألوفة فيصف كردستان الجميلة، وطبيعتها القاسية والساحرة، ثم يحدثك عن البيشمركة المقاتلين الأنصار، وتقول لنفسك، لقد ظلمنا هؤلاء القادة إذ اعتقدنا أنهم حيوانات سياسية لا غير. ثم تتذكر أن عودة الرفيق وزوجته إلى كردستان ارتبطت باجتماع للجنة المركزية لعله الأكثر أهمية خلال عقود،إذ كرس الانقسام في الحزب بطرده وتجميده عدداً من القادة التاريخيين للحزب، ومهد لمؤتمر/ فضيحة استغل فيه الرجلان القويان في الحزب توق رفاقهم إلى بناء تنظيم سري فانتزعا تخويلاً من المؤتمرين بالحق في تعيين عدد من الرفاق أعضاء في اللجنة المركزية من دون إعلان للأسماء، ليعّينا أزلامهما وأتباعهما في هذا المركز. يتحدث الكاتب عن المؤتمر مفردا له أربع صفحات 189-193 بينها فقرتان ص 192 تشيران إلى عملية التعيين ك "إجراء مكدّر"، من دون أن يشير الكاتب إلى نتائج هذا الإجراء، وكيف أساء رجلا الحزب القويان استخدام ثقة المؤتمر بتعيين أزلامهما في اللجنة المركزية. أما اجتماع اللجنة المركزية الذي سبق المؤتمر، وإجراءات الطرد والإبعاد والمقاطعة الاجتماعية بحق عدد من القادة، فلا تجد ذكراً لها في هذه الصفحات من تاريخ الحزب الشيوعي التي كتبها قائد يتصف بالموضوعية العالية، كما يقول عنوان الكتاب ومقدمته. ولكن لماذا نحمّل كتاب عجينه أكثر مما يحتمل؟ عنوان الكتاب، بعد كل هذا وذاك، "الاختيار المتجدد". يريد الكاتب بذلك القول أنه ظل مخلصا ومرتبطا بالحزب الذي انتمى إليه وساهم في قيادته، وعليك ألاّ تتوقع نقداً جذرياً للممارسات والسياسات. فماذا عن مذكرات القائدين البعثيين؟ لقد غادر الاثنان مواقعهما التنظيمية وتركا الحزب قبل ربع قرن من كتابة المذكرات، مما يعطيهما فسحة اكبر للنقد الجذري للتجربة. ثم أن الاثنين لعبا أدواراً قيادية في حكم العراق خلال تجربة البعث الدموية الأولى عام 1963. أضف إلى ذلك إن الكاتبين انخرطا قبل وفاتهما في الحركات الديموقراطية المعارضة للنظام الحاكم، وباتا يؤكدان على أهمية القطيعة الجذرية مع نظام الحزب الواحد والممارسات الدكتاتورية وضرورة انتقال العراق إلى الحكم التعددي. اللجوء إلى الصمت الآيديولوجي يبدو شبه متعذر في حالة الفكيكي وشبيب، لسبب بسيط، هو أن القارئ ينتظر منهما تفسيراً لوقائع عاشها العراقيون بغض النظر عن انتمائهم السياسي. هنا يختلف الأمر عن حالة عجينه الذي يروي أحداثاً، ويصمت عن وقائع، لا تهمّ إلا من لهم علاقة بالحزب الشيوعي. اعتذر للقارئ إذ أسوق مثالاً من تجربتي الشخصية، لأنه كما أظن، ذو دلالة شديدة فيما يتعلق بمعنى ما حدث صبيحة 8 شباط فبراير 1963 وما تلاه. كان عمري اثني عشر عاماً، وعائلتي وأقربائي تتكون من مهنيين ناجحين لا علاقة لهم بالعمل السياسي، ولا تعاطف خاصاً يشدهم إلى سلطة عبدالكريم قاسم. ومع هذا فالمشهد عالق في ذهني كأنه حدث بالأمس: يقطع تلفزيون بغداد بثه يوم 9 شباط ليعلن عن تنفيذ حكم الإعدام بعدو الشعب قاسم العراق وعصابته، ثم يبث التلفزيون فيلماً وثائقياً. في اللقطة الأولى عبدالكريم قاسم جالس على كرسي. وجهه هادئ كأنه في إغفاءة وطيف ابتسامة على شفتيه. تنتقل الكاميرا إلى مشهد جانبي يصور رجلاً ذا كرش جالساً على كرسي وخيط من الدم يسيل على جانب شفته اليمنى. قيل لنا يومها أن هذا هو طه الشيخ أحمد مدير الحركات العسكرية. ثم يليه المشهد الأكثر بشاعة: جثة مهشمة الجمجمة ممددة على الأرض هي جثة فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب. أعرف أن جثة وصفي طاهر، كبير مرافقي قاسم، ظهرت في الفيلم أيضاً، لكني لا أتذكرها الآن. تعود الكاميرا إلى عبدالكريم قاسم. يمسك جندي وقف إلى جانب الجثة الخصلة الأمامية من شعر قاسم. يرفع رأسه لكي يواجه الكاميرا تماماً. يبصق على وجه الزعيم الميت. ينتهي الفيلم، الذي عرض مرات عدة. وتصدح أغنية وطنية لمحمد عبدالوهاب، لم أكن سمعتها من قبل، ولن أطيق سماعها منذ ذلك اليوم: يا إلهي انتصرنا برحمتك. كيف يفسرون المجازر؟ يتقاطع الفكيكي وشبيب في كثير من المواضع، بل ويوجه أحدهما الاتهام إلى الآخر إلى حد التكذيب، لكنهما يشتركان في تعليل واحد للمجازر المرتكبة، ولا ينتبهان إلى أن رواياتهما تنطوي على قدر كبير من التناقض يفضح الكذب الصريح. فإعدام المهداوي كان عملاً رحيماً، لأن من المحتم أن يقتله كثيرون ممن يحقدون عليه لو ترك بريئاً، يقول لنا طالب شبيب. تبرير يذكّر ب"عفو" صدام حسين عن صهريه اللذين تركا العراق ثم عادا إليه، حسين وصدام كامل. لكن العشيرة لم ترحمهما، أسوة "بالرحمة" التي أبداها صدام حسين رئيس الدولة. صدام ابن العشيرة طبق قانونه العشائري على الضد من صدام الرئيس! الخصوم حاولوا إقناع الناس بقسوة الحكم البعثي الجديد، يقول لنا صاحبا المذكرات وشارح إحداها. الفيلم الوثائقي لجثث ضحايا البعث الأوائل: عبدالكريم ورفاقه، والمجازر الجماعية ليست أدلة القسوة، بل هي دعايات الخصوم. * كاتب عراقي **قراءة في ثلاثة كتب: هاني الفكيكي "أوكار الهزيمة: تجربتي في حزب البعث العراقي"، رياض الريّس للنشر، لندن وقبرص، 1993. د. علي كريم سعيد "عراق 8 شباط 1963 من حوار المفاهيم إلى حوار الدم: مراجعات في ذاكرة طالب شبيب"، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1999. د. رحيم عجينه، الاختيار المتجدد: ذكريات شخصية وصفحات من مسيرة الحزب الشيوعي العراقي، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1998 .