ليس مستغرباً أن يستهل عالم الاجتماع والأكاديمي التونسي الطاهر لبيب مشروعاً جديداً في حقل الترجمة عنوانه «مشروع نقل المعارف» - هيئة البحرين للثقافة والآثار، في نقل كتاب «تفكّر» للفيلسوف البريطاني سايمن بلاكبرن، فهذا الكتاب الذي يعدّ بحسب عنوانه الثانوي «مدخلاً أخاذاً الى الفلسفة» هو مرجع تحتاج اليه المكتبة العربية والقراء العرب في «عصر» صعود الفكر الأصولي الظلامي الداعي الى إلغاء إنسانية الإنسان وحقه في التفكير الحر والاختلاف. وفي اختيار هذا الكتاب منطلقاً لسلسلة من الكتب المترجمة دليل واضح على البعد التنويري الذي يهدف اليه المشروع الذي يديره ويشرف عليه لبيب والذي يعد امتداداً لمشروعه السابق المتمثل في «المنظمة العربية للترجمة» (مركز دراسات الوحدة العربية)، وهو استطاع أن يكون فعلاً في طليعة حركة الترجمة العلمية والرصينة التي شهدها العالم العربي في الأعوام الأخيرة. ويبدو أن هذا المشروع الجديد الذي ترعاه الشيخة مي خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، صاحبة المبادرات الثقافية الفريدة، نجح فعلاً في ترسيخ معالمه وإبراز هويته بعدما توالت الكتب المترجمة التي اختار لبيب حقولها المعرفية وعناوينها بحصافته ومعرفته ومراسه الثقافي متعاوناً مع بعض المتخصصين. ومن العناوين التي صدرت حتى الآن: «لغات الفردوس، آريّون وساميّون: ثنائي العناية الإلهية»، «هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم؟ بحث في الخيال المكوّن»، التحليل النفسي، علماً وعلاجاً وقضية»، «الأبجديات الثلاث: اللغة والعدد والرمز»، «نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعي للقرن الحادي والعشرين»، «الزّمن أطلالاً»، «آينشتاين بيكاسو: المكان، والزمان، والجمال الذي ينشر الفوضى»،» أصول الفكر الإغريقي»، «تاريخ اجتماعي لوسائط التواصل، من غوتنبرغ إلى الإنترنت»، قصة الفن»،» منطق الكتابة وتنظيم المجتمع»... يقول الطاهر لبيب عن هذا المشروع: «مشروع نقل المعارف هو مبادرة بحرينية، وراءها وأمامها الشيخة مي خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار. منطلق هذه المبادرة ليس حل مشكلة نقل المعارف إلى العالم العربي، فهذا طموح يتطلب جهداً عربياً مشتركاً وطويل المدى. المشروع له رمزية تتمثل، بالدرجة الأولى، في لفت الانتباه العربي إلى ضرورة نقل المعارف بطرق عدة، من بينها الترجمة. هو مشروع محدود في الزمن، يتضمن ترجمة خمسين كتاباً تصبّ، في مجملها، في اتجاه الدفاع عن العقلانية التي نفتقر إليها كثيراً في عالمنا العربي ونحتاج إليها، اليوم، وكأولوية فكرية، أكثر من أي وقت مضى. يجب هنا توكيد أن ما يمكن أن تتميز به الترجمات المخطط لها هو الحرص الشديد على الدقة العلمية والأمانة الأخلاقية في الترجمة، مما يجعلها موثوقاً بها ومعتمدة، كمراجع، في البحث العلمي. ومن المؤكد أن الخمسين كتاباً ليس لها ولا يمكن أن يكون لها طموح تغطية الحاجة العربية إلى الترجمة، فالهدف من المبادرة البحرينية هو تقديم أنموذج لترجمة متقدّمة، وإثبات أنّ بالإمكان إنجاز ترجمة عربية متقدمة تختلف عن الترجمة الجارية الربحية السائدة. لقد حاولت شخصياً في المنظمة العربية للترجمة تقديم نموذج من هذا النوع، وأحاول الآن تقديم نموذج آخر في البحرين، يبدو أن إصداراته الأولى انتشرت ولقيت استحساناً». ويضيف لبيب: «وللمناسبة، فإن غياب مشروع عربي قومي شامل وواسع للترجمة يدعو إلى الاستغراب والحزن في آن واحد. فاللغة التي هي الوسيلة الأولى الحاملة للفكر والتواصل هي، عندنا، في وضع سيئ قد يجعل الترجمة نفسها أمراً صعباً. لقد تسارعت المعرفة إلى حد لم يعد يسمح بانتظار سنين لترجمتها. اليابانيون مثلاً يصدرون ترجمات متزامنة مع صدور النص الأصلي، في حين أننا نتخلّف عشرات السنين في ترجمة بعض الكتب الأساسية. أتخيل، ولكنه مجرد تخيُّل، أن ينشئ العرب مؤسسة قومية كبرى تجنّد مئات المفكّرين والعلماء لترجمة أمهات الكتب والمجلات، ولمواكبة سرعة الإنتاج المعرفي في العالم. لماذا لا يقدِم العرب على فعل كبير كهذا؟ لا أدري. ما أنا واثق منه أنهم سيفقدون لغتهم إن تواصل عدم اكتراثهم واكتفوا بتكرار تمجيدهم لها». غير أن الطاهر لبيب المفكر والعالم السوسيولوجي يعكف في الوقت نفسه على كتابة نصوص ذات طابع إبداعي بعيداً من اختصاصه الذي تجلى فيه لاسيما عبر كتابيه الشهيرين «سوسيولوجيا الغزل العربي- الشعر العذري نموذجاً» و «سوسيولوجيا الثقافة»، وهما مرجعان أكاديميان بارزان ومتفردان في ما عالجا من قضايا سوسيو-ثقافية جديدة. وكتابه الأول الذي أعاد فيه قراءة ظاهرة الشعر العربي العذري بدا فتحاً في دراسة هذا الحقل الذي يجمع بين الإبداع الشعري والمعطى الثقافي- الاجتماعي. وقد كتب عنه المستشرق الفرنسي اندريه ميكال مقالاً في صحيفة «لوموند»: «إني على يقين من أن من يقرأ هذا الكتاب لا يعود، بعد قراءته، الى ما ورثناه من أفكار عن الحب وعن الغزل عند العرب. إنه يحدث فعلاً قطيعة مع الفكر السائد في موضوعه». وقد اعتمد الكاتب رولان بارت أيضاً هذا الكتاب ورجع اليه في ما كتب عن «خطاب الحب». وقد ترجم الكتاب الذي كان أصلاً عبارة عن أطروحة دكتوراه فرنسية الى العربية أربع مرات، آخرها قام بها المؤلف نفسه.