في صيف عام 1987 نظمت جامعة لايبزغ في ألمانياالشرقية رحلة لعدد من طلابها الأجانب الى برلينالشرقية عاصمة المانيا الديموقراطية. وكان من أهم ما تضمنته الرحلة زيارة لمطعم برج التليفزيون الواقع في مركزها في ساحة الكساندر بلاتس. فمن هناك لم يكن المرء يحتاج الى عناء كي يكتشف ان برلين مشطورة الى قسمين. وبدا الجدار برسومه الفاقعة تارة والرمادية تارة أخرى على شكل خناق يطوق القسم الغربي بقواطع بيتونية حازاها شارع تكاثفت على جانبيه أعمدة الأضاءة ومحطات المراقبة، ومنذ عشر سنوات زال الجدار وتوحدت المدينة وولدت ألمانيا جديدة وسعيدة على حد تعبير رئيس بلدية الشطر الغربي آنذاك فالتر مومبر. واليوم ومن المطعم المذكور أصبح بإمكان المرء التمتع بمدينة مترامية الأطراف من دون جدار فاصل وأسلاك شائكة ودوريات حراسة. ومع التوحيد عصفت ببرلينوألمانيا تغيرات كبيرة. وأعيد ربط أوصال البنى التحتية المقطعة وتمكن الناس من لم شمل عائلاتهم. وتحول وسطها الذي فصل بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي أيام الحرب الباردة الى أضخم ورشة إعمار في أوروبا. والأهم من ذلك عادت المدينة لتلعب من جديد دور العاصمة لألمانيا الموحدة ومحوراً للنشاط السياسي في وسط أوروبا وشرقها. ويزيد من أهمية هذا الدور سعي البلاد للعب دور سياسي أوروبي وعالمي يتناسب مع وزنها كثالث قوة اقتصادية بعد الولاياتالمتحدة واليابان. ولكن الوحدة التي تمت على أرض الواقع لم تتم بعد في النفوس والقلوب. فالجدار ما يزال حاضراً نفسياً ومعنوياً على حد تعبير الدكتور سيغفرد هازه من أكاديمية كافط للعلوم. ويعكس هذا الأمر الاختلافات التي ما تزال قائمة بين شطري برلين من جهة وشطري ألمانيا من جهة اخرى. وتشمل هذه الاختلافات مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية. فاقتصاد منطقة ألمانياالشرقية سابقاً لم يتمكن بعد من النهوض منذ انهياره خلال الأسابيع الأولى للوحدة بخلاف ما وعد به المستشار السابق أو مستشار الوحدة هيلموت كول. وهكذا بقيت المعجزة الاقتصادية التي بشر بها الأخير في عداد البشائر الكثيرة التي أطلقها قادة ألمانيا الغربية جزافاً ولأهداف انتخابية. ويعود السبب الأساسي لذلك الى الاخطاء السياسية التي ارتكبت خصوصاً على صعيد الخصخصة. كما يعود الى عزوف الشركات الغربية عن الاستثمار في المقاطعات الشرقية كما ينبغي. فغالبيتها ترى في هذه المقاطعات سوقاً جديدة لاستهلاك منتجاتها وخدماتها أكثر مما ترى فيها المكان المناسب للتمويل والاستثمار. ولم يكن من نتائج ذلك ازدياد عدد العاطلين عن العمل بنسبة تزيد على ضعف مثيلتها في المقاطعات الغربية 16.9 مقابل 8.2 في المئة وحسب، فمستوى الأجور والرواتب ما يزال في الشرقية أقل على أساس ان مستوى الانتاجية أدنى. وفي الوقت الذي تستديم فيه مشكلة العاطلين عن العمل يتواصل نزع المكاسب الاجتماعية التي حققها نضال العمال والموظفين خلال العقود الخمسة الماضية. ويتم هذا الأمر تحت وطأة الركود الاقتصادي وإعادة الهيكلة، التي طالت قطاعات في غاية الأهمية مثل الطبابة والرعاية الصحية والتعويضات الاجتماعية والحضانة والتعليم. ولم يدفع ذلك الألمان بشطري البلاد كل على حدة لعدم الرضا عن الوضع القائم فقط والحنين الى الماضي. وبدأ كل طرف يحمل الآخر جزءاً من مسؤولية ما يحدث. فالغربيون مثلاً أو قسم كبير منهم يقول ان الأموال التي التهمتها البنية التحتية لألمانياالشرقية كانت سبباً في تراجع أداء اقتصادهم. كما يشتكي هؤلاء من ضعف اعتراف الشرقيين بالجميل على رغم التضحيات المادية والمالية التي قدمتها ألمانيا الغربية. وفي المقابل يرى قسم من الشرقيين ان الحكومة الاتحادية باعت مؤسساتهم ومعاملهم التي كانت جميعها تقريباً ملكية الدولة الى رجال الاعمال الغربيين بأسعار بخسة. وبدلاً من ان يقوم هؤلاء بإصلاح أوضاعها قاموا بإغلاقها ووسعوا طاقاتهم الانتاجية في القسم الغربي كي تفي بحاجات السوق الجديدة في المقاطعات الشرقية. ويذهب الكثير من الشرقيين الى القول بأن الغربيين يتصرفون تجاههم بفوقية تشبه في بعض جوانبها تصرف المستعمرين تجاه مستعمراتهم. ويزيد من مرارة الشرقيين حقيقة ان ملكية اكثر من ثلاثة أرباع رؤوس الأموال المنتجة في الشطر الشرقي من البلاد تعود اليوم للغربيين. كما ان غالبية المناصب الادارية يتم اشغالها بكوادر غربية. ويم ذلك على أساس أنه لا توجد كوادر شرقية قادرة على التعامل مع متطلبات النظام الليبرالي واقتصاد السوق. ولا يخفي مفكرون وكتاب معروفون حتى في القسم الغربي عدم رضاهم على ذلك. فالمفكر والكاتب المعروف ايغون بار انتقد مجدداً وفي مقابلة مع مجلة "السياسة" الألمانية والدولية لهذا الشهر ما أسماه "بأن اسلوب التعامل الغربي أعطى للألمان الشرقيين الانطباع بأنهم شعب من دون كوادر". وعلى الصعيد السياسي يهيمن الغربيون ايضاً على قيادات الاحزاب باستثناء الحزب الاشتراكي الديموقراطي الشيوعي سابقاً. فالأخير يعتبر الحزب الوحيد الذي يشكل امتداداً لجزء من التاريخ الألماني الشرقي. ويعتبره قسم من مواطني الشرق انه الوحيد الذي يحاكي هويتهم ويتفهم مشاكلهم التي ما تزال تختلف عن مثيلاتها في الغرب. ويجد هذا الأمر انعكاسه في الخريطة السياسية التي تبدو اليوم أشد اختلافاً مما كان عليه الأمر بعيد الوحدة. ففي الانتخابات الأخيرة لبعض المقاطعات الشرقية مثلاً زاد عدد ناخبي الحزب الاشتراكي الحزب الشيوعي سابقاً بشكل لم يسبق له مثيل. ووصل الأمر الى ان قوته هناك أصبحت تعادل قوة الحزب الاجتماعي الذي يتزعمه المستشار الحالي غيرهارد شرودر أو تزيد عليها أحياناً. وفي انتخابات برلين الأخيرة أصبح الاشتراكيون أقوى الاحزاب في الشطر الشرقي، حين فازوا بأكثر من 40 في المئة من أصوات الناخبين لوحدهم. ويرى المراقبون ان ذلك يعكس ايضاً مدى خيبة الأمل التي اصيب بها الشرقيون من الطبقة السياسية العليا من ألمانيا الغربية. فهذه الأخيرة على رأسها المستشار السابق كول والحالي شرودر وعدت بالكثير ولم تفي بوعودها. ولا تبدو الصورة أفضل على صعيد العلاقات بين الناس. فهي ما تزال محدودة حتى في العاصمة برلين. ويدل على ذلك مثلاً ان غالبية الباحثين عن سكن في الضواحي الغربية للمدينة مثلاً ليسوا على استعداد لتقبل فكرة استئجار شقة من الضواحي الشرقية. ويتحدث الكثيرون منهم عن هذه الضواحي وكأنها اجزاء من مدن غريبة لم يزوروها من قبل. وتتحكم في العلاقات المذكورة الأحكام المسبقة. ففي الغرب تسود مقولة ان الشرقيين ليسوا أهلاً للاجتهاد وتعلم العمل. وفي المقابل تنتشر في الشرق مقولة ان الغربيين يشكلون نموذجاً للتعالي والتكبر والعجرفة. ويلاحظ ان اطلاق هذه الاحكام لا يشمل البالغين وكبار السن وانما الشبيبة ايضاً، وأفاد آخر الاستطلاعات في ضاحيتين برلينيتين متجاورتين غربية كرويتسبرغ وشرقية فريدرشهاين ان القسم الأكبر من الشبيبة في القسم الشرقي يعتقد ان شبيبة الغرب من المتكبرين والمدمنين. ويرى القسم الأكبر من الغربيين ان الشرقيين منغلقون ومعادون للاجانب. وينقسم الألمان في تقديرهم لأهمية الاختلافات والاحكام المسبقة بين الشرق والغرب. فقسم مهم منهم لا يقلق لوجودها بقدر ما يقلق للانتعاش الذي شهدته خلال السنوات الأخيرة. ويرى آخرون فيها أمراً طارئاً. أما البقية فتعتبرها أمراً عادياً، متخذة لذلك أمثلة كما هو عليه الوضع في ايطاليا. اذ الفروق الكبيرة بين شمالها وجنوبها، وبغض النظر عن أهميتها، فإن الوحدة أصبحت حقيقة لا رجعة فيها. فاستمراريتها مضمونة بسبب مستوى الرفاه والمعيشة الجيد في مختلف أنحاء البلاد بشرقها وغربها. فالغالبية الساحقة من الشعب الألماني مؤمنة ومقتنعة بالنموذج السياسي الديموقراطي الذي تحكم البلاد في ظله والمبني على أرضية فيديرالية. ولا تغير من جوهر ذلك الانتقادات والمطالبات المتعلقة بإدخال الإصلاحات الضرورية عليه من فترة لأخرى.