التمرد خاصة أساسية من الخصائص المميزة للإنسان المثقف الذي يأخذ الأمور مأخذ الجد، وينظر الى المجتمع بنظمه وثقافته وتقاليده واحداثه، بل وشخوصه، نظرة ناقدة تنطلق من موقف عقلاني يُخضع الأمور لمقاييس ومعايير دقيقة وصارمة يعتبرها الآخرون مثالية يصعب تحقيقها في عالم الواقع الذي يقوم الى حد كبير على تبادل المصالح وعلى الزيف والغش والخداع، وتمرد المثقفين على الاوضاع السائدة في المجتمع يصدر عن رفض الواقع الذي يحيط بهم، والتعبير عن ذلك الرفض بقوة وصراحة كثيراً ما تثير انزعاج المسؤولين والمدافعين عن قيام هذا الواقع واستمراره على رغم انه يمثل حالة التوازن المثالي الذي امكن تحقيقه خلال تجارب عصور التاريخ. وقد يتميز المثقف عن الاكاديمي والاخصائي باتساع الافق وشمولية النظرة والاحاطة باحداث المجتمع والعالم والقدرة على المشاركة الايجابية في الحياة، على الاقل من خلال التفكير العميق والدراسة والتحليل والتقييم وابداء الرأي، حتى وإن لم يكن يملك صلاحية اتخاذ القرار. والاستثناء الوحيد من ذلك هم تلك الفئة من المثقفين الذين اتاحت لهم ظروفهم العمل في بعض الاجهزة الحكومية الرسمية تحدوهم الرغبة في تنفيذ بعض ما يدور في اذهانهم من افكار، ولكنهم لا يسلمون مع ذلك من التعرض للنقد والهجوم والتشكك في مدى ايمانهم واخلاصهم لرسالة المثقف في المجتمع، وهي الرسالة التي تتطلب الاهتمام بالدراسة والفحص والنقد والرفض اذا لزم الامر. وليس للمثقفين في أي مجتمع تنظيم واحد متكامل يضمهم جميعا على اختلاف توجهاتهم الفكرية ويتكلم باسمهم كجماعة منظمة ومتماسكة، كما انهم ليست لهم نقابة او اتحاد يدافع عن حقوقهم ويعرض وجهات نظرهم ازاء الآخرين وبالذات ازاء السلطة الحاكمة والجماعات المحافظة التي تتمتع بقدر كبير من التنظيم والقدرة على اثارة المشاعر والتهييج والافتئات على الغير بغير الحق. ورغم ذلك فإن آراء المثقفين تسبب كثيرا من الضيق والحرج والانزعاج لهذه السلطات والجماعات مع ان سلاحهم الوحيد في المواجهة او حق المجابهة لا يتجاوز في الأغلب الكلمة والصورة، أي التعبير الابداعي بالكلمة المنظومة او المكتوبة او المرئية التي تتخذ احيانا شكل التعبير الكاريكاتيري الساخر. ومن الطبيعي أن تتصدى هذه الهيئات والجماعات والتنظيمات للآراء التي تدعو الى اعادة النظر في ما يعتبره المحافظون من الثوابت الراسخة التي ينبغي المحافظة عليها وعدم الاقتراب منها بالتغيير والتجديد، وقد تلجأ الى اساليب لا تخلو من الضعف لردع المثقفين وترويضهم وصرفهم عن التمسك بتلك الآراء التي يعتبرها المحافظون خروجا على المألوف الموروث وتهديداً للتوازن الاجتماعي وتتراوح هذه الاساليب بين مصادرة الرأي ومنع النشر والحجر على التداول الى المحاربة في الرزق والفصل من العمل الى رفع الامر الى القضاء بتهمة تهديد نظام الدولة واحتمال اصدار الحكم بالسجن. بل وقد وصل الامر الى حد الاغتيال كما حدث في بعض البلاد العربية فعلاً، واستصدار احكام بما يمكن اعتباره اغتيالاً معنويا وادبيا عن طريق توجيه الاتهام بالمروق والخروج على احكام الدين مثلما حدث في مصر بالنسبة لنصر حامد ابو زيد او ما يحدث الآن في الكويت بالنسبة لاحمد البغدادي وزملائه أو ما يحدث في لبنان بالنسبة لمارسيل خليفة، وهي كلها اجراءات تخرج عن اصول اللعبة وقواعدها التي تقتضي مواجهة الرأي بالرأي. والواقع أن النظرة المتشككة او حتى المعادية للمثقفين والدور الذي يقومون به في توجيه الناس لرفض نزعات الاستقرار والرضا بالامر الواقع والاستسلام لما تقضي به القوى المسيطرة في المجتمع مسألة تتجاوز حدود العالم العربي إلى المجتمعات المتقدمة ذاتها في اوروبا واميركا، فالقوى المسيطرة هناك تنظر الى المثقفين على انهم اعداء للنظام وللتقاليد والقيم الراسخة المستقرة، وان كانت مجتمعات الغرب لا تلجأ الى اساليب القمع نفسها والتي تسود في العالم العربي ومجتمعات العالم الثالث، وذلك نظرا لايمان الغرب عموما بالديموقراطية وحق التفكير وحرية التعبير عن الرأي. ومع ذلك كانت هناك حالات استثنائية صارخة في اميركا ذاتها كما حدث للمثقفين تحت سطوة المكارثية، فبعض رؤساء الولاياتالمتحدة لم يكونوا يخفون ضيقهم بالمثقفين الذين يمثلون ثقافة معادية او ثقافة مناوئة كما تعارف عليه المجتمع واصبح نظاما ثابتا ومستقرا. وكثيراِ ما كان الرئيس وودرو ويلسون مثلا يجأر بالشكوى من تذمر وتمرد وانتقادات المثقفين على ايامه، وكان يقارن في ذلك بين الذين يعملون والذين يكتبون ويقف في صف الفريق الاول لانهم هم الذين يقومون فعلا بالعمل والتنفيذ والانجاز ولا يقنعون بالتفكير النظري والكتابة والنقد، ومنذ قرنين حوالي عام 1798 كان الرئيس الاميركي جون آدامز يرى أن دور المثقفين ينحصر في اثارة الشغب والاضطراب والخلل والتفكك في العالم ويوصي بضرورة وضعهم تحت السيطرة لانهم لا يستطيعون بحكم تكوينهم الذهني المتوافق مع النظام الاجتماعي، كذلك كان الرئيس هريري هوفي في العشرينات من هذا القرن يشكو من اتجاهات المثقفين المتمردة ويصفها بأنها اتجاهات يسارية خطيرة، ولم يكن المثقفون يخضعون في المقابل عدم رضاهم عن سياسات وافكار واتجاهات بل وانجازات رؤساء الولاياتالمتحدة المتعاقبين، بما في ذلك جون كينيدي. ومع ذلك فإن رجال السياسة والحكم في الغرب كانوا يرون دائما انه ليس ثمة بُد من التعاون - او على الاقل التسامح - على الكُره - مع المثقفين لان الوقوف منهم موقف العداء الصريح السافر يعني الحجر على الرأي وبالتالي الخروج على مبادئ الديموقراطية والانزلاق نحو التسلط والديكتاتورية وعبارة الرئيس ويلسون تذكرنا بكلمة الافندية التي كان الرئيس السادات يصف بها المثقفين المصريين حين اشتد الصراع بينه وبينهم وانتهى الامر بوضع مئات عدة منهم في السجن، وكان ذلك مؤشراً على انهيار السادات نفسه امام قوة المثقفين، رغم انه كان هو صاحب القرار النهائي. وتمرد المثقفين على الاوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية يكشف عن عمق الوعي والادراك بما يدور حولهم وتفاعلهم مع قضايا المجتمع وانهم لا يعيشون على هامش الاحداث كما يتصور البعض. فالتمرد والنقد والاعتراض تعبر كلها عن مواقف هادفة وعقلانية لا تأخذ الامور بظواهرها ولا تقنع بالتفسيرات والتبريرات السطحية، وانما تلجأ الى الفحص والتفنيد والدحض باعتبارها - حسب رأي الفيلسوف البريطاني كارل بوير - الأدوات التي تكفل الوصول الى الحقيقة والصدق. كذلك تهدف هذه المواقف العقلانية الى إلقاء اضواء جديدة تعكس فهما جديدا لقضايا المجتمع يختلف عن الفهم السائد الذي يرى المحافظون انه ليس ثمة ما يبرر اعادة النظر فيه رغم انه لم يعد يساير احداث وتغيرات العصر ولا يتفق مع متطلباته، وبينما يدافع هؤلاء المحافظون عن الامر الواقع ويتمسكون بالقديم الراسخ الثابت باعتبارهم هم حراس المجتمع الذين يحافظون على قيمه وتراثه وتقاليده، يتمرد المثقفون على هذه الاوضاع ذاتها ويرون باعتبارهم هم ضمير المجتمع الحي ضرورة تطوير الفكر وتغيير النظرة واعادة قراءة الماضي والتاريخ في ضوء المتغيرات المعاصرة حتى يواصل المجتمع تقدمه ويرتبط ارتباطا وثيقا بمسيرة الحضارة الانسانية. وأياً كانت الوسائل التي يلجأ اليها حراس المجتمع لصد هجمات المثقفين الفكرية وترويضهم واخضاعهم لواقع الامر، فان تأثير المثقفين المجددين يلقى دائما كثيرا من القبول في قطاعات عدة من المجتمع يزداد عددها ومدى اتساعها بمرور الوقت وهو ما يؤرق هؤلاء الحراس ويدفعهم الى مزيد من التمرد والدعوة الى التغيير والتجديد كما يؤدي الى مزيد من التعاطف مع المثقفين ومزيد من انتشار الافكار التي يدعون اليها، فالتشدد والتزمت والجمود والخروج على المألوف في التعامل مع المجددين تثيرالنفور في النفوس وتدعو الى التعاطف مع الجانب الذي لا يملك من وسائل الدفاع والتعبير عن موقفه سوى الكلمة وإن كانت الكلمة في الواقع أحد من السيف. والتجاء القوي المحافظة الى العنف فيه اعتراف بالعجز والضعف والهزيمة امام قوة العقل، وقد يكون في هذا بعض العزاء للمثقفين. * انثروبولوجي مصري.