حدث المشهد التالي في سالونيك في مثل هذا اليوم من العام 1909: كان مصطفى كمال جالساً في مكتبه، حين سُمح بالدخول عليه لعضو في حزب "الاتحاد" قال انه جاء لكي يناقش هذا الضابط - السياسي، في كلام قاله خلال خطبة القاها في المؤتمر الثاني لحزب "الاتحاد والترقي". دخل الرجل. لكن مصطفى كمال - كما تقول الحكاية التي مال الأتراك الى تصديقها كما رويت بعد ذلك - أدرك بسرعة ان هذا الحزبي انما أُرسل الى هنا لكي يتخلص منه بقتله بناء على تعليمات من قيادة الحزب. فكيف تصرف مصطفى كمال تجاه الأمر؟ بكل بساطة - ودائماً كما تقول تلك الحكاية - اخرج مسدسه الخاص ووضعه على المكتب أمامه داعياً الرجل الى اطلاق النار عليه إذا شاء. الرجل أذهلته المفاجأة، فرمى سلاحه وخرج حزيناً، بعد أن اعترف لمصطفى كمال بغايته الأصلية من الزيارة وايضاً... بأسماء الذين كلفوه القيام بعملية الاغتيال. ولسوف يتردد لاحقاً اسم أنور باشا في هذا الاطار، مع أن مصطفى كمال لم يورد اسمه أبداً حين راح يتحدث عن الأمر بعد ذلك. ولكن لماذا، كانت بعض قيادات حزب "الاتحاد والترقي" - أي حزب مصطفى كمال - تريد التخلص منه، اذا كانت الحكاية صحيحة؟ لسبب في غاية الأهمية، وهو أن ذلك الحزب، كان يعقد في تلك الأيام بالذات مؤتمره الثاني. وكان في المؤتمر نوع من المراجعة لسياسات الحزب وممارساته، بعد أشهر قليلة من "الثورة المضادة" التي قام بها الرجعيون ضده. صحيح، يومها، ان "الاتحاديين" تمكنوا من سحق تلك الثورة، لكنهم أدركوا في الوقت نفسه أن الأمور لن تكون سهلة عليهم منذ ذلك الحين وصاعداً. وأن القوى التي تقف ضدهم وترفض طروحاتهم كثيرة. ومن هنا، جاء مصطفى كمال الى الحزب ممثلاً طرابلس الغرب التي كان حقق فيها انتصارات عسكرية هامة ليلقي اللائمة على جمع الاتحاديين بين مهمتين كانتا، في رأيه، متناقضتين: المهمة العسكرية والمهمة السياسية. وكان من الواضح ان مصطفى كمال يرغب هنا في أن يفصل السياسة عن العمل العسكري، تماماً كما أنه بعد ذلك بسنوات طويلة حين أسس الدولة التركية الحديثة، كان أول ما فعله فصل الدين عن الدولة. بالنسبة الى مصطفى كمال "ان من يخدم سيدين في وقت واحد، لا يمكنه أبداً أن يقوم بمهمته خير قيام لا عند السيد الأول ولا عند السيد الثاني". بالنسبة الى مصطفى كمال كان هذا المؤتمر، اذن، مناسبة صالحة لكي يعلن، للمرة الأولى بشكل واضح وصريح ظهوره كسياسي، بعد أن كان من قبل عسكرياً/ سياسياً في الوقت نفسه. لذلك راح يركز من خطابه - الذي أغاظ قيادات "الاتحاديين" كثيراً - على الأثر السيئ الذي ينتج عن الخلط بين السياسي والعسكري، وهو الخلط الذي كان يمارسه قادة "حزب الاتحاد والترقي" كلهم. ولقد أكد مصطفى كمال في الوقت نفسه انه "من أجل سلامة الامبراطورية والملكية الدستورية" يتعين عدم الابقاء على الحزب على الشكل الذي هو عليه الآن، مضيفاً "ان رفاقنا، الذين ينتمون الى الجيش، يجب أن يتركوا الجيش فوراً ان هم أرادوا مواصلة العمل السياسي. أما اصدقاؤنا الذين يفضلون البقاء في الجيش، فإن عليهم أن يتركوا السياسة لكي يتفرغوا تماماً لمهامهم العسكرية، حيث يكون همهم الأساسي جعل جيشنا أكثر قوة على الدوام" ومن ناحية ثانية قال مصطفى كمال ان على "منظمتنا هذه أن تعزز علاقاتها بالسكان لكي تصبح حزباً سياسياً حقيقياً ينهل قواه من الأمة نفسها". كان من الواضح أن مثل هذا الكلام ليس من شأنه أن يثير اعجاب قيادات "الاتحاديين" وهي كلها قيادات عسكرية. لذلك راحت هذه القيادات تجتمع وتتداول الأمر في أروقة المؤتمر. وبدا من الواضح انه لئن كان ثمة بين أعضاء المؤتمر اقلية توافق مصطفى كمال على كلامه، فإن الأكثرية تعارضه. وهذه الأكثرية كان لا بد لها أن تلجأ الى "أبي الحزب وأحد كبار مؤسسيه" أنور باشا، الذي كان، في العام الفائت، قد ترك العمل السياسي - ظاهرياً على أية حال - لكي يتسلم مهام الملحق العسكري في السفارة التركية في برلين. لم يتضح طبعاً ما كان عليه موقف أنور باشا. ولكن كان من الجليّ في المقابل أن هذا الزعيم الذي سيبرز أكثر وأكثر بوصفه القيادي الأساسي للحزب، ليس مستعداً الآن، للابتعاد أكثر عن العمل السياسي، ولا سيما في أعقاب "الثورة المضادة" التي حدثت في غيابه. ومن هنا الفرضية التي تقول انه اعتبر كلام مصطفى كمال موجهاً اليه في الأساس. وانه هو في خلفية "محاولة الاغتيال" أو - في نظرية أخرى - ان "محاولة الاغتيال" نفسها ركبت في الأساس، لكي يدان أنور من خلالها... الصورة: أنور باشا ومصطفى كمال معاً.