مؤتمر النساء العربيات الذي عقد في القاهرة 23 - 28 تشرين الأول/ اكتوبر الماضي كان أكبر اللقاءات النسوية العربية التي شهدها قرننا وهو يودّع ما تبقى له من ايام. وأثبت المؤتمر قوة التشابك بين قضية المرأة ومفاصل الصراع الدامي الاجتماعي والسياسي والثقافي في عالمنا العربي. ويخال الناظر وهو يشهد طبيعة الصراعات التي تخاض في الخفاء والعلن من خلال موضوع المرأة وعبر المؤتمر، ان ثمة فراغاً تتحرك بين ثناياه عجلة الزمن غير مدركة اهدافها المحددة. فما يبدو متقدماً نحو الامام يمكن ان نلحظ حركته الاخرى الخفية الى الوراء دون ان نحتاج الى كبير كد واجتهاد، في وقت نستطيع ان نلمس بمفارقة واضحة، الطبيعة غير المرئية لحراك اجتماعي ثماره شخصيات نسائية شابة تتميز بالذكاء والالمعية والحضور المستقل عن التيارات الجمعية التي ميّزت توجه قضية المرأة في مصر والعالم العربي عموماً. ولكن تلك الاصوات لم تكن تملك القدرة على التأثير وبقي المؤتمر في بعض جوانبه متحفظاً، تصب جدالاته في الطاحونة ذاتها التي بدأت منها قضية المرأة وانتهت منذ مطلع القرن حتى يومنا هذا، مطية يعتليها السياسيون لتوصلهم الى اهدافهم، وكانت النساء الملحقات بالاحزاب والجهات الرسمية الذراع الضاربة لتنفيذ تلك المهام. ولا يجد المصغي كبير فرق في الخطاب بين المرأة التي يحركها الاصوليون وتلك التي تناصبها العداء في اقصى اليسار او تلك التي تمثل موقف بلدها الرسمي. ويبدو عنوان رواية جين اوستين الكبرياء والتحامل خير معبر عن الحساسية التي تخاض تحت سقفها النقاشات التي تخص التمايز الجنسي في عالمنا العربي، فهناك ترفع واستنكاف يحمله ليس فقط الرجال ازاء الخوض في قضية المرأة، بل النسوة انفسهن، ولقد سمعت احدى الروائيات العراقيات تقول انها لا تطيق حضور مؤتمر من هذا النوع لأنه سيكون اشبه بحمام نسوة، في حين تحدثت روائية لبنانية في المؤتمر ذاته عن ترددها في قبول الدعوة لولا ما تعرضت له من ضغط وتخجيل، لأن تلك القضية في الأساس غير واردة في اعتباراتها الكتابية ولا في تصوراتها الشخصية. وكان على ناقد سوري ان يقدم مداخلة تتحدث عن الخطاب الادبي العربي باعتباره خطاباً بطريركياً سلفياً متخلفاً بقواعده ونحوه وصرفه وكل اصوله، وعندما طوى ورقته وجد نفسه مندفعاً بحماسة ليطلق سهامه نحو الكتابة النسائية التي تحفل بالاخطاء النحوية ولغة البوح والعاطفة مستشهداً بورقة قدّمتها مشاركة باعتبارها نموذجاً لكتابة المرأة. ولا نحسب ان ذلك الناقد على قناعة لا بديباجته عن الخطاب الذكوري ولا بما نقضه عندما تحدث عفوياً عن تعميماته المتعصبة الاخرى. عند هذا الحد يمكن ان ندرك ورطة مؤتمر مثل هذا، فما من قضية تقبل ازدواج المواقف مثل قضية المرأة التي تحمل موروث النظرة المتعالية، في وقت كانت وما زالت قابلة الى الاختزال والتبسيط من قبل مناصريها ومعاديها على حد سواء. وفي مسرى التعصب والحماسة المشبوبة، تمنح تلك اللقاءات بركاتها لمن لا يستحق، فتزيد حرج الجادين في مسعاها. ان الطبيعة السجالية حول هذه القضية تكمن في مسار الصراع الانساني المستحكم بين الارادات منذ الخليقة حتى يومنا، وكلما ضعف الوعي بمفهوم الحرية الشخصية والفردانية واستقلال الانسان وحقه في المساواة، كما الحال في منطقتنا العربية، كلما تحولت هذه القضية الى ورطة لكل من يتقدم نحوها. ولعل اهم عائق يقف امام السجال الدائر حول موضوع التمييز الجنسي في البلدان العربية، ضعف منظومات المعرفة المتعلقة به، فهو من بين القضايا التي لم تؤسس قواعدها للجدل في تكويننا المعرفي، في حين اغتنت المكتبة الغربية ببحوث تعالق فيها موضوع النسوية مع كل مباحث المعرفة الانسانية من اللغويات وعلم النفس والسوسيولوجيا وعلم اللاهوت وكل انواع المعارف. ولم تستطع لغتنا الاستقرار على تعريب محدد لمصطلح ال"Gender" على سبيل المثال، في حين بقيت المصطلحات الاخرى مثل الفامينسم تتحمل الكثير من ممكنات التصور مثل الانوثة، والنسوية وغيرها من تعبيرات تفتقد الدقة وتثير اشكالات في استخدامها. وبقي علم مثل علم اللغويات Linguistics بمنأى عن الاستخدام الحيوي في ما يخص منطق التمييز عربياً، الا ضمن دراسات محددة ومنها دراسة عبدالله الغذامي اللافتة المرأة واللغة التي بقيت شبه معزولة وتحتاج الى اضافات تنطلق من مشتركات التأسيس المعرفي في هذا الميدان الذي تفتقده العربية، في حين احدث هذا العلم ثورة في اساليب المحاججات النسائية وانبنت عليه منظومات متطورة لدراسة منابع التمايز في الانظمة الاشارية للانسان وطرائق السيطرة على الوعي والتحكم في مساره عبر اللغة، تلك الاداة الخطيرة التي لا يمكن بأي حال ان تكون محايدة. ان العلاقة بين اللغة والفكر والواقع تنطلق من مبحث تقصي طرائق صنع الانسان للرموز واستخدامها او اساءة الاستخدام، لتصل الى اهم ثيمة فيها وهي طرق تفسير العالم التي لا تتشابه عند كل البشر. هذا العلم اضحى اليوم احدى الادوات الضاربة في تصنيف الخطاب الانساني فلسفياً واجتماعياً للتوصل الى كشف عطوب نظام الانحياز الاشاري ليس فقط بين الجنسين، بل كل ذلك النظام الذي يخلق السيطرة او السلطة ايا كانت صيغها. الاجتهاد في ميدان اللغويات الحديث ما زال في العربية في اول دربه، وحتى الترجمات في حيزه محدودة وصعبة التحقق. وليس لنا في ميدان الانثروبولوجيا باع طويل، وعلى وجه الخصوص ذلك الذي يدرس اسباب وعلل التمايز بين البشر وحقوقهم، وهو ميدان قطع من خلاله موضوع دراسة العلاقة بين الجنسين اشواطاً مهمة في الغرب. وفي الظن ان ليلى أبو لغد الفلسطينية الاميركية المولد، من المتصديات حديثاً الى هذا الموضوع المهم والحيوي، وربما سبقتها في علم الانثروبولوجيا الوصفية اليزابيث فيرينا التي درست تجمعات نسائية في العراق والمغرب وأميركيات اخريات، وهي مشاريع تطور محاججات النساء العربيات العلمية وتجعل من مطالبهن اكبر من مجرد صرخات نساء ضعيفات تبعث على الضحك والرثاء. وكان البحث في الموروث الروحي بما له من تأثير مهيمن في صياغة التصور عن المرأة في منطقتنا، من بين اكثر التابوات تحريماً. ولنا ان نتخيل امكانات كثيرة لم تستثمر الى يومنا هذا على نحو يناسب اهميتها، لا من قبل المهتمين بدراسة اسباب تخلف المجتمعات العربية وعلل الفرد النفسية فيها، ولا من قبل النساء المهتمات بقضيتهن. * كاتبة عراقية مقيمة في لندن.