العجوز الفلسطينية نعمة شمس 70 عاماً، صاحبة العينين الزرقاوين والسحنة البيضاء، التي كانت جالسة مع جارتها وبضعة من احفادها، امام دكانها الصغير في احد ازقة "حي المهجرين" في مخيم البدّاوي، لم تنل السنون من ظرفها وابتسامتها وهي التي فقدت ثلاثة من اولادها وما برحت تُهجر منذ كانت في السادسة عشرة من عمرها في اول هرب من الموت في فلسطين. تذكر السيدة ان طائرات اسرائيلية اغارت على قريتها "فرادي" قرب مدينة صفد في الجليل الاعلى، عند المغرب، فهربت مع اهلها سيراً في الوعر الى بنت جبيل في لبنان. ولما كانت قريبة لهم متزوجة من لبناني، جاؤوا واقاموا في قرية زوجها، "مزبود" في اقليم الخروب. وكانوا يومها نحو 25 عائلة، مكثوا في البلدة ثلاث سنوات وعملوا كما كانوا يعملون في قريتهم، في الزراعة. ثم انتقلت الى مخيم تل الزعتر في بيروت وتزوجت ابن عمها وكان عمرها 22 عاماً، وانجبا تسعة اولاد 4 اناث و5 ذكور، واقاموا في المخيم 17 عاماً حتى اندلعت الحرب اللبنانية في العام 1976، ففقدت ثلاثة من اولادها وتهجرت الى بلدة الدامور التي كان اهلها المسيحيون هُجِّروا منها. العائلة اقامت في الدامور حتى الاجتياح الاسرائيلي فهجرت بعدها الى البقاع ومنه الى البدّاوي، مع فلسطينيين من مخيم النبطية الذي هدم في العام 1973، حيث حطوا الرحال في خيم وشوادر على تخوم المخيم الذي كان بدأ يفقد تلك الخيم في تلك الفترة بعد طول اقامة، منذ العام 1952 لقاطنيه الاساسيين وهم لاجئو العام 1948 الذين هجّروا من 17 بلدة ومدينة في شمال فلسطين المسمّى منطقة الجليل. الفلسطينيون في مخيم البدّاوي شمال شرق مدينة طرابلس، يعانون ضيق العيش من شدة البطالة التي تصل نسبتها الى نحو 80 في المئة، من عدد سكانه البالغ 18 ألفاً، ومعظمهم يعملون في ورش البناء واعمالها اضافة الى الزراعة وبعض ورش الحدادة. وهذه الاعمال تشهد حالاً شديدة من الجمود تبعاً للركود الاقتصادي الذي يضرب لبنان عموماً، اضافة الى تقليص مساعدات "الأونروا" عن الفلسطينيين ما جعل حالهم المعيشية تسوء اكثر فاكثر. وكيف يؤمنون قوتهم؟ يجيب الدكتور عبدالله عيادي: "اما ان يكون الفلسطيني موظفاً في الأونروا او في الهلال الاحمر الفلسطيني واما ان يكون له قريب مسافر يرسل اليه مالاً". المخيم لم يعد يشبه المخيمات تماماً، اذ اصبحت مساكن الصفيح فيه قليلة جداً، وغدا اشبه بالمناطق الشعبية، وتمدد حتى اتصل بالمناطق القريبة منه في كل الاتجاهات، بخاصة قبالة مدينة طرابلس، حيث شيدت بنايات جديدة معظم قاطنيها فلسطينيون اشتروا فيها شققاً غداة حرب الخليج بعدما عاد قسم كبير منهم الى لبنان. اما مباني المخيم، الذي اقيم على مدخله حاجز للقوات السورية العاملة في لبنان، فبنيت في مراحل طويلة تماشياً مع ازدياد عدد افراد كل عائلة، فكان كل مسكن صفيح يستبدل به آخر من الاسمنت ويشهد مراحل من ازدياد الغرف فيه ثم راحت ترتفع لتصل الطبقات الى ثلاث او اربع. وهي متاخمة وملاصقة بعضها لبعض. وحال البناء هذه تنسحب على مخيم نهر البارد الذي يبعد عن البدواي نحو 15 كيلومتراً، اذ شهد حركة عمرانية كبيرة، في وسطه ومدخليه الشمالي والجنوبي، ولم يعد فيه الا بضعة من مساكن "المهجرين" صفيحاً، والبقية اسمنت على مساحته التي تبلغ نحو اربعة كيلومترات مربعة، تفصلها الطريق الدولية المؤدية الى سورية. وغدت الطريق هذه، التي يبلغ طولها نحو كيلومتر، منذ انشئ المخيم في الخمسينات سوقاً تجارية تبعها امتداد في ازقة المخيم، يمنة ويسرة، تبدو طويلة جداً من شدة اكتظاظ المتسوقين والمتبضعين الذين ليسوا من الفلسطينيين فحسب، بل من اللبنايين والسوريين. واسهمت السوق هذه، لقرب المخيم من سهل عكار، في تحسين اوضاع الفلسطينيين طويلاً الى ان شق الاوتوستراد الدولي خارج المخيم وحوّل السير اليه قبل نحو عشر سنوات فخفت حركته بعدما اصبح شبه مستقل ولا يدخله الا من قصد ذلك. لكن وضعه الاقتصادي والمعيشي لا يزال افضل من وضع البدّاوي. ولا يزال كثر يقصدونه للتبضع لان الاسعار فيه ارخص وفيه كل شيء في محال تجارية بعضها عني اصحابها بديكوراتها وواجهاتها وبخاصة محال الصاغة والملابس، وبعضها لا يزال على حاله تفترش بضاعتها الارض وواجهات قديمة. ويقول بائع الخضر "ابو خليل" 70 عاماً ان "زبائن السوق لبنانيون وسوريون وفلسطينيون ويقصدونها لان الاسعار فيها ارخص خصوصاً ان الوضع "تعبان" ولا اموال مع الناس". النساء ايضاً يبعن بقولاً جئن بها من سهل عكار حيث تعمل كثيرات منهن فيه في مقابل خمسة آلاف ليرة يومياً، والرجال يعملون في الزراعة والبناء وصيد السمك. حال الناس في البارد لا تختلف عنها في البدّاوي فهم من فلسطينيي ال48، لكنه اكبر وفيه نحو 40 ألف نسمة من 47 بلدة ومدينة في شمال فلسطين، وسميت احياء المخيم باسماء القرى ومنها "الدامون"، و"صفوري" و"سعسع" و"بيسمون". هذه من الاحياء الاساسية في المخيم واناسها اقارب وعائلات ما يجعلهم مترابطين في شكل عشائري اضافة الى محافظتهم على عادات وتقاليد حملوها معهم من بلدهم وخصوصاً ما له علاقة بالاعراس وأغانيها وطقوسها. ارض مخيم البارد مساحتها نحو اربعة كيلومترات مربعة استأجرتها الأونروا في الخمسينات من "آل المرعبي" لمدة 99 عاماً، وكان عدد سكانه في حينه 1952 نحو 5600، وشهد نسبة تزايد سكاني كبيرة والمعدل الوسطي للعائلة سبعة افراد. وقال ابو خالد ان عائلة ابيه حين جاء كانت خمسة افراد "اما اليوم فأصبحنا 182 فرداً". وكنا نتزوج على مبدأ "زوج ولدك، فيأتي ولده ورزقه معه". سلطة المخيم لا ظهور مسلحاً بارزاً في المخيمين على رغم وجود مراكز لنحو عشرة تنظيمات فلسطينية. وكل مخيم قسم قطاعات. فالبدّاوي فيه اربعة والبارد ستة، تديرها سلطة ذاتية تسمى "اللجان الشعبية" وهي مختارة من اعيان كل مخيم وتنظيماته وتعنى بشؤون المخيم كافة فهي "شكل من اشكال البلدية"، كما يقول امين سر اللجنة الشعبية في البدّاوي الحاج ابو خالد. ويوضح أنه "في الظرف الذي حدث فيه فراغ شكلت لجان شعبية من المجتمع المحلي تهتم بشؤونه الحياتية وفيه لجان لشؤون الأمن والاعلام والانشاءات والمياه والكهرباء والصحة والاجتماع والتربية والرياضة والمساجد". وعن مهمة اللجنة يقول "الاتصال بمؤسسات الدولة اللبنانية والمؤسسات الانسانية العالمية اضافة الى توفير امن المخيم من خلال لجنة تمثل التنظيمات الفلسطينية تعمل على فض الخلافات في المخيم وتنفيذ قرارات اللجنة الشعبية اضافة الى التنسيق مع القوى الامنية اللبنانية والسورية في المنطقة". اما الأونروا فتهتم بالقضايا الانسانية والتربوية والصحية والنظافة لكن الناس يعتبرون ان مشكلتهم "اليومية والاساسية هي مع الأونروا لانها قلصت خدماتها في شكل كبير، فهي تعطي اعاشات غذائية دائمة وعشرة دولارات لكل فرد، كل ثلاثة اشهر، ل600 عائلة في البدّاوي بعدما كانت توزعها على كل سكانه. الاصليون 14276، والمهجرون 2412. وتوفر الأونروا التعليم المجاني لنحو 2460 تلميذاً في المرحلتين الابتدائية والتكميلية في البدّاوي ولنحو خمسة آلاف تلميذ في البارد. اما طلاب الثانويات الفلسطينيون فلا احصاء لهم لان الأونروا لم تبن ثانوية في الشمال ولا تغطي اكلاف التعليم الثانوي ما يجعل الاهالي "يدفعون بعض اولادهم الى العمل ليعلموا واحداً في الثانوية". وفي المخيمين نسبة جيدة من المتعلمين وبخاصة في مجالات التعليم والتمريض والطب والهندسة والمحاماة. وفي الشأن الصحي فتغطي الأونروا 400 سرير لفلسطينيي الشمال في حين انهم يحتاجون الى 600. ويقول بعض المطلعين ان "بعض المرضى الذين يحتاجون الى عمليات جراحية ينتظرون عاماً على اللائحة لنؤمّن لهم سريراً وبعضهم يموتون قبل اجرائها". وفي المخيمين مراكز طبية ومستوصفات وعيادات متواضعة اضافة الى مستشفى صفد في البدّاوي الذي رممته وجهزته الدول المانحة فبدا احدث ما يوجد في المخيمين واكثرهما نظافة وتنظيماً. وعن المستشفى قال المدير الاداري محمود الراشد انه الوحيد للفلسطينيين في الشمال وهو يعالج شهرياً نحو 200 مريض سريري اضافة الى ما يعالجه في الاقسام وهي: 1000 حال طوارئ، و350 حال تصوير اشعة، 400 حال مختبر، ونحو 70 ولادة اضافة الى العمليات والمعاينات"، مؤكداً ان "80 في المئة من سكان البدّاوي والبارد يعالجون في هذا المستشفى، وأن اسعاره زهيدة ومن لا مال معه لا نطالبه بالدفع". المخيمان انخرطا في جوارهما في شكل كبير لناحية المصاهرات والسكن اذ يقيم فيهما لبنانيون يستأجرون منازل في مقابل 150 دولاراً شهرياً. والناس تداخلوا بعضهم مع بعض خصوصاً ان الفلسطينيين في المخيمات يلتقي انتماؤهم الطائفي مع انتماء سكان المنطقة وبالتالي لم تدخل سكان مخيمات الشمال في الصراع الطائفي اللبناني اثناء الحرب كما دخلت مخيمات اخرى. ومخيما الشمال، ايضاً، شهدا حالات هجرة لكنها "ليست كبيرة كما في سواها من المخيمات". ويقول الدكتور عبدالله العيادي ان "لا احصاءات دقيقة عن الهجرة. لكن هناك عائلات كاملة هاجرت الى دول اوروبية وخصوصاً اسكندينافية، وهناك عائلات هاجر بعض افرادها وىؤمنون عيش اهاليهم هنا. وهناك هجرة الشباب وهي النسبة الأكبر وتتفاوت اعمارهم بين 19 عاماً و25. وهجرتهم بحثاً عن المستقبل غير الموجود هنا، ومعظم الشباب هنا يعيشون في المجهول".