يستبيح بعض العرب المولعين بالكتابة الصحافية شؤون السودان ذريعة للتعبير عما في صدورهم حول ما يدور في بلادهم من غرائب سياسية واجتماعية عاجزين عن تناولها لأن ايادي قوية قد تطاولهم حيثما كانوا في مهاجرهم. واختار بعضهم ان يسقط في وحل اتهامات كوكس لعرب ومستعربي شمال السودان بأنهم يسترقون أفارقة جنوب السودان. ورأيت ان أتناول هذا الموضوع بما يجلي حقائقه ووقائعه - باختصار - دفاعاً عن أهلي في شمال السودان الذين أصبحوا محل اتهام ظالم وبهتان دعائي سياسي، تاركاً الأنظمة السياسية الفائتة والقائمة منها لتدافع عن نفسها وحدها وتفصح عن وجهة نظرها في ما يدور من اتهامات وقرنتها بهذه القضية ذات الأبعاد الدولية. أما الكاتب العفيف الاخضر التونسي نشرت مقالته عن الرق في السودان في 26/10/1999 فعليه قبل ان يردد أقوال البارونة كوكس ان يعتذر للأفارقة. ولا تتضح معالم خور الاتهامات التي تلقى جزافاً حول استرقاق عرب ومستعربي شمال السودان للأفارقة السودانيين إلا بالعودة لجذور العلاقة بين الطرفين. ولا نريد الخوض في الجذور القديمة التي تمتد الى أبعد من ثلاثة آلاف عام، ولكن نقتصر على ما تم من هجرة عربية الى "كوش" في بلاد السودان، بعد ظهور الاسلام. خرجت من جزيرة العرب - بعد الإسلام - أفواج تلو الأفواج من قحطان وعدنان فاتحين أو مبلغين أو طالبين الكلأ والماء لأنعامهم أو عارضين تجارتهم أو هاربين من استبداد أمرائهم. وفي كل الحالات كانت بلاد افريقيا شمالاً وغرباً وشرقاً ووسطاً وجهتهم.. وكانت "كوش" - سودان اليوم - احدى بواباتهم الرئيسية لمقاصدهم. ودخل العرب بلاد كوش من أربع طرق خلال القرون التسعة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة. وهي البوابة الشمالية عبر الحدود المصرية، وبوابة باب المندب، وعبر وسط البحر الأحمر، ومن الشمال الافريقي الى وسط افريقيا عبر الصحراء الكبرى... بدأ الدخول من البوابة الشمالية المصرية في العام 23 هجري حين أرسل أمير مصر عبدالله بن أبي السرح جيوشه لقتال أهل مملكة المقرة المسيحية وفتح الطريق لأفواج القبائل العربية، وانتهى القتال الى اتفاق سلام وتبادل مصالح عرف في التاريخ الاسلامي باتفاقية "البغط". وانهزم عبدالله وعبيد الله في عام 132ه وهما ابنا الخليفة الأموي - مروان بن محمد - أمام أنصار الثورة العباسية فدخلا المقرة مع أربعة آلاف من الرجال غير نسائهم وأتباعهم وأطفالهم، فدفعهم ملك المقرة جنوباً الى وسط السودان راجع كتاب "الأغاني" لأبن فرج الأصفهاني. وظلت الأفواج العربية تتتابع ودولة المقرة المسيحية توقف زحفها الى ان قلب سلطان المماليك في مصر السلطة في المقرة وسلمها لملك من الجناح المسلم في الأسرة المالكة في القرن الرابع عشر. وفتح هذا الملك الباب واسعاً لأفواج القبائل العربية. وتتابعت أفواج أخرى عبر وسط البحر الأحمر كلما اشتد الصراع حول السلطة في الجزيرة والعراق والشام بانعامها ونسائها وأطفالها منذ الخلافات بين بني طالب وبني أمية الى غزو التتار للامبراطورية العباسية، وكان آخر الأفواج عبوراً لهذا الممر هو فوج عشيرة الرشايدة في القرن الثامن عشر. ودخلت أفواج من اليمن الى السهول الاثيوبية عبر باب المندب فدفعتها دولة اكسوم المسيحية الى سهول وسط السودان بالإغراءات وبالقوة. أما الناحية الغربية فكانت آخر البوابات حين اقتحمتها أفواج عربية من بني ربيعة وبني هلال وعشائر مغربية، أغلبها اضطر للتوجه الى وسط افريقيا بعد سقوط الاندلس في يد الفرنجة وطرد العرب منها مما أدى الى تضخم سكاني. وجميع العرب الذين دخلوا عبر البحر الأحمر أو عبر الصحراء الغربية منعتهم دولة علوة المسيحية في وسط السودان من الانتشار في السهول والمراعي الوسطى والغربية حتى أول القرن السادس عشر الميلادي. وتحالفت تجمعات القبائل العربية تحت لواء الشيخ عبدالله جماع شيخ قبيلة القواسمه العربية في عام 1505 ميلادي. وعقد هذا الحلف حلفاً آخر مع عشائر افريقية اسلمت واستعربت عبر القرون الماضية واسقطوا كل الجيوب المسيحية في المقرة شمالاً وعلوة وسطاً وممالك اخرى في وسط وغرب السودان. وتأسس نظام حكم عربي اسلامي قام على ثلاث دويلات: سلطنة الفونج في الوسط ومملكة تقلي في جبال النوبة في وسط الغرب وسلطنة دارفور في الغرب الأقصى، وانفتح الطريق لانتشار القبائل العربية والاسلام في شمال السودان. وتحرك العرب بأنعامهم الى المراعي الواسعة في شبه الصحراء وفي السفناء الى بحر العرب وبحر الغزال فرعي النيل الأبيض على حافة الغابات الاستوائية حيث تقهقرت القبائل الرعوية الافريقية. ولما كانت حاجة القبائل العربية تقتضي الظعن صيفاً الى موارد المياه في أقصى الجنوب عند بحري العرب والغزال والرجوع شتاء الى السفناء وشبه الصحراء، لزمهم تسوية العلاقات بينهم وبين العشائر الافريقية على طول خط سير ظعائنهم الى موارد الماء والكلأ. وأدى احتياج العشائر العربية الى ممرات آمنة لوصول "ظعائنها" أو "مراحيلها". حسب المصطلح العربي السوداني، الى موارد الماء الواقعة تحت سيطرة العشائر الافريقية الى نسج اتفاقات معها، تعاهدوا عرباً وأفارقة على الوقوف عندها وهي تعرف الآن في الأدب العشائري السوداني بالأعراف... ويحتكمون لهذه الأعراف كلما نشب خلاف بين عشيرة وأخرى أو جملة عشائر، وتعقد اجتماعات لمشائخ القبائل العربية والافريقية في منطقة معروفة تسمى بحيرة الأبْيَض أو تردة شركيلا، في مؤتمر سنوي تفض فيه المنازعات وتُتبادل فيه الديات ويقدم كل طرف قوائم بما لديه من اسرى ورهائن من الشباب والنساء والاطفال ليعرف ذووهم أماكنهم والقيام باستلامهم بشهادة شهود - مراقبين - من زعماء الطرفين. وأهم معالم هذه الأعراف التي لو عرفها كُتاب اليوم لأراحونا من هذا الوهم الكاذب بأن في السودان رقاً أو عودة للرق... هي: * ألا يغدر أي من الطرفين ظعائن وأموال الطرف الآخر. * ان ترعى العشائر الافريقية مزارع الطرف العربي في أرضها وتحصدها وتخزنها ولها نسبة متفق عليها من حصادها تأخذها لو أرادت قبل عودة صاحب الحق العربي. * ان تعول العشائر العربية صغار ابناء وبنات العشائر الافريقية في حالات المجاعة أو أي سبب آخر للاعسار كأمانة أو للعمل رعاة، الى ان تتحسن أحوال ذويهم ولهم نصيب معين في نتاج الماشية التي يكلفون بالإشراف عليها. وهو يحسب بالاغنام في الاغنام وبالعجول في البقر.... وبالعجز والاغنام مقابل الإبل في مناطق ظعائن الإبل. * إذا وقع شجار أدى الى موت بين المتشاجرين ينهض عقلاء الطرفين لوقفه حتى لا يتوسع ويُحصى القتلى وأنواع الجراح وما فُقد من ماشية أو حرق من زراعة ليُطرح الأمر على مؤتمر زعماء الطرفين السنوي. ولا تتدخل الشرطة أو الحكومة إلا إذا أفلت زمام الأمر من يد عقلاء الطرفين. * كل الخلافات العشائرية تطرح على اجتماع زعماء الطرفين السنوي وتلتزم أطراف الخلاف الأدب، وضبط النفس الى ان يقول الزعماء كلمتهم... وهي نهائية يقبلها الجميع ويدفعون ثمنها من اعتذارات وديات وإعادة تسليم ما في أيديهم من أسرى أو أموال انتزعت من أصحابها ساعة استعار الخلاف. ومن الطبيعي ان يحاول كل طرف من أطراف النزاع الحصول على أكبر قدر ممكن من الأسرى والماشية الى ان يجتمع العقلاء. * من العيب الذي لا يغفر الاعتداء على النساء المتزوجات أو العذارى، وأي رغبة في الزواج تحقق بعد التصالح برضى أولياء الأمر والوالدين. هذا الحلف العشائري يعد من أقدم التحالفات العشائرية بين عرب وأفارقة السودان أذ انه تبلور من أعراف بدائية هنا وهناك في أول القرن السادس عشر الميلادي حين تمكن العرب من اختراق وسط السودان الى السهول الغربية وحتى اكتاف النهيرات التي تغذي النيل الأبيض أحد فرعي نهر النيل العظيم. ومن أبرز الأدلة على بعد عمق هذه العلاقة بين العرب والأفارقة ان المكتشفين الذين جاؤوا في القرن السابع والثامن عشر الميلادي وجدوا تلك النهيرات معروفة باسماء عربية منها: بحر الجبل وبحر العرب وبحر الغزال وبحر الزراف.... الى أخر ذلك من الاسماء العربية التي قرنت بالظواهر الجغرافية أو الغلبة الحيوانية في ذلك المكان المعين الذي ينساب فيه ذلك النهر. وظل هذا العرف سارياً منذ ذلك التاريخ والى اليوم ولم تتدخل السلطات الاجنبية الحاكمة العثمانية أو الثنائية المصرية - البريطانية أو الحكومات الوطنية المستقلة المتعاقبة لتغييره بل اعتمده الجميع اساساً لحفظ أمن المنطقة التي تتماسّ فيها مصالح هذه العشائر. من أين أطلت مسألة الرق؟ أطلت مسألة الرق بفعل تدخلات اجنبية كانت لها مصالح في هذه القضية واتخذت اشكالاً مختلفة منها: * الطلب الخديوي للرقيق: اسقط محمد علي باشا دويلات السودان العربية الاسلامية في عام 1820 وألح على الحكام الذين عينهم ان يزودوه بالذهب والعبيد من السودان... وأسست السلطة الخديوية شركة العقاد التي كانت تدير أكبر شبكة من العملاء لاصطياد الأفارقة وترحيلهم الى مصر ليدربوا في معسكرات جيش الخديوي على خدمته العسكرية. وسقط في هذه التجربة عنصران افريقي وعربي: اما الافريقي فهو السلطان موبوي زعيم قبيلة الزاندي الاستوائية الذي باع لعملاء شركة العقاد أطفال ونساء وشباب خصومه من عشائر الزاندي وغيرها من العشائر الاستوائية. اما العنصر العربي فهو الزبير باشا الذي ينسب الى العرب العدنانية القاطنة في ضفاف النيل والتي ليست لها مصالح حيوية مع العشائر الافريقية البدوية. ويكفي من نيله لقب الباشوية انه قدم ما فيه الكفاية لخدمة الأهداف الخديوية وزرائب جمع الرقيق وترحيله الى المحروسة. * نابليون يطلب عبيداً من سلطان دارفور: وكتب نابليون الى السلطان عبدالرحمن الرشيد سلطان دارفور مثنيا على حسن ادارة سلطنته وقوتها العسكرية المؤسسة على عبيد أشداء وطلب منه ان يزوده بألفي عبد يستعين بهم في مهمات خاصة. ولا ندري ما تم في شأن هذا الطلب لكن الوثائق التاريخية تثبت ان مستعبدين سودانيين اشتركوا في حرب القرم مع العسكر العثمانية وآخرين اشتركوا مع القوات الفرنسية في حرب المكسيك راجع تاريخ الأورطة السودانية في المكسيك وقد عاد هؤلاء أو بعضهم للسودان أحراراً ولهم أحفاد يعيشون الآن في شمال السودان. * الكنائس المسيحية وعقدة الرق: وجاءت الكنائس المسيحية للتبشير بين أفارقة السودان والتقطت الممارسة الاسترقاقية الخديوية لتدمغ بها عموم عرب السودان ومستعربيه كمدخل عاطفي لها الى نفوس الأجيال الجديدة. ونشرت معلومات كثيرة كاذبة ومضللة في هذا الصدد على رأسها قدّم العربي وهو يلبس العقال على رأسه ويمتطي جمله وخلفه عشرات الأفارقة مقرنين في الاصفاد والجنازير يسوقهم لأسواق الرقيق في الشمال. ومضت الكنائس تنشر سجلاً مكتوباً وشفوياً للاسترقاق الذي مارسه العرب في السودان للافارقة وكله كذب وادعاءات. وكان لها دور تحريف مهم في شؤون السودان السياسية وأزمته الحالية بين الجنوب والشمال. وجاءت الادارات الاميركية، خصوصاً الإدارة الأخيرة باستراتيجية استجداء عواطف الاميركيين السود بأن الحزب الديموقراطي يعمل لمحو آثار العبودية داخل وخارج اميركا، ويتخذ من الادعاءات على شعب شمال السودان تكأة لإثبات جهوده في هذا الشأن. وهي استراتيجية غير عادلة تستغل شؤون الضعفاء لزيادة عملقة العمالقة الدوليين. وقام الدكتور جون قرنق قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان باستغلال هذا الوضع الزائف لاستقطاب الرأي العام الكنسي والرأي العام السياسي الأوروبي والاميركي. ودعاه هذا الاستقطاب الى نفخ بالون الاسترقاق العربي لأفارقة السودان الى هذا المستوى الذي نراه في وسائل الاعلام وأروقة اجتماعات المنظمات الاقليمية والدولية، بل تعدى ذلك الى افتعال أحداث يثبت بها حجة هذه الادعاءات ومنها: * قامت قوات جون قرنق باختطاف عشرين ألف طفل من العشائر الجنوبية المختلفة ودُرّب بعضهم للقتال في صفوف قواته وجُعل بعضهم حمالين للذخائر وأمتعة المعسكرات، وجعل بعضهم أدوات بشرية لاختبار المواقع المتهمة بالألغام الأرضية، وأثار ضجة كبرى بأن العرب في شمال السودان والمراحيل الظعائن على الأخص هم الذين يقومون باختطاف الاطفال الى ان خرج عليه أحد الضباط الذين كلفهم بأمر هؤلاء الاطفال وأعلن الحقيقة ما أدى لقيام حملة سودانية متعاونة مع بعض الجمعيات الاغاثية الاجنبية لتحديد معسكراتهم فهربهم جون قرنق الى الحدود الكينية، ومن هناك وجد بعض هؤلاء الاطفال طريقهم الى لوشوكو داخل كينيا وما يزالون هناك تحت استضافة بعض المنظمات الخيرية راجع تقرير افريكا ووتش لسنة 1995. ومما تكشف من أمر هؤلاء الاطفال ان ستمئة منهم كانوا على ظهر سفينة في طريقها الى كوبا لتدريبهم على قتال الميليشيات قبيل سقوط نظام مانغستو ماريام الذي ساعد في الترتيب لتوصيلهم الى كوبا، لكن قائد السفينة وقد وخزه ضميره جنح بها الى سواحل احدى دول البحر الأحمر وكانت فضيحة كبرى للسلطات الكوبية والاثيوبية آنذاك. * وقام جيش جون قرنق الشعبي بسلسلة هجمات بالأسلحة الاتوماتيكية على ظعائن عربية كانت تتخذ مسارها الطبيعي الى موارد المياه كما اعتادت عليه لأكثر من خمسة قرون. كان الهجوم الأول في تموز يوليو 1985 واسفر عن سقوط 60 قتيلاً و82 جريحاً وأسر عشرات النساء والاطفال ومصادرة مئات رؤوس الماشية. وتداعت العشائر العربية لنصرة هذه الجماعة المغدورة بأسلحتهم التقليدية من رماح وسيوف وأسلحة نارية عتيقة. وإذا بالجيش الشعبي يفاجئهم بهجوم آخر أدى لسقوط مئة قتيل وجرح وأسر عشرات الشباب والنساء والاطفال. وتوالت الاعتداءات على مسارات الظعائن وهي في طريقها الى مصادر المياه وليس لها بدائل في الناحية الغربية وفي منطقة عرب الصبحة الوسطى على خط النيل الأزرق أو تهلك ماشيتها. وأدت هذه الاعتداءات الى هياج الرأي العام الشمالي فتجمعت وفود قبلية في العاصمة طالبة من حكومة البلاد ان تعالج الموقف قبل ان يتحول الى صراع عرقي بين العرب والأفارقة. وقرر رئيس الوزراء الصادق المهدي وكان هو نفسه يتولى حقيبة الدفاع ان يسلح المراحيل الظعائن بأسلحة اوتوماتيكية خفيفة للدفاع عن أطفالها ونسائها وأموالها وكان رداً حاسماً أوقف اعتداءات جيش جون قرنق الشعبي ولولا ذلك لتمادى فيها. * وقامت منظمة التضامن المسيحي - أخيراً - بترتيبات شراء المستعبدين المزعومين من أبناء الجنوب لدى عرب الشمال ورأينا على شاشات الCNN في الاسبوع الأخير من شهر تشرين الأول اكتوبر الماضي استعراضاً لتجار العبيد وهم يتسلمون آلاف الدولارات من البارونة كوكس ومندوبيها مقابل اطلاق سراح مئات المسترقين وهم جلوس يراقبون مفاوضات تسريحهم من العبودية نساء أو أطفالا... وأين تم هذا؟ * تم في الأرض الجنوبية التي يسيطر عليها جون قرنق. * والتجار المزعومون عبارة عن جنوبيين ملثمين. * وجموع المسترقين جالسة في أرض يُدّعى انها حررت من الشماليين. كيف جاؤوا؟ وكيف تخلصوا من الذين ملكوهم؟ ولماذا تدفع تلك الدولارات، وقد حرر أولئك العبيد ووصلوا الى أرض محررة تدافع عنها قوات الجيش الشعبي بقيادة جون قرنق؟ إنها أسئلة لا إجابات لها! إنها مسرحية تثير الرثاء على المستوى الذي بلغته الدعايات والإثارات السياسية. * وجاء الرد الحاسم على هذا التلاعب الفج من مجلس الاممالمتحدة الاقتصادي والاجتماعي بإدانة منظمة التضامن المسيحي الدولي واسقاط التعاون معها في بيان صدر في جنيف يوم 27 تشرين الأول اكتوبر 1999 وسُحبت منها الصفة الاستشارية التي كانت تنظم علاقتها مع المجلس... وقد زعمت انها اشترت وحررت 15447 عبداً من أسيادهم العرب الشماليين مقابل خمسين الى ثمانين دولاراً لكل امرأة وطفل ورجل مسيحي واحيائي ديانات أفارقة الجنوب. وسبقت منظمة اليونيسيف المجلس الاقتصادي الاجتماعي ودانت تصرف منظمة التضامن المسيحي بأنه سيفتح أبواب ادعاءات لا يمكن اثباتها طلباً للمال الذي توفره المنظمة، ودعت لإنهاء أسباب الحرب الاهلية في جنوب السودان بالحوار لأنها أساس مثل هذه الادعاءات التي ليست لها اثباتات موضوعية. وأصدر مجلس شؤون العلاقات البريطانية - السودانية في 1999 كتاباً بعنوان: الحقائق حول ادعاءات العبودية في السودان، فنّد فيه ادعاءات منظمة التضامن المسيحي بنوعييها البريطاني والدولي، وناقش باستفاضة كل التقارير التي وردت في هذا الشأن، ورد الأمر الى مجرد صراعات واشتباكات عسكرية بين بعض العشائر الجنوبية تؤدى الى أسر بعض الأفراد أو اخذهم رهائن للمساومة بهم وصراعات أخرى بين عشائر افريقية وعربية شمالية يُؤْسر فيها بعض الناس من الطرفين ثمناً للاتفاق في أسباب النزاع. * وإيضاحاً لحقيقة ان اشتباكات العشائر ينتج عنها أسرى ومختطفون ومحتجزون بغرض المساومة بهم في مؤتمرات التصالح بين المتنازعين، نسوق المثال التالي من مؤتمر الصلح بين قبيلتي الدنكا والنوير وهما قبيلتان نيليتان افريقيتيان بينهما صراعات طويلة حول المراعي واشتباكات دموية وأسرى ومختطفون من النساء والاطفال والشباب وقتلى. عُقد هذا المؤتمر في مدينة وونلت في بحر الغزال في منطقة تحت سلطة الجيش الشعبي من 27 شباط فبراير الى 8 آذار مارس 1999 وجلس فيه زعماء وسلاطين القبيلتين تحت رعاية مجلس كنائس السودان الجديد... وكان هدف المؤتمر ان يصفى النزاع المسلح بين القبيلتين الذي استمر سبع سنوات ونصف السنة وجاء في قرارات المؤتمر: قرار أ: البنات اللائي اختطفن ولم يتم زواجهن بعد يُسلّمن لآبائهن أو من يمثلهم فور ان يتم الإفصاح عن مكان وجودهن. قرار ب: البنات اللائي تم زواجهن في الأسر يمكن إعادتهن لعشائرهن إذا كن يرغبن في العودة لذويهن. اما الاطفال نتاج هذا الزواج فيمكن لآبائهم الاحتفاظ بهم مقابل فدية حسب أعراف الدنكا والنوير اذا عادت الأم لذويها. قرار ج: الأولاد والرجال المخطوفون يُفك أسرهم ويلحقون بآبائهم أو أولياء أمرهم فور اكتشافهم. قرار د: تشكل لجنة استقصاء من زعماء القبيلتين لزيارة مناطق الدنكا والنوير للبحث عن الرجال والنساء والاطفال المخطوفين وردهم لذويهم. قرار ه: مناطق الرعي وصيد السمك في الحدود بين القبيلتين تعتبر حقاً مشاعاً للطرفين للاستفادة منها فوراً دون تمييز بين الطرفين. هذه القرارات الصادرة عن مؤتمر الدنكا والنوير اوائل العام الجاري برعاية مجلس الكنائس الجديد ومن دون وجود شمالي تدل الى ان الأسرى والمخطوفين والرهائن أحد مكونات الصراعات القبلية حول المراعي والأراضي الزراعية المطرية ومستنقعات صيد الاسماك وطرق مسارات الظعائن والمراحيل وانتقال الماشية من مورد ماء الى آخر... ويستوى في هذا الجميع ان كانوا عرباً أو أفارقة. وكما قدمت في هذا الاستعراض، ان لهذه العشائر أعراف أو سمّها آداب معاملة تتعامل بها في ما بينها لتوزيع فرص الحياة بينها... ونفس هذه الآداب أو الأعراف تحكم وتنظم خلافاتها بما يحفظ لكل طرف حقه وكرامته... وتبلغ عدالة هذه الاعراف ان نجد في مؤتمرات التصالح بين هذه العشائر عرباً وأفارقة يحقون الحق ويلزمون به أطرافاً اخرى عربية وافريقية. ونجد عرباً وأفارقة يتعاونون في تسديد ديات أطراف اخرى عربية أو افريقية عاجزة عن تسديد الديات التي ألزمت بها لتثبيت دعائم السلام والتعايش في دار ظعنهم. * سفير ووزير سوداني سابق.