نكتشف، حين نقارن ما أنجزه جيلنا، من ترجمات، بما أنجزته الأجيال السابقة، منذ بداية القرن العشرين، ضآلة هذا المنجز واضطراب حاله وفوضاه. فلا حال الترجمة أصبح أفضل ولا حال النشر كذلك. هناك ترجمات أكثر عدداً تصدر الآن في مشرق الوطن العربي ومغربه، وهي تنم عن لغات أكثر عدداً وتنوعاً من تلك التي كانت تتم عنها ترجمات الأجيال السابقة، لكننا لا نعثر إلا على أقل القليل من الترجمات الناصعة البيان التي يمكن أن تضاهي الأصل أو تتفوق عليه أحياناً. ان الاختيارات محكومة بمنطق السوق، ومتطلباته في أحيان كثيرة، ولذلك تغيب عنها أمهات الكتب، والمصادر الأساسية للمعرفة والإبداعات الكبرى القادرة على عبور التاريخ وإلهام الكتّاب وتغذية خيال القراء. نضيف الى ذلك كله ركاكة لغة الترجمات اذ أصبح ينظر الى الترجمة بوصفها عملاً ثانوياً رثاً لا يحقق ذلك التواصل الثري بين أبناء اللغات المختلفة. إنها ترجمات سريعة لا يتقن أصحابها اللغات التي يترجمون عنها ولا يتقنون لغتهم العربية الأم التي يترجمون اليها. يصدق هذا الكلام على معظم الترجمات العربية في الوقت الراهن وقد أصبح من الصعب علينا العثور على ترجمة مميزة لكتاب أساسي في الفكر أو الرواية أو الشعر، على كثرة الترجمات وسيلها العارم الذي يغرق سوق الكتاب العربي. إذا عدنا الى الأربعينات من هذا القرن، وصولاً الى نهاية ستيناته، فسنعثر على صورة مغايرة تماماً. لقد كانت الترجمات قليلة نسبياً، إذا ما قورنت بالعدد الكبير منها الذي تقذفه المطابع في الوقت الراهن، كما كانت دور النشر أقل عدداً وعدة مما هي عليه اليوم" لكن نوعية الكتب التي كانت تترجم كانت أفضل بكثير، كما أن الترجمات التي تحققت هي في الكثير منها ناصعة البيان تحاول الوصول الى مستوى لغة النص الأصلي واقتناص بلاغته. لربما يعود دلك الى طبيعة ثقافة الذين كانوا يتصدون للترجمة في تلك الأيام ومكانتهم العلمية. كانت الترجمة إذاً جزءاً من مشروع هؤلاء وخيوطاً في نسيج انجازهم الفكري والثقافي، ولم تكن عملاً مضافاً الى انشغالاتهم الثقافية الأخرى. ويبدو أن ذلك يعود الى كيفية صياغة كل منهم لمشروعه الثقافي أو الإبداعي. فالواحد منهم كان يترجم ما يعده أساسياً في الإبداع والتفكير الإنسانيين ليضيء مشروعه الشخصي في الإبداع والثقافة. ولذلك كانت الترجمات تضاهي، في لغتها ونصوع بيانها، مؤلفات أولئك الأعلام الكبار في الثقافة العربية، أو أنها تتفوق عليها في بعض الأحيان. فهل هناك حالات شبيهة في الواقع الراهن لثقافتنا العربية؟ نعم هناك لكن طوفان الركيك والفاسد من الترجمات يغطي على الجميل المشغول بتأن في الاختيار والتعريب. يضاف الى ركاكة الترجمات سوء الاختيار وعدم التصدي لترجمة الأعمال الأساسية في الثقافات البشرية. فهناك سيل متدفق من الترجمات في الحقول المعرفية والإبداعية المختلفة لكننا لا نصادف الأعمال الأساسية والمصادر الكبرى. ان مترجمي هذه الأيام يذهبون الى الكتب الثانوية وما يمكن القول انه يقع على حواشي التيارات الفكرية والثقافية والإبداعية في هذا العصر. كانت الأجيال السابقة تعمل استناداً الى مشروع طموح لنقل مصادر الفكر الإنساني، الغربي على الأغلب، الى العربية. ولو استعدنا تلك اللحظات في تاريخ الترجمة في ثقافتنا خلال هذا القرن لوجدنا أن عدداً من مصادر الفكر الإنساني وإبداعات البشرية على مر العصور قد نقل الى العربية بترجمات من مثقفينا العرب الكبار في تلك الفترة. أما في الوقت الراهن فإننا لا نعرف لماذا ترجم هذا الكتاب ولم يترجم غيره، ولماذا لم تسبق ترجمة ذاك الكتاب ترجمة كتاب آخر. انها جريمة فوضى النشر، وانسحاب المؤسسات الحكومية والأهلية كذلك من دعم الكتابة والنشر، وافتقاد العرب في نهاية القرن الى أي مشروع حضاري يعزز حضورهم في القرن المقبل.