تشكل هجرة الشباب الجامعي منذ مطالع التسعينات والى اليوم، دلالة صارخة على عجز الحكومات العربية المتعاقبة عن احتضان ابنائها واستثمار ما لديهم من طاقات وامكانات واعدة، كما تشكل ايضا ظاهرة سلبية تنم عن حالة احتقان مزمنة، اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا نتيجة تردي الاوضاع المعيشية وصعوبة التحصيل الجامعي، المهني والاكاديمي، وضآلة فرص العمل وانسداد آفاق المستقبل. وهم لذلك اي الشباب لم يوفروا سفارات الدول المانحة للهجرة رغم ذلك الانتظار والتسكع على ابوابها الى ان استقرت بالمحظوظين، ربما، الحال في هذه الدولة او تلك. وكانت مونتريال احدى ابرز المحطات التي تستضيف اليوم حوالي خمسة آلاف طالب وطالبة نظرا لوفرة جامعاتها وتعدد لغاتها ومكانتها العلمية والتكنولوجية الراقية فضلاً عما تقدمه للحائزين على تأشيرات هجرة دائمة من منح وقروض مالية وضمانات اجتماعية وصحية وما توفر للخريجين من فرص عمل ثمينة على مدى اتساع سوق العمالة في الشمال الاميركي كندا والولايات المتحدة. يشار الى ان الطلاب العرب يتوزعون اليوم تبعاً لثقافاتهم الاجنبية واختصاصاتهم الاكاديمية، على خمس جامعات ثلاث منها فرانكوفونية هي جامعة مونتريال um وجامعة كيبك في مونتريال uqam وجامعة لافال laval واثنتان انغلوفونيتان هما جامعتا ماغيل وكونكورديا macgil et concordia. وينخرط الجميع في رابطات طالبية تهدف الى لم شملهم وتعزيز حضورهم الجامعي والتعريف بقضاياهم الوطنية والقومية وابراز اللمعات المضيئة من تراثهم الفكري والثقافي والفني والادبي والفلكلوري. بكلمة هم اشبه بسفراء غير معتمدين من احد لا يبتغون سوى مرضاة اوطانهم يؤدون رسالتها علهم يؤسسون لغد عربي انساني تقدمي افضل اذا ما عادوا ذات يوم الى ديارهم. جمعية الطلاب اللبنانيين في جامعة مونتريال: يعود تاريخ نشأتها الى اواسط السبعينات، الا ان فعاليتها ظلت محدودة تبعاً لضآلة عدد المنتسبين اليها من جهة وتواضع نشاطاتها من جهة اخرى. وقدر لها ان تستأنف تنظيمها بفعالية اكثر في مطالع التسعينات ابان "حرب عون" التي دفعت بموجات من اللبنانيين الى كندا كان من بينهم جامعيون وطلاب آخرون اصبحوا اليوم على مشارف تخرجهم. بلغ عدد المهاجرين حوالي 15 الف لبناني وهو أعلى رقم سجلته دوائر الهجرة الكندية حينذاك. وتضم الجمعية حوالي 300 طالب وطالبة موزعين على مختلف الكليات، بعضهم، كسائر اللبنانيين الآخرين، يتابع دراسة الطب بفروعه او الالكترونيات او المعلوماتية او ادارة الاعمال او الهندسة او الحقوق. ولها نظام داخلي وهيكلية ادارية تتألف من لجان متخصصة وتضم طلاباً من مختلف الطوائف اللبنانية دون ان يكون لنشاطاتها اية صلة بالشأن السياسي اللبناني او الكندي. والى ذلك فهي تسعى لتأسيس لوبي لبناني جامعي يهتم باحتضان الوافدين الجدد لتسهيل معاملاتهم وتوفير السكن لهم في الاماكن القريبة من الجامعة وتزويدهم بكافة المعلومات والخبرات والانظمة والمناهج الجامعية. ويقم معظم الطلاب اللبنانيين مع ذويهم وقد اصبحوا بمرور الزمن من حملة الجنسية الكندية ما عدا قلة منهم حوالى 2 في المئة يدرسون على نفقتهم الخاصة بموجب "فيزا" طالبية مؤقتة وجلهم من الطبقات الميسورة. تبلغ كلفة الفصل الواحد حوالى ثلاثة آلاف دولار وهو مبلغ لا يقارن نسبياً بالأقساط الباهظة في الجامعات اللبنانية الخاصة او في غيرها من الجامعات الاجنبية. يشار الى ان الطلاب الحائزين على اقامة دائمة يستفيدون من المنح والقروض الحكومية ومع ذلك يعملون الى جانب دراستهم دواما جزئياً لتخفيف الاعباء المالية من جهة وللحصول على الخبرة الكندية كضرورة اساسية للعمل لاحقاً من جهة اخرى. تقوم الجمعية منذ سنوات بنشاطات متعددة منها ثقافية داخل حرم الجامعة ندوات ومحاضرات في المناسبات الوطنية اللبنانية او الكندية، ومنها ترفيهية سهرات يتخللها تقديم الوان من الرقص الشعبي والفولكلوري الى جانب وجبات من الاطعمة اللبنانية التي باتت معروفة في الاوساط الكندية مثل التبولة والشيش طاووق والشورما والفلافل وغيرها. ويقول جورج بطرس رئيس الجمعية في هذا الصدد "هذا النوع من النشاطات هو بمثابة رسائل تراثية نقدمها الى اصدقائنا الكنديين وغيرهم من الاثنيات الاخرى كنموذج عما تضج به الحياة اللبنانية من الوان الفن والثقافة والحضارة". ويصدر عن الجمعية مجلة شهرية profil يتولى تحريرها نخبة ممن يلمون جيدا باللغات الفرنسية والانكليزية والعربية، كما لها موقع على شبكة الإنترنت هو بمثابة بنك للمعلومات وضع خصيصا لخدمة اللبنانيين في الوطن وخارجه. وتنفرد الجمعية بتقليد رياضي ثقافي درجت عليه منذ سنوات رالي لبناني rally تشترك فيه 25 سيارة تظللها الاعلام اللبنانية وتصدح من داخلها الاغاني الشعبية ويحصل الفائزون على جوائز قيمة منها تذاكر سفر الى لبنان او الى دول اخرى، ولهذا النشاط ايضا موقع على الإنترنت aelum. ويشير نائب رئيس الجمعية الياس كلاس الى ان ريع الحفلات والنشاطات يرسل الى جمعيات انسانية وخيرية في لبنان. الأندية العربية في جامعتي ماغيل وكونكورديا: تضم هاتان الجامعتان الأغلبية الساحقة من الطلاب العرب الانغلوفون حوالى 2000 طالب وطالبة وتنعمان برصيد اكاديمي عريق لا سيما ماغيل التي تحتل موقعاً مميزاً بين الجامعات العالمية. ويتقاسم الانشطة الطلابية فيهما ثلاثة اندية رئيسية: نادي الطلبة العرب، النادي الفلسطيني، والنادي اللبناني. وعلى الرغم من اهتمام تلك الأندية باقامة الحفلات والسهرات الترفيهية والمعارض الفنية والعروض الموسيقية والغنائية والفولكلورية التقليدية تبقى لافتة هواية الهبوط بالمظلات التي يقيمها النادي اللبناني كل عام بالتعاون مع فريق المظليين الكنديين. وكانت ربى فتال احدى المشاركات في هذه الرياضة التي لا تخلو من الخطورة فان الندوات والمحاضرات والمناظرات الفكرية والثقافية تستحوذ على ما عداها من نشاطات هادفة. ومن ابرز ما انجز في هذا النطاق: ندوة اعلامية نظمها النادي اللبناني مؤخراً واستضاف فيها الصحافي روبير فيسك الذي فضح الممارسات الوحشية التي يمارسها العدو الصهيوني ضد المعتقلين العرب في السجون الاسرائيلية وسجن الخيام. مهرجان ثقافي في جامعة كيبك في مونتريال نظمته الاندية العربية في 30 تشرين الثاني 99 تحت عنوان "دعم حقوق الانسان الفلسطيني أينما كان" وتحدث فيه نخبة من المثقفين العرب امثال هدى سلام مقصود ونوال السعداوي ونهلا عبده وسامي قسطنطين اضافة الى نشطاء كنديين من مناصري حقوق الانسان. مناظرات فكرية وسياسية وعقائدية تعقد بين الحين والآخر بين الطلاب العرب واليهود لا سيما ما يتعلق بقضايا السلام في الشرق الاوسط. تنظيم المظاهرات في المناسبات الوطنية والقومية تأييداً للحقوق العربية حيناً واحتجاجاً على ما يحصل من لقاءات بين بعض المسؤولين الكنديين والاسرائيليين حيناً آخر. الروابط المغاربية: تعتبر الهجرة المغاربية الى كندا، رغم كثافتها نسبياً، في عداد الهجرات الحديثة لا يتعدى عمرها عقداً من الزمن الجالية المغربية 13 الفاً، والتونسية 8 آلاف والجزائرية 10 آلاف وفقاً لمصادر قنصلياتها في مونتريال. وتضم هذه الجاليات بضعة آلاف من الطلاب الجامعيين الذين يتابعون دراساتهم اما بموجب منح حكومية عائدة لاختصاصات معينة واما بموجب اتفاقات دولية مع حكومة كيبك واما على نفقتهم الخاصة. يشار الى ان وجهة الطلاب المغاربة كانت تقليدياً باتجاه فرنسا الا ان لجوء هذه الاخيرة الى تشديد اجراءات الهجرة في السنوات الاخيرة الماضية دفعت هؤلاء الى اختيار كيبك كرئة فرانكوفونية بديلة. احد الاساتذة المغربيين عبدالرحمن البولادي خريج جامعة كيبك في مونتريال ويدرس فيها حاليا اعد دراسة مفصلة حول البعثة العلمية المغربية في جامعات مونتريال اشار فيها الى وجود حوالي 1650 طالباً بينهم 22 في المئة اناثاً و78 في المئة ذكوراً، وان 20 في المئة من هؤلاء يحملون الجنسية الكندية فضلاً عن جنسيتهم المغربية، و26 في المئة مقيمون دائمون و54 في المئة حائزون على تأشيرة طالبية. كما ان 27 في المئة يحضرون شهادة البكالوريوس ليسانس و31 في المئة ماجستير و29 في المئة دكتوراه يعمل بعضهم كمساعد استاذ بمعدل 30 في المئة لتخفيف الاعباء المالية و13 في المئة شهادات متنوعة. اما فروع التحصيل العلمي فتتوزع على 17 في المئة فنون و76 في المئة علوم و7 في المئة لسانيات وانسانيات. وفيما عنى مصادر التمويل فهي 8 في المئة على نفقة البرامج المشتركة بين حكومتي كيبك والمغرب تقلص نفقات التعليم من 20479 دولاراً الى 8700 دولار و2 في المئة منح دراسية تقدمها حكومة المغرب وتشمل نفقات التعليم والاقامة والسفر، و33 في المئة على نفقة الطلاب وذويهم المقيمين في كندا او المغرب و12 في المئة على نفقة الحائزين على فيزا حرة. وتتوزع نشاطات الطلبة المغربيين على عدة جمعيات اهمها: "جمعية فضاءات المغرب" في جامعة مونتريال - بوليتكنيك، والجمعية العلمية المغربية راسما rasma في جامعة لافال. ومن ابرز الانجازات التي حققتها تلك الروابط اقامة المؤتمر السنوي للعلوم البيولوجية وايصال احدى الخريجات المغربيات هدى بابان papin الى عضوية البرلمان الكندي عن الحزب الفيدرالي. اما الطلبة التونسيون فانهم يشكلون ثقلاً أساسياً في جامعة مونتريال حوالى 700 طالب بينهم 30 في المئة طالبات وينضوي معظمهم في جامعة التونسيين في مونتريال aetm وهي فرع للجمعية الأم في اميركا الشمالية، تأسست عام 1993 ومعترف بها رسمياً من حكومة كيبك. ويشرف على الطلبة التونسيين منسق خاص من قبل الحكومة التونسية د. كمال ابراهام وهو صلة الوصل بين الطلاب والجامعات والحكومة المغربية. ومن ابرز النشاطات التي تحدث عنها رئيس الجمعية وليد رجوي، حفل الاستقبال والتعارف للوافدين الجدد 25 ايلول/ سبتمبر الماضي ورحلات ترفيهية الى شلالات نياغارا في تورنتو ومؤتمر حول السياحة التونسية الى ما يحضر لاحياء سهرة العيد الوطني التونسي في 27 تشرين الثاني الجاري. يشار الى ان الجامعات الكندية قد خرجت العام المنصرم اعلاماً تونسيين بارزين امثال يسر قطوم نال جائزة افضل اطروحة دكتوراه في علم الاقتصاد وقلده الرئيس التونسي وسام الشرف تقديراً لتفوقه والدكتور محمود رواد الذي حقق انجازاً علمياً في الجراحة الجلدية. اما البعثة الجزائرية وان تضاعفت اعدادها جراء حالة العنف فهي على غرار مثيلاتها المغاربيات يتوزع طلابها على الجامعات الفرانكوفونية وفقاً للآليات ذاتها، ويقتصر نشاطهم على ما يصدرونه من مجلات فصلية، وباللغة الفرنسية، كوسيلة للتواصل الثقافي والاعلامي والوطني فيما بينهم. واللافت في البعثات المغاربية خلافاً لسائر الطلاب العرب، ذلك التنسيق والوعي المتبادل بين الطلبة وحكوماتهم لأهمية التعايش بين الانظمة التعليمية وانظمة العمالة فضلاً عن تلازمهما كضرورة قصوى لمواجهة تحديات التنمية والنهوض الوطني ومواكبة ما قد يتمخض عن عصر العولمة في الحقبة الزمنية المقبلة. الا ان ما يعيب الجميع تلك النزعة القطرية المتأصلة حتى في نفوس الشباب والتي على ما يبدو انها امتداد للحال القطرية العربية الراهنة والمعادية لأي نزوع قومي وحدوي.