بمجرّد ورود إسمه في التحقيقات القضائية حول الفساد في ادارة إحدى شركات التأمين الطلابية المقرّبة من الحزب الاشتراكي الفرنسي "ام. ان. اي. اف."، عمد وزير الإقتصاد والمالية الفرنسي دومينيك شتروس - كان على الاستقالة من منصبه. فقد اعتبر أنه من غير الممكن ومن غير المقبول ان يستمر في تولّي إحدى أهم الحقائب الوزارية في الحكومة، وفي تمثيل بلاده لدى المؤسسات المالية الدولية، وسط الشبهات المحيطة به حول تقاضيه مبلغا من المال من "ام. ان. اي. اف." لقاء عمل لم يقم به بالفعل، عندما كان لا يزال يمارس مهنة المحاماة. وبتفضيله الاستقالة، آثر العمل على مواجهة التهمة الموجّهة اليه بصفته مواطنا عاديا لا يتولّى أي منصب مسؤول. لكن هذه الإستقالة لم تكن مجرّد إنتكاسة، في إطار سيرة شتروس - كان الذي كان يعتبر بمثابة النجم الصاعد في الوسط السياسي الفرنسي عموما، نظرا لبراعته وقدراته، بل أدّت أيضا الى زعزعة أركان الحكومة الفرنسية. فشتروس - كان خلّف وراءه ورشة إقتصادية كان بدأها لدى توليه منصبه قبل حوالي عامين ونصف العام، وأسفرت عن نجاحات عدّة ليس أقّلها إعادة تنشيط الوضع الإقتصادي الفرنسي بعد سنوات من الركود، والسيطرة على العجز في الموازنة، وإتمام عملية دخول فرنسا في ال"يورو". فقدرته على التخطيط والإقناع، مستفيدا من جاذبيته الشخصية، جعلته يحظى بثقة الفرنسيين وبثقة الأوساط المالية والإقتصادية الدولية. كما ان مغادرته الحكم أضعفت رئيس الحكومة ليونيل جوسبان الذي تربطه به علاقة ثقة وصداقة وثيقة، وحرمته ركنا أساسيا من أركان حكومته، ومن توجهات لعبت دورا مؤكّدا في تدعيم وتعزيز شعبية الحزب الاشتراكي الفرنسي. كان من الطبيعي، إذن، أن يصاب الوسط الحكومي بحالة من البلبلة والتشوّش، لكن الأمور لم تقف عند هذا الحدّ بل تحولّت الى توتّر داخل التحالف الحكومي اليساري الذي يتزّعمه الاشتراكيون بعد تصريحات أدلى بها النائب الشيوعي ماكسيم غريمتس، وأكدّ فيها استفادة شتروس - كان وغيره من المسؤولين الاشتراكيين، من وظائف وهمية لدى شركة "ام. ان. اي. اف.". فاضطّر الأمين العام للحزب الشيوعي روبير هو للتدخّل وضبط الوضع، بدفع غريمتس للتراجع علنا عمّا كان صرّح به. وفي غضون ذلك، تحوّل التعايش الهادىء اعتياديا بين جوسبان ورئيس الجمهورية الديغولي جاك شيراك، الى توتّر غير معهود، بعد أن سعى رئيس الحكومة الى تطويق المزايدات اليمينية على قضية شتروس - كان بالتلميح الى الأساليب غير الشرعية التي اعتمدها حزب "التجمّع من أجل الجمهورية" الديغولي، للحصول على تمويل. فجاءه الردّ من قصر الأليزيه داعيا إيّاه الى ان يتمالك نفسه، ولا يخرج عن صوابه. والواقع أن القضاء الفرنسي، ومن خلال قضية شتروس - كان، أدّى بالجميع في فرنسا لأن يخرجوا عن صوابههم، مما كان يمكن ان يفضي الى نتائج خطرة لولا متانة المؤسسات الفرنسية. فالتطورات أكدّت مرة أخرى مدى النفوذ الذي اكتسبه القضاء الفرنسي، منذ تكريس مبدأ استقلاليته التامة قبل حوالي عشر سنوات، ومدى قدرته على التأثير على السياسيين والمؤسسات السياسية. وهذه الإستقلالية كانت أُقرّت لمنع أي تواطؤ أو ممالأة بين الجهاز القضائي وأعضاء الطبقة السياسية، ومع مرور الوقت اكتسب القضاء في ظلها قوة وسلطة جعلا السياسيين يعتبرونه بمثابة سيف مسلّط باستمرار فوق رؤوسهم. فقضية شتروس - كان سبقتها قضايا عدّة أخرى طالت وجوها ومسؤولين بارزين من مختلف الإتجاهات السياسية، ومنهم وزير الخارجية السابق رولان دوما اشتراكي والوزيران السابقان آلان كارينيون وجيرار لونغيه يمينيان ورئيس الجمعية الوطنية البرلمان لوران فابيوس، فيما يرد اسم شيراك نفسه تكرارا لدى الحديث عن الفساد الاداري في بلدية باريس التي كان يرأسها. ولذا، فهناك اليوم في فرنسا من يتخوّف من أن تؤدّي استقلالية القضاء الى نشؤ وضع مماثل للوضع الذي شهدته ايطاليا في ظل ما أُسمي بعملية "الأيدي النظيفة". ويترافق هذاالتخوّف مع تساؤلات حول حق القضاء في ممارسة استقلاليةٍ باتت تترتّب عليها نتائج على صعيد المعادلة السياسية القائمة في البلاد، وتظهر في ظلّها مؤسسات الدولة وكأنها مطوّقة من قبل أعضاء الجهاز القضائي. والواقع أن القضاء الفرنسي عمل على تكريس استقلاليته عن أي نفوذ سياسي، عبر اعتماده مبدأ مساواة الجميع أمام القانون، من غير ان يُستثنى من هذا المبدأ أي شخصية أو مسؤول أيّا كان موقعه أو أهميته. وبهذا اكتسب القضاء في أوساط الرأي العام ثقةً آلمت السياسيين، باعتباره المؤسسة الوحيدة القادرة على استجابة تطلعاته الى الشفافية والنزاهة في الحياة العامة. وقد يكون من المبالغ فيه القول ان الاستقلالية القضائية أدّت الى نشوء ما بات يسميه البعض "دولة القضاة" القادرة على معاقبة الدولة نفسها، لكن المؤكّد ان القضاة غدت لديهم سلطة تخوّلهم إختيار من هو صالح ومن هو غير صالح لتولّي المسؤوليات