كل الاحتمالات وارد في حادث سقوط الطائرة المصرية، الرحلة 990، بعد اقلاعها من نيويورك، بما في ذلك خلل في صنع الطائرة نفسها، أو خطأ في الصيانة، أو صاروخ أو انفجار، أو انتحار الطيار المناوب. بعد حوالى شهر من سقوط الطائرة، تشير التسريبات الأميركية الى الطيار جميل البطوطي، ودوره في سقوط الطائرة، ما أدى الى مقتل 217 شخصاً. وبقدر ما يتجه التحقيق نحو الطيار، بقدر ما يعترض المصريون على اتهامه. واشتكى المصريون من التسريبات، وقالوا انهم لا يسربون أخباراً من ناحيتهم، وهذا صحيح إلا أن تسريب المعلومات تقليد أميركي معروف، ولا يعني مؤامرة أخرى. وعندما كان الرئيس بيل كلينتون يواجه خطر العزل بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي، كانت هناك تسريبات يومية الى الصحف، واشتكى محاموه رسمياً واتهموا المحقق الخاص كنيث ستار، وجرى تحقيق في التحقيق لم يتوصل الى شيء. وربما تذكر القارئ ان فضيحة ووترغيت كلها كانت عبارة عن تسريبات الى مراسلين في "واشنطن بوست"، ولم يكشف حتى اليوم اسم بطل التسريبات من البيت الأبيض الذي أطلق المراسل بوب وودوارد عليه اسم "ديب ثروت"، من عنوان فيلم اباحي مشهور. نبقى مع الطائرة، فالتسريبات الأميركية لا يمكن أن تكون بريئة فقط من زاوية التنافس بين الإدارات الرسمية الأميركية، فالمسؤول الأول عن التحقيق هو هيئة سلامة النقل الوطني، ولكن لو ثبت ان وراء سقوط الطائرة جريمة لتولى القضية مكتب التحقيق الفدرالي. بكلام آخر، اذا ثبت ان الطائرة سقطت بسبب خلل من نوع الدفع العكسي في المحركات، أو سقوط ذنب الطائرة، يظل التحقيق في يدي هيئة سلامة النقل، ولكن إذا تبين ان ثمة انفجاراً، أو ان الطيار اسقط الطائرة منتحراً، ينتقل التحقيق الى ال إف.بي.آي. وفي حين قال المصريون ان هناك احتمالاً بوجود قنبلة، أو اصابة الطائرة بصاروخ، خصوصاً مع وجود 32 ضابطاً مصرياً على متنها، فإن المحققين الأميركيين في تسريباتهم المختارة، وجهوا إصبع الاتهام بوضوح الى الطيار البطوطي. وهكذا قرأنا: - كان يفترض في الساعات الأولى من الرحلة ان يبقى الطيار البطوطي في مقعده في الدرجة الأولى، أو يحاول النوم، قبل أن يحين موعد قيادته الطائرة. إلا أنه دخل مقصورة القيادة، وأمر الطيار المساعد عادل أنور بالخروج وجلس مكانه، مستغلاً كونه أعلى رتبة، كما تدل التسجيلات الصوتية. - قوله "توكلت على الله" 14 مرة أصبح معروفاً، الا أن المحققين يقولون ان ما لم يقله مهم أيضاً، فهو لم يبد دهشة، أو تسمع منه كلمة أو عبارة تدل على القلق أو الخوف، كما لم تبدر منه شتيمة للآلات أو غيرها كما يتوقع من رجل في مثل وضعه. - قال "توكلت على الله" بعد أن اغلق الطيار الاوتوماتيكي، وهبط بالطائرة في زاوية حادة أدت الى حالة انعدام الوزن داخلها. حتى لو كان ما سبق كله صحيحاً، فإن ما يضعف منه هو التالي: - إذا كان الطيار البطوطي يريد الانتحار فلماذا لم ينتظر ساعة أخرى أو اثنتين، عندما تصبح الطائرة فوق مياه المحيط العميقة، ما يجعل من المستحيل تقريباً انتشال بقاياها. - لماذا ينتحر طيار ليست في ماضيه اشارة واحدة الى ميول انتحارية، فهو والد لخمسة أطفال، ورجل مؤمن، ومدرب ربما كان مسؤولاً عن تدريب نصف طياري شركة الطيران المصرية. - لا بد أن الطيار الأصيل للرحلة قاوم حالة انعدام الوزن، واجتهد للعودة الى مقصورة القيادة، الا أن حديثه التالي مع الطيار البطوطي لا يدل بوضوح على أنه يتهمه بالمسؤولية عن هبوط الطائرة، وانما هو يسأل عما حدث. - لم يسمع أي صوت لعراك أو لكلمات تدل على خلاف بين الطيارين، كأن يحاول واحد منع الآخر من تدمير الطائرة. مرة أخرى، كل الاحتمالات وارد، رغم تركيز المحققين الأميركيين عبر تسريباتهم على دور الطيار البطوطي. ولكن لو افترضنا جدلاً انه مسؤول عن سقوط الطائرة، ثم افترضنا انه لم ينتحر، فهل يكون الأمر انه فقد أعصابه أمام عطل خطير في الطائرة، وهل يعقل هذا من رجل بمثل خبرته، أو أن يكون تصرف تصرفاً خاطئاً رداً على العطل، ما أدى الى سقوط الطائرة، فيكون الحادث كله من نوع "الخطأ البشري". قناعتي الشخصية هي أن التحقيق سيكشف في النهاية السبب الحقيقي لسقوط الطائرة. غير أنني أتوقف قليلاً لأروي قصة، فزميل لنا هو "منظراتي" سياسي لبناني مشهور، كان في القاهرة، وضمته جلسة مع عدد من "المنظراتية" المصريين، تناوبوا على انتقاد حكومتهم قياماً وقعوداً، وعلى جنوبها، وأخيراً جاء دور الزميل فانتقد الحكومة المصرية بدوره. وثار المصريون عليه، ودافعوا عن حكومتهم أمام هذا الغريب، مع أنهم كانوا قبل دقائق ينتقدونها بأشد مما صرح الزميل. لا أدري لماذا تذكرت هذه القصة الحقيقية وأنا أتابع ردود الفعل المصرية على اتهام الطيار البطوطي بالتسبب في سقوط الطائرة. كلنا يدعو ان تثبت براءة الطيار البطوطي في النهاية، رحمة به وبذكراه وبأسرته، ولكن لو ثبت في النهاية ان الطائرة سقطت لأن طياراً قرر الانتحار، وقتل 216 شخصاً معه، فإن هذا يبقى خطأ شخص واحد، لا يمكن أن يتحمل بلد بكامله المسؤولية عنه، ولا يمكن أن يطاول الحادث الكرامة الوطنية لشعب، فهذا رهق لا منطق فيه، خصوصاً اننا تعلمنا "ولا تزر وازرة وزر اخرى". نقول هذا وندعو أن تثبت براءة الطيار.