وقع ياسين رفاعية في روايته "أسرار النرجس" دار الخيّال - بيروت - 1999 تحت تأثير ثلاثة هواجس: الأول هاجس تسجيلي، فهو كان من الحرص على تسجيل أدبيات وطقوس ومظاهر راحت تنقرض، بفعل الزمن، أكثر من حرصه على كتابة رواية ذات نبض معاصر. والثاني هاجس إدهاشي، ولم يجد في خضوعه لهذا الهاجس المهم سوى العلاقة الخطرة التي تبقى، في مسلمات المجتمع والإنسان، محرمة ومغضوباً عليها أشد الغضب، والهاجس الثالث كان هاجس القص الذي لا غنى لقاص حقيقي عنه ليقدم عملاً مهماً. ثلاثة هواجس سارت مع بعضها وتمازجت وتشابكت لتصنع هذه الرواية التي أراها ذات أهمية في زخم الكم الروائي العربي في آخر القرن. وفي تنمية الهاجس الثالث الذي به يروز النقاد القصاصين، فمن لا يملك هذا الهاجس لن يستطيع كتابة قصة أو رواية متماسكة. ويبقى الهاجسان الأول والثاني البؤرة التي منها خرجت "أسرار النرجس" الى النور، بالشكل الذي رأيناها فيه: راوية، راويتان، أصوات، أحداث متعانقة، قص بصيغة الغائب أحياناً، مونولوغات وتداعيات، وقص بصيغة المتكلم، وربما كان في الرواية قص بصيغة المخاطب وكل ذلك ليشكل عجينة من القص بقلم يعرف ما يفعل. وضَعْ تحت هذه الجملة الأخيرة خطاً، وأعد قراءتها، فهي، عندي، مفتاح الدخول الى عالم "أسرار النرجس" وفهم الرواية، ومتابعة أحداثها وشخصياتها، وان كنت سأتوقف عند شخصيتين فقط لأهميتهما. انني لست مع غادة السمان في تهويلها ومبالغتها، عندما قالت "جميل أن نظل نجد في هذا الزمان من يقدم على نشر ما يرعبه ولست مع عبدالرحمن مجيد الربيعي في قوله ان الرواية "تتحدث عن المسكوت عنه بل المسكوت جداً، وهو ما لم يجرؤ روائي عربي آخر للحديث عنه بهذا الوضوح، وأعني بذلك العلاقات الصعبة في مجتمعات بداية هذا القرن"، لأن ياسين رفاعية حوّل العلاقات الصعبة هذه ببراعة قصصية خارقة الى موضوع يمكن تناوله بسلاسة أولاً، والى ارتفاع بالعلاقة "الخطرة" الى ذروة من ذرى الاتصال بالعشق الحقيقي، ان صح التعبير، ثانياً. ان زين العابدين ليس منقاداً الى شهوة تؤرق وتقض المضاجع، بل هو منقاد الى عشق حقيقي ومثالي. انه يرى في حبه لأسامة نوعاً من التطهير، لا الدنس، وهو يحب أسامة لأنه يجد في صورته صورة مثالية، لعالم يتمنى، أن يصل اليه، فكأن أسامة بالنسبة له مثال، وليس انساناً مشتهى على نحو هابط، ومقرف. هكذا قرأت الرواية وشخصيتيها البارزتين أسامة وزين العابدين، وليس في قلم رفاعية ما دل على انهيار هذا التكوين الجمالي للعلاقة بين الرجل والفتى. ها هنا بالضبط ما عنيته عندما قلت ان رفاعية يعرف ما يفعل عندما شكل عجينة القص في هذه الرواية. لقد أراد أن تكون العلاقة بين أسامة وزين العابدين علاقة متحررة من دنس "الأرض" مرتقية الى واقع مثالي، والحب الإنساني أي الذي بين البشر، ليس بالضرورة حباً جنسياً، وليس بالضرورة حباً بين الأنثى والذكر.وان دخلنا في محراب التفلسف، أقول ان مفهوم هذا الحب عصي على الفهم في معظم الأحوال، لأنه داخل في صورة العشق المثالي الأكثر اتساعاً من مجرد العشق الأرضي في صوره الهابطة، بما في ذلك صوره العادية أؤ غير العادية. عشق هذا شأن لن يفهم إلا على نحو ما فسّره نقاد قرأوا الرواية بعين نصف نائم إذ ليس في هذا العشق ما يشين، وزين العابدين نفسه لا يفهمه إلا بالصورة التطهرية، وليس بالصورة الجنسية الهابطة. والمشكلة تكمن، أولاً وآخراً في أن أسامة المعشوق لم يفهمه على صورة هذا السمو في العشق، بل فهمه على صورة هبوط الى الجنسي، اليومي والشبيه بالاتصال بين الرجل والمرأة، لذا حدث هذا الصدام بين المفهومين، لأن أسامة لم يرتق بهذا العشق الى الموقع الذي بلغه زين العابدين، وليس مسموحاً له، لا من حيث الواقع المرئي في تلك الظروف، ولا من حيث الأداء الكتابي، أن يرتقي، وإلا لفقدت هذه العلاقة جبروتها الفني الذي سعى الروائي رفاعية الى تكريسه، ولكانت أقرب الى قص عن تبادل هابط بين ذكر وذكر، ولأدت الى تخريب العالم الذي بناه الروائي عن فترة ماضية، كان يوجد فيها شخصيات غرائبية، ليس أغربها على الإطلاق رجل يجد أن صورة وجه الفتى، هي صورة الوجه الإنساني الجميل، وهو العالم الذي يتمنى الوصول اليه. يهمني، بعد هذا العرض، لقراءتي للشخصيتين المحورين في "أسرار النرجس" أن أعود الى نقطة البداية، فهذا الهاجس الذي ركب ياسين رفاعية بشيطنة، وقاده الى هذه الكتابة عن هذه العلاقة، هو هاجس فني بالغ الأهمية والتعقيد، لأن الروائي لم يرد أن يقص سيرة اثنين ذكرين، يحب أحدهما الآخر، وينزل بهذه السيرة الى حضيض الوقائع التي يفترض بطلاب هذا اللون من القراءة، أن يروه، وإنما أراد أن يعلو ويسمو، مستخدماً براعته الكتابية ليصف علاقة تجاوزت الدنس الأرضي. وبهذا الشكل أحب أن إمتدح الناشر الذي فهم الرواية من هذا المنطلق، ولو كان فهمها الفهم النقيض لشعر بأنه ينشر رواية جنسية عن علاقة شاذة. وأحب أن أمتدح الروائي نفسه الذي استطاع أن يوصلني، أنا كقارىء لبيب، الى قناعة بأن علاقة بين ذكر وآخر، قد تمت في ظرف ما وفي مكان ما، تحت تأثير عشق مثالي للبشر، وتحت تأثير حب الجمال، المتنزّه عن الهبوط والدونية والعلاقة الشاذة التي صارت في آخر القرن العشرين لوناً مألوفاً في العلاقات الإنسانية... للإسف. أشد على يد ياسين، الصديق العزيز، الذي أفرحني جداً بأن مستوى كتاباته قد بلغت هذه الآفاق العليا من الأداء القصصي الجميل. وإذا كنتُ قد اقتصرت في تثمين الرواية على هذا الخط الأحادي بين خطوطها الكثيرة والمتشابكة لمياء ونبيل وتعرّف الثاني على الجسد النسائي عن طريق الأولى التي تكبره، والأستاذ كامل، وأبو عرب ومصطفى بك وزواج لمياء من فتى مخنث... الخ فلأنني رأيت في هذا الخط نبرة روائية عالية القيمة، استطاع ياسين رفاعية، أن يكون فيها وبها واحداً من روائيي الوطن العربي الكبار.