يكاد حسن سامي يوسف يكرّس جهده الروائي كله لمسألة العلاقة بين الرجل والمرأة في حالاتها الأصعب والأشد قسوة، حيث يجد العاشقان نفسيهما أمام ضرورة الافتراق النهائي تحت وطأة ظروف تختلف وتتباين من رواية الى أخرى، ولكنها تنحصر غالباً في خروج أحدهما عن ميثاق الحب، بما يرتّبه على العلاقة من مسارات. إنها روايات تطفح من حوّافها الهواجس الفردية... وتقطر من سطورها قسوة الشك الذي لا يقدر أن يدمّر الحب، ولكنه - مع ذلك - يتركه أشبه بحب مستحيل، يجدر أن يكون ذكرى حب، أو إذا شئنا الدقة حكاية حب يمكن للكاتب صياغتها بين دفتي كتاب، لعل هذه المقدمة تأتينا من تذكّر روايته الطويلة والجميلة "رسالة الى فاطمة" والتي منحها الكاتب صفة واقعية صرفة، حين أصرّ على أن يمنح الأبطال، أسماءهم الحقيقية، والتي هي في بعضها - بمن فيهم الكاتب - أسماء شخصيات عامة نعرفها، ونلتقيها في الوسط الثقافي السوري كل يوم. ها هو حسن سامي يوسف، وفي روايته الأحدث "فتاة القمر" يعود الى موضوعته الأثيرة: العلاقة الملتبسة بين عاشقين يبحثان عبثاً عما يمكن أن يصل بينهما ولكن من دون جدوى. إنها حكاية رجل يكتشف أن زوجته التي عاش معها قصة حب طويلة قد خانته مع أحد زملائها في العمل، والمشكلة هي أنها تحبه فعلاً، وهو كذلك يبادلها الحب ذاته. إنه يعرف أن عليه الافتراق عن تلك المرأة، ويعرف في الوقت ذاته أن روحيهما لن تفترقا، بالرغم من الحادثة المريعة التي تقف بينهما. رواية تشبه أن تكون قصيدة شجن طويلة، يروي الكاتب خلالها استرجاعاً متصلاً لتفاصيل كثيرة، دقيقة وشعورية، لعالم من الحب الجميل الذي يعيشه "أسعد" العاشق مع زوجته "عزّة"، التي تصغره بأكثر من عشرين عاماً... حب استمر أكثر من أربع عشرة سنة طويلة، هل يكتب حسن سامي يوسف حكاية من حياة الناس العاديين؟ أعتقد أن الكاتب إذ يقدم حكايته هذه في تجليات دقائقها الصغيرة، إنما يشير الى طبيعة الناس الذين يمكن لهم أن يعيشوا الحب بهذه الدرجة من الرهافة والحساسية، وسيكون من المنطقي تماماً أن يكون بطل "فتاة القمر" كاتباً روائياً، يعيد قراءة ما يراه على شاشة وعيه بصورة مغايرة، ترى كل شيء بعين أكثر تفحصاً وأشدّ ادراكاً، انها روح الفنان في بحثها عن النقاء المطلق الذي يمكنه وحده أن يكون رابطاً حقيقياً لا ينفصم بين البشر في حمى علاقاتهم العاطفية المتشابكة، وكأن الكاتب أراد في هذه الرواية اعادة تأكيد المقولة المعروفة عن حساسية الكاتب والفنان، بل أن يرى هذه المقولة في تجلياتها الواقعية في أرضٍ اجتماعية تذهب أكثر فأكثر نحو كل ما هو مادي - استهلاكي، طابعه الأساس اللهاث والتبدل، فيما تفترض حالة الحب "الثبات"، كما تصرخ "عزّة" في ثنايا الرواية أكثر من مرّة. ولأن الحب الشائك والملتبس، بل العسير وشبه المحرّم هو الموضوعة المركزية التي تقوم عليها رواية "فتاة القمر"، فإننا نجد أحداث الرواية تجري في ما يشبه سرداً لحواريات أو استرجاعات ذاكرة، ولكنها في الحالتين تجري بعيداً عن أية وشائج اجتماعية. بطلا "فتاة القمر" يعيشان قصة حبهما في المساحة الضيقة لحركتهما اليومية الخاصة، بعيداً عن عالم المجتمع وفورانه وتعقيداته، ولهذا السبب نجد أن رواية "فتاة القمر" هي رواية شخصيتين رئيستين، وان كنا نجد الى جانبهما أسماء شخصيات أخرى تتضاءل أدوارها خلال الحدث الروائي الى حدود قصوى فتبدو أقرب الى الكومبارس. تقوم بنائية "فتاة القمر" على سردية استرجاعية تقترب كثيراً من أسلوب المذكرات، حيث يقدم بطل الرواية "أسعد" حكاية حبه ومن ثمّ فراقه مع حبيبته "عزّة" والإطار الذي يتحرك فيه في لغة سردية، بسيطة، تخلو من أي تعقيد أو تركيبية، والكاتب خلال صفحات الرواية كلها يحرص كثيراً على تقديم الهاجس والتأملات أكثر من اعتنائه بالحدث، بل لعل الحدث نفسه يجيء في الرواية من أجل أن يقوم الكاتب بتجزئته وتشريحه، وتقديمه الى ما يشبه المجهر، فيعيد تقديمه من جديد، وهو بذلك ينجح في تقديم رواية ذات علاقة وطيدة بالمشاعر الداخلية، رواية تزدحم في سطورها الأحلام والأوهام بالحقائق والسرد الوصفي، فيما المكان بكل واقعيته وبكل أسمائه الحقيقية لا يعدو أن يكون مساحة جغرافية للحظات عشق مرهف يعيشه رجل وامرأة. أجمل ما في رواية حسن سامي يوسف "فتاة القمر"، ذلك الانسياب الذي تترى خلاله سطور الرواية ومن ثمّ أحداثها، وجرأة الكاتب على تقديم الجانب الآخر من حالات العشق، ذلك الذي اعتاد كتاب الروايات العرب على إخفائه، ونجده هنا لا يقع في الضوء فحسب، بل هو في بؤرة الضوء أو بكلام أدق في بؤرة الرواية وأحداثها. حسن سامي يوسف أراد في هذه الرواية الصغيرة أن يقول في صورة غير مباشرة أن الخيانة الزوجية، بكل بشاعتها، هي في نهاية المطاف فعل تحتمله ظروف الحياة الراهنة وتعقيداتها أو هي إذا شئنا الاستعانة بلغة بطلة الرواية، ليست خيانة إلا إذا صدرت من العقل، أي بتعميم مسبق. مقولة لا نوافق عليها بالتأكيد، بل أن بطل الرواية ذاته لم يستطع أن يوافق عليها، وربما لهذا السبب ذهب في سبيله بعيداً عن حبيبة عمره، التي ارتكبت فعل الخيانة وظلت تتمسك بالحب. "فتاة القمر" تجربة روائية تستحق التحية، لكاتب مارس الكتابة الروائية طويلاً فقدم خمس روايات قبل ذلك، الى جانب كتابته سيناريوهات عدد كبير من أهم الأفلام السورية، وعدد من المسلسلات التلفزيونية السورية، وهو ما نجد بصماته واضحة في أسلوب ومشهدية هذه الرواية التي يخرج منها القارىء بحزن شفيف لعلّه حزن الفن الجميل وهو يرى قبح الواقع.