عاد الجدل حول فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 الى الواجهة، وهو الجدل الذي لا يكاد يتوقف، حتى ينطلق من جديد، وكانت آخر جولات الحوار حول الموضوع قد تواكبت مع الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة والمشاركة العربية فيها، خصوصاً عندما بادر احد العرب عزمي بشارة الى ترشيح نفسه لمنصب رئيس الوزراء. محطة الجدل الاخيرة جاءت على خلفية مختلفة، ففي الوقت الذي غابت فيه العمليات الاستشهادية، كانت سيارتان مفخختان تنفجران في طبريا وحيفا في مطلع ايلول سبتمبر الماضي، سبقهما مقتل شاب اسرائيلي وصديقته في غابة مجدو، وكان منفذو العمليات الثلاثة من الشباب الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية، المنضوين تحت لواء الحركة الاسلامية في الأراضي المحتلة عام 48. شكلت العمليات الثلاث مفاجأة لكل الاوساط السياسية والشعبية على الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني، وأثارت جدلاً لم يتوقف حتى الآن حول طبيعة ومستقبل الوجود الفلسطيني داخل ما يسمى الخط الاخضر، ودور هذا الوجود في صياغة المستقبل الفلسطيني، اضافة الى دوره بعد انجاز عملية التسوية، على المسار الفلسطيني، ثم على المسارات الاخرى، وبالتالي اندماج "اسرائيل" في المنطقة، كما يقال. ثمة عوامل اخرى اضافت للجدل نكهة خاصة، تمثلت في زيادة التمثيل العربي داخل الكنيست الاسرائيلي، كماً وكيفاً، وان بقي ذلك التمثيل محدوداً، ومن النوع الذي لا يؤثر واقعياً في مسار القرار السياسي الاسرائيلي، كما تبدى في تجاهل باراك للكتلة العربية اثناء مشاوراته لتشكيل الحكومة. ما جرى على صعيد طبيعة التمثيل الفلسطيني في الكنيست لم يكن من النوع الذي يعزى الى المصادفة، بل هو من النوع المقصود، ولعل ابرز ما يمكن الاشارة اليه هو وصول المحامي عبدالمالك الدهامشة، عضو الحركة الاسلامية، التابع لما يسمى الجناح المعتدل بقيادة عبدالله نمر درويش، الى منصب نائب رئيس الكنيست، ثم تعيين نواف مصالحة نائباً لوزير الخارجية، وطلب الصانع عضواً في لجنة الخارجية والأمن، وهاشم محاميد رئيساً للجنة مكافحة المخدرات. هذا الوضع شجع قسم القوى البشرية في الجيش الاسرائيلي على بلورة خطة تهدف الى تشجيع تطوع المواطنين العرب في صفوف الجيش، وهو التوجه الذي ذكرت المصادر الاسرائيلية انه قد بات في حكم الواقع. وجهة الجدل اسرائيلياً قبل قراءة واقع الجدل في الأروقة الاسرائيلية حول الوجود العربي في المجتمع الاسرائيلي اثر العمليات المذكورة، تمكن الاشارة الى ان اسئلة مستقبل ذلك الوجود كانت تتواصل في الدوائر الاسرائيلية، وكان البحث الاكاديمي الذي اعده مركز "بار إيلان" للبحوث حول القضية، نموذجاً لذلك الاهتمام، وقد طرح البحث جميع الخيارات والاحتمالات الخاصة بمستقبل الوجود العربي من خلال ستة آراء اسرائيلية يسارية ومثلها من الفلسطينيين الاسرائيليين، وقد نتج عن هؤلاء سبعة سيناريوات لا يبدو ان أياً منها يملك فرصة في الواقع، باستثناء الاول، وهو "استمرار الوضع الراهن". على خلفية العمليات كان الجدل الاسرائيلي مركزاً حول سؤال ما العمل؟ وقد جاء الرد من المتطرفين مثل رحبعام زئيفي، محذراً من "حرب اهلية"، لا مجال للحيلولة دونها سوى باقتلاع "جذورها المسماة بالحركة الاسلامية". فيما طالب آخرون الأقلية العربية بالمشاركة في محاربة "التربة التي تنمو فيها تلك الأعشاب الضارة"، والمقصود بذلك هو جناح الشيخ رائد صلاح في الحركة الاسلامية، والرأي المذكور تبناه كثيرون، ومنهم يهوشاع فورات نشره في صحيفة "معاريف". الرأي الأمني كان متطرفاً ايضاً، فقد مال الى "المواجهة الشاملة"، حيث اوصت الأجهزة الأمنية بإغلاق المؤسسات الخيرية السابقة للحركة الاسلامية، وإغلاق منابرها الاعلامية، اضافة الى الملاحقة الأمنية لرموز ونشطاء الحركة. الرأي الثالث، جاء من اليسار وأركان في الحكومة، ويحاول البحث عن سبل معالجة "التطرف" في اوساط الفلسطينيين، وذلك باقتلاع اسبابه، ورأى هؤلاء حسب تقرير خاص أعد في مكتب رئيس الحكومة ونشرت ملامحه صحيفة "معاريف"، ان "الحركة الاسلامية تتغلغل عبر الصدع الذي تحدثه الحكومة الاسرائيلية وسط الضعفاء، وخاصة البدو…". اشار رون بن يشاي في "يديعوت أحرونوت" الى "الظلم الذي لحق بالأقلية العربية"، موضحاً ان "اسرائيل التي لم تمنح كل مواطنيها خدمات صحية وتعليمية واجتماعية، غير قادرة على اتخاذ خطوات متشددة ضد الاسلام المتطرف الذي يقدم الخدمات للمحتاجين وفي نفس الوقت يحولهم الى جنود". المسار الذي اختارته حكومة باراك كان مختلفاً، اخذ من هنا وهناك، ففي الجانب المعلن، كان هناك توجه بتحسين اوضاع الأقلية العربية في اسرائيل، بيد ان الأهم من ذلك هو تعزيز مراقبة انشطة الحركة الاسلامية والمؤسسات التابعة لها، وملاحقتها بصورة قانونية، عبر الرقابة على وارداتها ومصاريفها المالية، اضافة الى مراقبة اعلامها وملاحقة "تجاوزاته" قانونياً ايضاً. اما المسار السري فيركز على اختراق الحركة الاسلامية متابعتها من الداخل، وهو ما يتكفل به جهاز الشاباك، مكرراً أدواراً مشابهة لنشاطه مع جهاز "الشين بيت" في الضفة الغربية وقطاع غزة. لعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، لماذا لم تختر الحكومة مسار "المواجهة الشاملة" الذي طرحته الأجهزة الأمنية؟ من الواضح ان باراك وجنرالاته قد حسبوها جيداً على الصعيد الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي، ستفسر العملية على انها "حرب دينية" او حرب ضد الأقلية العربية بمجملها، حتى لو ركزت على قطاع معين من الحركة الاسلامية، خصوصاً وان حضور هذا الجناح ليس بسيطاً في الشارع. اما الجانب الآخر، فهو المتعلق بالمخاطر الأمنية. وعلى هذا الصعيد، فقد حذر الدكتور إيلي ريخس من جامعة تل أبيب من مغبة اعتبار الحركة الاسلامية منظمة غير قانونية. وقال في حديث للتلفزيون الاسرائيلي، ان ذلك سيدفع "النواة الصلبة" للحركة، وهم بالآلاف، الى اللجوء للعمل السري، مع ما يحمله ذلك من نتائج سلبية على الصعيد الأمني. على الصعيد الخارجي، وجدت حكومة باراك ان خيار "المواجهة الشاملة" سيخرّب مساراً عملت عليه كل الحكومات الاسرائيلية وتعزز مؤخراً، ويتلخص ذلك المسار في جعل الوجود العربي في "اسرائيل" مادة للتطبيع مع المحيط العربي، فيما سيؤدي خيار المواجهة الى تخريب التسوية وكل عمليات التطبيع التي ستشكل محور النشاط الاسرائيلي الأبرز خلال المرحلة القادمة. الجدل على الجانب الفلسطيني في الأوساط الفلسطينية دار جدل مماثل على خلفية العمليات الثلاث، سواء في الاوساط الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 48، ام في مناطق السلطة والشتات. بالنسبة للشق الأول، يمكن القول ان ادانة ما جرى والتبرؤ منه كان عماد الموقف الفلسطيني، وكان موقف عبدالله نمر درويش هو الأكثر تطرفاً. وبالطبع فقد كان ذلك متوقعاً ومفهوماً الى حد ما. في "حماس" القوة الاقرب الى الحركة التي خرج منها منفذو العمليات، كان هناك توضيح لعدم وجود علاقة معهم، اضافة الى توضيح آخر يؤكد استمرار سياسة الحركة في ما يتعلق بالعلاقة مع فلسطينيي 48، والقائمة على عدم تجنيدهم في العمل العسكري. وقد كان ذلك مفهوماً من قبل "حماس" ايضاً، مع ان العاملين في الجهاز العسكري لم يكونوا ليوفروا دعماً من اولئك النفر لو وجدوا بسبب ما يعانونه من حصار في مناطق السلطة. بيد ان الموقف المعلن كان ضرورياً حتى لا يعطي مزيداً من المبررات للاسرائيليين لملاحقة الشيخ رائد صلاح وأصحابه. اوساط السلطة وأصواتها الاعلامية أدانت الاعمال الارهابية ونددت بمحاولة البعض العبث بالدور الذي يلعبه فلسطينيو 48 في النضال من اجل تحقيق الآمال الفلسطينية، وكان هذا متوقعاً ايضاً، فالذي يدين المقاومة في المناطق المحتلة عام 67، سيدينها من باب اولى في مناطق 48! ماذا بعد؟ اسرائيلياً، سبقت الاشارة الى المسار المتوقع لمعالجة الشأن الفلسطيني داخل الخط الأخضر، مع ان من السابق لأوانه الجزم باحتمالات المستقبل، في ما يخص طبيعة الوجود والعلاقة معه، وليس ملف الحركة الاسلامية فقط، بيد ان مسار الدمج والتذويب من خلال ملاحقة الاسلاميين، و"أسرلة" المجتمع الفلسطيني سيبقى قائماً على كل الاحوال. فلسطينياً، ستعتمد اسئلة المستقبل على وضع التسوية ومسارها المحلي والاقليمي، ولا شك ان استمرار التركيز على "الهوية" الفلسطينية والعربية والاسلامية ينبغي ان يتواصل، واذا كان الاسرائيليون يستخدمون الأقليات اليهودية في العالم كعناصر اسناد للمشروع الصهيوني، فلماذ لا تكون الأقلية العربية عنصر اسناد للمشروع العربي في صراعه مع المشروع الصهيوني، الذي سيتأكد اكثر خلال المرحلة المقبلة. واذا كان الاسرائيليون يأملون في تحويل اولئك القوم الى عربة متقدمة للتطبيع واختراق المحيط العربي عملياً ونفسياً فان الأصل ان يحدث العكس. ومن هنا تبرز مخاطر طرح أنصار التسوية القائم على مزيد من دمج الفلسطينيين في المجتمع الاسرائيلي ومؤسساته السياسية، وهو الدمج الذي لن يؤثر في مسار القرار الاسرائيلي، فيما هو يذوّب الفلسطينيين ويعمل على فقدانهم لهويتهم بالتدريج. الاشكالية هي اذن، بين فريقين: الأول يرى ان التسوية ورخاءها على الأبواب، وآخر، يرى ان الصراع سيتواصل، وينبغي ان يستدعى كل عناصر القوة فيه، وفلسطينيو 48 هم احد تلك العناصر، ان لم يكونوا من اهمها. * كاتب سياسي من الأردن.