قبل حوالى ثلاثة عقود من الزمن، رأى يوري أفنيري في بداية افكاره عن "اسرائيل بلا صهيونية"، بأن "الصهيونية أصبحت بالية. فالجيل الجديد، الذي ولد في اسرائيل، لا يعرف غير وطنية اسرائىلية محلية، فهو يولي اسرائيل اهتمامه، ولكنه اذ يقول "نحن" فهو يقصد الأمة الاسرائىلية الجديدة، لا يهود بروكلين أو بودابست... الصهيونية حطاماً من الماضي، حركة كبيرة انتهى دورها التاريخي تاركة إرثاً ايجابياً في احد وجهيه، وسلبيا في وجهه الآخر". ولكن بنيامين نتانياهو أقرّ بهذه الحقيقة متأخراً، أي بعد فشله في الانتخابات لرئاسة الحكومة، حين قال: لقد تعب الشعب الاسرائىلي من الصهيونية، وذلك في معرض تفسيره لهزيمته وهزيمة التيارات القومية المتشددة، مقابل نجاح تيارات الوسط. وبذلك يكون نتانياهو اعترف، ايضاً، بفشل شعار إعادة بناء الصهيونية، الذي رفعه لدى وصوله الى السلطة قبل ثلاث سنوات، لعدم ملاءمة تلك الايديولوجية مع التطورات والتحولات الجديدة التي طرأت على المجتمع الاسرائىلي، مع ما يؤثر به من متغيرات دولية واقليمية. ويرى كثير من المحللين بانه ثمة علاقة وثيقة بين المراجعة الاسرائىلية للصهيونية وبين خيارات اسرائيل الداخلية والخارجية، ولو ان هذه المراجعة تواجه أحياناً بعض الاحباطات والترددات، كما تواجه مع المعسكر المتشدد مقاومة عنيدة. فمثلاً جرى تفسير اهتمام إيهود باراك، رئيس الحكومة الاسرائىلية، بضمّ حزبي "المفدال" و"يهوديت هاتوراه" المتدينين، الى ائتلافه الحكومي ومحاولة استثناء "شاس"، ليس على أساس كونها حركة دينية، وإنما بسبب الخلفية الاثنية لها تحديداً، فهذه الحركة تعبّر عن اليهود الشرقيين، في حين ان الحركتين المذكورتين تضمان المتدينين من اليهود الغربيين. وعليه فقد بدا موقف "ميريتس" و"شينوي" المدعومة من بعض الاوساط في حركة "اسرائيل واحدة"، بشأن استبعاد حركة شاس ولو كان الثمن ضمّ "المفدال" و"الليكود" الى الحكومة، على انه تحالف اليهود الغربيين ضد اليهود الشرقيين في اسرائيل، وفي هذا السياق كتب ديدي تسوكر، عضو كنيست من ميريتس سابقاً مقالاً عنوانه: "نمط تصوّر غربي"، لاحظ فيه استبعاد ممثلي مجموعتين اثنيتين من مشاورات تشكيل الحكومة الاسرائىلية الجديدة، هما: اليهود الشرقيون والعرب، مشيراً إلى أن مبررات ادارة الظهر لهاتين المجموعتين متشابهة، ويكمن ذلك برأيه في الميدان الثقافي وليس في ميدان اللعبة السياسية. يقول تسوكر: "في الحالتين يرفض الاجماع الليبرالي - الغربي الحاكم في اسرائيل الشرق. وهكذا يفضل اليسار الالتقاء مع الليكود والمفدال على رغم مواقفهما السياسية". ويستنتج من ذلك بان تشكيل الحكومة سيحدد مدى رغبة اسرائيل في تبني خيار الاندماج بالشرق الاوسط من عدمه، "اذ ان شاس والعرب ايضاً سيضفون على الحكومة صورة شرقية جداً، التركيبة الثقافية وتركيبة النخبة في اسرائيل تؤثر على الشكل الذي نستقبل فيه ونتصرف في المنطقة؟ هآرتس 9/6/99. أما عن المراجعة وعلاقتها بتوجهات اسرائيل الخارجية فقد دعا شلومو بن عامي من ابرز زعماء حزب العمل، في مقال نشره في "هآرتس"، الى استبدال "الخيار التركي" ب"الخيار المصري". ورأى بن عامي "ان حكومتي شمعون بيريز وبنيامين نتانياهو السابقتين طورتا التحالف الاستراتيجي مع تركيا، الامر الذي حشر سورية وأثار غضب مصر". واعتبر هذا السلوك السياسي من "تركة حلف الاطراف" الذي ورثته اسرائيل من "عهود ديفيد بن غوريون الذي أراد ربط اسرائيل بالدول غير العربية في الشرق الاوسط، للالتفاف على طوق العداء العربي". وقال ان العلاقات مع تركيا مهمة، و لكنها لا يمكن ان تشكل بديلاً لحوار حقيقي مع العرب. هكذا يواصل الاسرائىليون نقاشاتهم الصاخبة عن هويتهم، الى حد ان بعضهم مثل باروخ كيمرلينغ تحدث عن اندلاع حرب ثقافات في المجتمع الاسرائىلي، ونعى آخرون مثل بن عامي أسطورة بوتقة الانصهار. فاسرائيل برأيه، وعلى رغم مرور نصف قرن على قيامها، باتت اليوم مجتمعاً متعدد الطوائف ومتنوع الثقافات، فشخصية الاسرائىلي الاسطورية تحطمت وحلّ مكانها "اسرائىليون" كثيرون جميعهم ذوو شرعية: يهود وعرب، حريديم ومتدينون وطنيون، تقليديون، ورجال "طوائف" "شرقيون"، "مهاجرون"، و"اشكناز"... وفي الاساس تعامل متعدد ومختلف بل ومتصادم مع صورة الدولة اليهودية، معاريف 22/9/1996. وما يلفت الانتباه في هذا النقاش المحتدم عمقه واشكالياته التي تلامس في الحقيقة الخطوط الحمر للمشروع الصهيوني بمجمله، بل انها كثيراً ما تضع علامات الشك حول مبرر هذا المشروع وجدواه من الناحيتين التاريخية والاخلاقية. وفي الواقع فان نتائج حرب حزيران يونيو 1967 وخصوصاً احتلال اسرائيل لاراضي ثلاثة بلدان عربية، والسيطرة على الشعب الفلسطيني، فتحت النقاشات الاسرائيلية عن هوية اسرائيل ونظامها الديموقراطي وانتمائها وعلاقاتها الاقليمية والدولية. وفي هذه المناقشات اصبح التساؤل عن معنى السلام مرتبطاً بتعريف اسرائيل لهويتها وبتحديدها لحدودها السياسية والبشرية والثقافية. وليس من قبيل المبالغة الاعتراف بان هذه النقاشات التي يبلور افكارها الاساسية بعض الاكاديميين الاسرائىليين المختصين في علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة، والذين يعرفون بتيار "ما بعد الصهيونية"، تكاد تسيطر على النقاشات الفكرية الجارية بين نخب المجتمع الاسرائىلي. ومن الواضح ان افكار هذا التيار تحاول ايجاد قطيعة مع الافكار الصهيونية التقليدية، وايجاد سياق ثقافي جديد للاسرائيليين يتأسس على حقائق التاريخ والجغرافيا والسياسات اكثر من تأسسه خارج التاريخ إن في الاسطورة أو في حقائق القوة العمياء. من المهم ان تحدث نقاشات كهذه في اسرائيل، ولكن من المهم اكثر معرفة العوامل الداخلية والخارجية التي تنقل هذه المناقشات من الدائرة الاكاديمية الضيقة، الى ميدان المجتمع كي تتحول الى عامل ضغط على المستوى السياسي. * كاتب فلسطيني